جنائزية شوبان: موسيقى الموت والوداع

عن الموت ألّف الموسيقار البولندي فريدريك شوبان، سوناتا البيانو الثانية، التي تعرف أيضاً باسم السوناتا الجنائزية، وتحتوي على المارش الجنائزي الشهير Marche funèbre. لا يُعرف على وجه التحديد، ما الذي دفع الموسيقار الرومانتيكي المرهف، إلى الوقوف أمام الموت وتناوله موسيقياً، وما هو السبب وراء تأليفه للمارش الجنائزي، الذي بدأ في تأليفه أولاً وأنهاه كقطعة موسيقية مكتملة، ثم بعد مرور عامين على الانتهاء منه، قام بتأليف ما تبقى من حركات السوناتا، هل كان يؤلف موسيقى موته الشخصي؟ خصوصاً وأنه كان قد أوصى، بأن يُعزف هذا المارش في جنازته، وتم تنفيذ الوصية بالفعل. المعروف أن شوبان عاش عليلاً، يعاني آلام مرضه الصدري طوال حياته، وتوفي مبكراً قبل أن يتم عامه الأربعين، ربما جعله المرض يفكر في الموت على الدوام، ويشعر به قريباً منه، وقد تكون هذه السوناتا الجنائزية، التي ألّفها على مدى سنوات متفرقة، ما هي إلا ترجمة موسيقية لتأملاته وأفكاره حول الموت. هناك من يقول إنه ألف هذه الجنائزية، تأثراً بكفاح البولنديين ضد الاحتلال الروسي سنة 1830، ومقتل الكثير من أحرار بولندا في هذه الحرب، رغم أنه ألّف الحركة الثالثة، أو المارش الجنائزي سنة 1835، أي بعد خمس سنوات من الحدث الكبير. وهناك تصور آخر عن تأليفه لهذه الجنائزية، هو تصور فني بحت، فالموت الذي تنقبض الصدور عند ذكره، ومن سيرته تضيق النفوس وتتألم القلوب، هو موضوع فني، يتناوله كل فنان مبدع، ويعبر عنه بلغته الفنية، أياً كانت هذه اللغة وأياً كانت الوسيلة، سواء كانت كتابةً بالحروف والكلمات، أو موسيقى بالنغم والإيقاع، أو رسماً بالخطوط والألوان، وكذلك نحتاً في الحجر وحفراً على الجدران، وإلى ما هنالك من وسائل التعبير.
وضمن هذا التصور الفني البحت يوجد سبب آخر، هو أن الموسيقى الجنائزية، صنف من صنوف الموسيقى الكلاسيكية، نجدها لدى العباقرة الكبار كبيتهوفن، وهايدن وموزارت وباخ وغيرهم، وفي القطع الجنائزية التي ألفوها، وضع كل منهم تأملاته الخاصة في الموت، وتعبيره الفني عن أحاسيس الحزن وآلام الفقدان، ومأساة الإنسان ولا جدوى كفاحه ضد النهاية المحتومة، وانهزامه الأبدي أمام الموت، وكذلك المشاعر الإيمانية العميقة، التي تطغى على الكثير من هذه الجنائزيات.

أمام البيانو والموت

عندما يُذكر البيانو، يكون اسم شوبان من أوائل الأسماء، التي تُذكر وتتوارد على الذهن، فاسم شوبان يرتبط ارتباطاً كبيراً بهذه الآلة الموسيقية الرائعة، وتشغل أعماله حيزاً هائلاً من الريبرتوار الخاص بالبيانو. ولبيانو شوبان فرادته وطابعه المميز، ووقعه الشاعري على الأذن، فيبدو الأمر كما لو أن شوبان يُنطق البيانو بصوته، أو أن هذا الموسيقار رومانتيكي المذهب، كان جزءاً لا يتجزأ من البيانو. عندما جلس شوبان أمام البيانو يوماً، ليؤلف لحن السير أو المارش الجنائزي، كان الموت أمامه أيضاً، يخايله طيفه المخيف، وتحيط به رهبة حضوره، يتذكر من فقدوا الحياة، وفقدتهم الحياة، والراحلين ممن سبقوه إلى المصير المحتوم. ومن يستمع إلى السوناتا الجنائزية، وإلى المارش الجنائزي على وجه الخصوص، يشعر بأن تلك الأوقات التي قضاها شوبان، في تأليف موسيقى عن الموت، لم تكن أوقاتاً عادية، تشبه بقية الأوقات التي قضاها في تأليف أعماله العظيمة، لكنها كانت ساعات وساعات من التأمل العميق للغاية، حاول فيها أن يلامس جوهر الموت، ويعبر عن وجوده ومعناه وحركته، وعن غموضه الأبدي وأسراره المغلقة.
عاش شوبان في الفترة من سنة 1810 حتى سنة 1849، وكما هي قصة أغلب عباقرة الموسيقى الكلاسيكية، لم تخلُ حياته من بعض المآسي، منها المآسي الصحية والعاطفية أيضاً، وبالإضافة إلى ذلك فإنه حمل هموم أمته البولندية طوال مسيرته الموسيقية، وخلد روحها الثورية ونضالها ضد الاحتلال الروسي. وسخّر الكثير من أعماله لخدمة الثقافة البولندية، ونشرها في أرجاء العالم، وحفظ التراث الشعبي لبولندا وموسيقاها القومية، وجعلها جزءاً من موسيقى العالم الكلاسيكية. لشوبان الكثير من المؤلفات والمصنفات الموسيقية، ويقال إن الكثير من أعماله أيضاً لا يزال مفقوداً، ومن بين منجزه الإبداعي، هناك الكثير من الأعمال المشهورة، كالليليات والبولونيزيات والمازوركات وغيرها. بدأ ارتباط شوبان بالبيانو منذ طفولته، وتلقى أول دروس العزف على يد أمه، التي كانت تجيد العزف على هذه الآلة، وربما كان لهذا أثر عليه، يبدو في مدى رقة ألحانه ورهافتها، والحساسية البالغة في تقنيات العزف لديه. بعد دروس الأم، وبعد أن ظهر نبوغه المبكر، أخذ شوبان يكمل تلقي دروسه الموسيقية، على يد أكبر معلمي الموسيقى في بولندا، وكان موسيقياً شهيراً في بلاده كما يقال. لم يفارق شوبان البيانو ولم يفترق عنه حتى آخر عمره، وركز معظم اهتمامه على التأليف له، ولم يمنح القدر نفسه من هذا الاهتمام، للتأليف للأوركسترا وللآلات الموسيقية الأخرى.

السوناتا والمارش الجنائزي

تتكون سوناتا البيانو رقم 2 من أربع حركات، وهي كما يبدو من اسمها تعتمد على آلة البيانو فقط، ويستغرق عزفها 25 دقيقة تقريباً، أما الحركة الثالثة المعروفة باسم المارش الجنائزي، فيستغرق عزفها 9 دقائق تقريباً، وفي كثير من الأحيان، يتم عزف الحركة الثالثة وحدها بشكل منفرد. فكما أن شوبان ألف هذه الحركة أولاً كعمل تام مستقل، ظلت الحركة محتفظة باستقلاليتها، ووجودها القائم بذاته بعيداً عن السوناتا الكاملة. ويحظى المارش الجنائزي بشهرة واسعة، ربما تفوق شهرة السوناتا، وكثيراً ما يذهب السامع إلى الحركة الثالثة مباشرة، ويتجاهل سماع السوناتا بأكملها، ليس لأن بقية حركات السوناتا سيئة، أو غير صالحة للسماع، لكن لأن شهرة المارش الجنائزي طغت على الحركات الأخرى، ولأن أساس السوناتا كامن في الحركة الثالثة، وفيها أيضاً يكمن الجوهر والروح، والحبكة إذا أمكن القول، حتى من يستمع إلى السوناتا كاملة، يظل في حالة ترقب وانتظار لمجيء الحركة الثالثة. ما ألّفه هذا الموسيقار الرومانتيكي الكبير عن الموت، يعد من أعظم القطع الجنائزية، بل يرى البعض أنه العمل الأعظم. من حزنه النبيل وكآبته المتأملة، أتت ألحان هذه السوناتا، التي ما هي إلا قطعة حية من نفس شوبان وروحه.
تتميز السوناتا بأجوائها الحزينة القاتمة، المنطبعة بطابع الموت والوداع، وتحديداً الحركة الثالثة، التي تعد من أرقى القطع الجنائزية، وأكثرها تأثيراً في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية، وتُعزف في الغرب والبلدان الأجنبية كتوديع للموتى، في الكثير من الجنازات ومراسم التأبين. وللمارش الجنائزي جلاله الخاص، وثيماته الموسيقية المذهلة، وسيره الأخذ الذي يبدأ بتمهيد هادئ متمهل، يعقبه جزء يتسم ببعض الشدة والقوة، ثم نهاية تكرر البداية لتمنح الشعور بالاستمرارية، يتميز المارش بالثيمات التي تتكرر على إيقاع منتظم، وسيرها نحو العلو المتدرج. بعد المارش الجنائزي، أو الحركة الثالثة، نجد أن شوبان جعل من الحركة الرابعة مجرد خاتمة قصيرة، يستغرق عزفها ثلاث دقائق أو أقل تقريباً، يتخللها بعض الضربات السريعة الخفيفة على مفاتيح البيانو، مع ضربة واحدة مرتفعة في النهاية. وفي السوناتا بشكل عام، تتجلى خصائص شوبان الموسيقية، من الرومانتيكية الفائقة والحساسية الدقيقة للغاية، وتقنيات العزف التي تجعل من البيانو، آلة ذات قدرات لا نهائية، فمع ألحان السوناتا العميقة المؤثرة، وتعبرها عن مشاعر الفقدان المؤلمة، يوجد عمل تقني وهو عمل الذهن لا الروح، ونجد أن شوبان اعتمد على التباطؤ والتسارع، والشدة والخفوت، من أجل خلق التناغمات المطلوبة، وبعض الضربات القصيرة المفاجئة. ويميز العزف الانتقال بسلاسة بين النغمات، والعبور السريع بين مفاتيح البيانو بسرعة ودقة، والصوت المتوازن الجميل، وخلق التأثيرات الصوتية المختلفة، من خلال التحكم في شدة الضغط على مفتاح البيانو، أثناء عزف هذه النغمة أو تلك، إذ أن درجة شدة أو قوة الضغط تغير من الصوت نفسه، وتخلق تأثيرات متنوعة، مثل الصوت الهادئ الرقيق، والصوت القوي المفعم بالحيوية، ويعمل كل هذا على تلوين الموسيقى وتعزيزها بالمزيد من الجماليات.

كاتبة مصرية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية