جمهورية المرق

في بلادي ينسبون فئة من الناس البسطاء الباحثين عن لقمة العيش إلى الخبز، لكنهم لا يقولون عن الفرد منهم إنّه خبزيّ مثلما تقتضيه قواعد النسبة العربية، بل هم يستعملون لاحقة النسبة الفرنسية فيقولون» خبزيست» فيركبون بين أساس عربي ولاحقة أجنبية.
الخبزيّ أو الخبزيست هو نمط من الناس يشقى من صباحه إلى مسائه، من أجل تحصيل لقمة العيش، التي تسمّى في لغة العامة تسمية رمزية «خبزة». نحن ثقافة خبز بلا منازع، فالخبز لا يغيب عن طعام، ويصعب ألاّ يشتري تونسي في يومه خبزا. من حسن الحظّ أن الدولة دعمت من زمان الخبز مع المواد الأساسية الأخرى.
لا خبز بلا مرق غير أن المرق ليس في متناول الناس جميعا لأنّ من شروطه أن يكون بلحم وهو ليس في متناول الناس جميعا، لذلك يكون مرق عامة الناس شيئا يسمّى الشكشوكة وهو مرق حافٍ بلا لحم. الخبزي اليوم صار تسمية لا تنطبق على الطبقة الفقيرة، بل شمل أيضا كثيرا من أبناء الطبقة المتوسطة الذين صاروا بحمد الله خبزيّين بعد أن تدحرج بهم التصنيف إلى أدنى السلم.
لسنا نروم في هذا المقال الدفاع لا عن هؤلاء الخبزيست، الذين لم يعد لهم غير الخبز والله، وانتظار أجرة آخر الشهر التي قد تتأخر؛ بل نريد أن نفهم كيف تبنى الكلمات في الثقافات اعتمادا على معجم المطبخ وعلاماته، وما هي المصادر الثقافية التي تستمدّ منها هذه الأبنية.
لا يدلّ اسم الخبزيّ على توزع طبقي بالضرورة، بقدر ما يدلّ على نوع من التصنيف للبشر من وجهة نظر معياريّة، تكره أن يكون المرء منشغلا بغير المعاش، لكن ما الذي يمكن أن ينشغل به غير الخبزي من المشاغل التي لا تجعله كذلك؟ غير الخبزيّ يمكن أن يكون عاملا ثوريّا، أو مولعا بالرفض المبني على الحجة. هو لا يسكت عن حقّ فيناكف ويضايق ويناضل، وقد يكون خارجيا لا يأبه لنواميس العمل أو لوضعيته الاجتماعية، ولاسيّما إذا كان يعتقد بأنّ جهده أقلّ من أجره، وأنّه وجد ليتمرّد على الاستغلال. الألفاظ التي تسمّي كلّ هذه السلوكات لا علاقة لها بالخبز، فلماذا كانت هذه العبارة الوحيدة التي نسب فيها الإنسان المنضبط إلى الخبز؟ ليس في الثقافة الإسلاميّة علاقة مقدّسة بالخبز مثلما هو عليه الأمر في المسيحيّة، بعض الأحاديث النبويّة التي فيها حرص على الخبز في الديانة الإسلامية تبدو ضعيفة، أو ذات أصول مسيحية، ويمكن أن يكون فيها ضرب من استرسال قيم دينية قديمة، لا تتعارض مع الإسلام، بعد أن خلصت من قداستها. فقد جاء في الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها، قول الرسول عليه السلام: أكرموا الخبز فإنّ الله تعإلى أكرمه. المقصود بالإكرام في هذا الحديث أنّه سقي بماء السماء، واحتضنه تراب الأرض، فهو جزء من الخلق الذي يمثل في هذا الدين آية كبرى من آيات الخالق. المهمّ أن هذا الخبز ليست فيه أختام، ولا هو من القرابين. فشعوب الصحراء أو شبه الصحراء لا تجعل الخبز طعامها الأساسيّ لأنّها لا تنتج البُرَّ أو الحنطة.
فكرة أكل الخبز من عرق الجبين ليست فكرة شعبية جديدة، هي فكرة دينية قديمة نجد لها ذكرا في الإنجيل، وهي فكرة تربط العمل بالعبادة وتربط الطعام بالعمل، وتجعل المرء مسؤولا عن سعيه بدءا من طعامه. لكن أن يتطوّر الخبزي من هذه الرؤية المقدّسة إلى الرؤية المستكينة، لا يعني أن العمل فقد قيمته، بل إن العمل اليدوي المبني على الكدح لم يعد هو القيمة المطلوبة. إلى حدّ قريب كان الخبز شريفا، يرتبط بالأمم العظيمة، فقد كان ميرابو Mirabeau رجل السياسة الفرنسي، الذي عاش في القرن الثامن عشر يردّد قولته الشهيرة: «إن العمل هو الخبز الطاعم للأمم العظيمة» لكن لا أحد يعرف متى خرج الخبز عن سياق كونه شيئا مقدسا دينيا أو شيئا عظيما سياسيا يمكن أن يصل إليه المرء لينتفع به، أو ليتقرب به إلى المقدّس ليصبح على النقيض من ذلك شيئا بخسا، ينتمي من ينسب إليه إلى أبسط الناس، وربما إلى من انكسرت بهم سلالم الدنيا العليّة.
من أجمل صور الاستعارات التي تعبر عن تطلع العيون عبر الخبز إلى السماء قول Ralph Waldo Emerson إن السماء هي الخبز اليومي للعيون. حين صار للخبز رمز ديني كان يرتبط بملح الأرض فقُدّس وعلا؛ وحين ارتبط باليومي صار جزءا من عرق الجبين، الذي يصرف على أصحاب الأرض أو أرباب العمل.

في جمهوريّة المرق على الخبز أن يكون حارسا على القدر، لا يحرسها كي لا تسرق، بل يحرسها كي يقلّ ماؤها وتنعقد زيوتها وتصبح أكثر قدرة على أن ينقع فيها الخبز.

الخبز في صنعته ماء وملح وطحين ذو لونين ككثير من البشر، لون أبيض ولون أسود ما يزال الأبيض كالبشر مقدما على الخبز الأسود، حتى اكتشف الناس نفع هذا فقدموه. يمكن للخبز الأبيض أن يكتوي بنار تنضجه حتى الاحتراق، لكنّ قدر الخبز الأسود ألاّ يصبح أبيض تماما كأصحاب البشرة السوداء الهاربين من ميز العناصر. لكنّ نضج الخبز أو عدم نضجه ليس بالضرورة مسألة فنّ في الطهو، بل قد تكون مسألة جوع وخصاصة، فقد ورد في الحكمة السّربية الكرواتية، أن الجائع لا يمكن أن يترك خبزه ينضج تماما.
كانت مسألة الخبز بسيطة، لكنّها ما فتئت أن تعقّدت حين خرجت من كنيسة الراهب إلى حقل الرأسمالي، ومنه إلى بلاط السياسي. تعقّد الأمر حين تردّد المرء بين أن يختار خبزه ويترك حرّيته أو يختار حريته ويترك خبزه؛ وهذا ما صاغه بشكل جيد ألبير كامو حين قال: من تختار؟ هل تختار من يريد أن يحرمك الخبز باسم الحرية؟ أو من يريد أن يفتك منك الحرية ليضمن لك الخبز؟ عليك أن تكون شجاعا: أن تختار الحرية فأنت شجاع لأنك اخترت الموت جوعا من أجل أن تكون حرّا؛ لكن إلى متى ستعيش بلا خبز كي تكون حرّا. وأن تختار الخبز فأنت شجاع لأنّك ستكون قد تركت شيئا هو جزء من إنسانيّتك في سبيل أن تعيش. وكم هي شجاعة كبرى أن تختار العيش على الحياة! كأنّ من اختار الخبز يعي جيدا معنى الحكمة الإيرلندية التي تقول، إن موت أحدهم هو خبز الثاني؛ فالميت يترك خبزة للميت إضافية لمن يعيش، أو خبزة جديدة لمن كانت تنقصه خبزة العيش، لكن ما قيمة أن تأتينا خبزة العيش التي تأتينا حين نفقد أسناننا.
هنا يأتي دور المرق باعتباره جوقة لذيذة لعزف الأسنان على الخبز؛ في جمهورية المرق يتصارع بطلان غير متكافئي القوى هما اللحم والخبز. اللحم الطريّ والخبز الجاف، في الأوّل شحم قليل أو كثير قد يعرقله، وفي الثاني شحم قليل قد يقوّيه؛ وفي الصراع تحتدم الخصومة بين مكونين غير متكافئين وعليهما أن يتعايشا. حين تأكل اللحم في المرق فأنت كمن ارتكب مجزرة لا إرادية على حدّ عبارة بنجامين فرانكلين العالم والسياسي الأمريكي؛ وحين تنقع الخبز في المرق تكون كمن أغرق حنطة في حقل أرز، فيقتلها الماء ولا تنبت جذورا، وفي كلتا الحالتين وفي مأدبة من المرق عليك أن تمضغ جيدا قطعة اللحم مثلما تدير لسانك في فيك، قبل الكلام، وعليك أن تحذر المرق العالق في قطعة الخبز أن ينسكب على ردائك الأبيض، في حفل لا تقبل في حروف من مرق على كراس ليس لونه دالاّ على براءة . ليس عليك أن تسقط قطعة الخبز فحين تسقطها ضاحكا ستضطر إلى أن ترفعها باكيا. فقديما قالت الحكمة الكندية، من الأفضل أن تأكل قطعة خبز واقفا من أن تلتهم شريحة لحم على ركبتيك. في جمهوريّة المرق على الخبز أن يكون حارسا على القدر، لا يحرسها كي لا تسرق، بل يحرسها كي يقلّ ماؤها وتنعقد زيوتها وتصبح أكثر قدرة على أن ينقع فيها الخبز.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مصطفى:

    شكرا اخ توفيق، اتحفتنا ككل مرة،

إشترك في قائمتنا البريدية