بيروت – القدس العربي”:
في خضم الأزمات والتباعد السياسي بين بعض الفئات اللبنانية، برزت زيارة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي إلى منطقة الجبل بدعوة من شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى بهدف تعزيز أواصر العيش الواحد في الشوف وعاليه بين المسيحيين والدروز وتثمير المصالحة التاريخية التي رعاها البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير عام 2001 مع الزعيم وليد جنبلاط، والتي أسست للاستقلال الثاني وخروج القوات السورية من لبنان.
وتهدف زيارة الراعي إلى تثبيت البقاء في الجبل والتفكير في كيفية إنعاش المنطقة اقتصادياً وإنمائياً من أجل تحفيز المقيمين والعائدين على البقاء في أرضهم وتوفير مشاريع اقتصادية وخلق فرص عمل من أجل الحد من الهجرة والنزوح من الريف إلى المدينة.
وتم تحديد برنامج الزيارة بمحطة أولى في دارة الشيخ أبي المنى في بلدة شانيه في قضاء عاليه، ثم انتقل الموكب إلى الباروك فالمكتبة الوطنية في بعقلين للقاء مع المكونات الشوفية من كل الطوائف والمذاهب والفعاليات، فغداء في المختارة دعا إليه صاحب الدار وليد جنبلاط ونجله رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب تيمور جنبلاط شاركت فيه فاعليات الجبل من سياسيين ومشايخ وكهنة قبل المحطة الأخيرة بقداس في مطرانية بيت الدين المارونية.
وخلال استقباله الراعي، قال شيخ العقل: “في حضوركم رسالة محبة وأخوة وترسيخ للمصالحة ورسالة العيش معاً، وهي تعبّر عن حقيقة الجبل الواحد الموحد”.
ورد الراعي: “في قلبك همّ وحدة اللبنانيين وأعرب عن فرحتي وشكري لهذا اليوم الذي يجمعنا، ومن خلال هذه الزيارة أعبّر عن روابط المحبة والصداقة التي تجمعنا”. وأضاف “نحن دولة التلاقي والحوار والانفتاح وهذا ما يُسمى الحياد اللبناني الإيجابي، ولا يمكن أن يكون لبنان أرض التنوع والحوار إن لم يكن حيادياً وإلا فقد رسالته، ومن هذا البيت الكريم نتطلع اليوم إلى هويتنا الحقيقية”.
وخلال توجهه إلى بعقلين كان للبطريرك استقبال عفوي في بلدة الباروك، وألقى كلمة رأى فيها “أن الولاء للوطن منتقص ونقول من أمام نصب كاتب النشيد الوطني اللبناني يجب أن نكون كلنا للوطن، وإيماننا نفسه مع سماحة شيخ العقل”.
ومن المكتبة الوطنية في بعقلين، لفت شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز أمام بطريرك الموارنة إلى “أننا نلتقي وإياكم بحضور زعامة وطنية راعية لهذا الجبل الحبيب ونخبة الوطن في رحاب سجن تحوّل إلى مكتبة”، وقال: “زيارتكم اليوم خطوة مباركة إذ إنها زيارة تأكيد على نهج المصالحة وتجديد لمسيرة العمل المشترك من أجل نهضة الجبل وتطلعات الوطن في ظل التحديات الكثيرة”. وأضاف: “مصالحة الجبل التاريخية لم تكن ورقة تفاهم موقعة من زعيم وبطريرك وشيخ وشهود، بل كانت عهد الحكماء والأبطال الرجال وكانت عهداً من القلب إلى القلب يقول إن الجبل تاريخ والتاريخ لا يُمحى بحادثة هنا ومواجهة هناك”، سائلاً: “لماذا لا نتّحد لتعزيز الأمل بالمستقبل في ظل انهيار الدولة؟ ألا يستوجب الأمر مصالحة من نوع آخر؟ مصالحة على شكل مبادرات عملية لبناء المؤسسات وإقامة المشاريع المنتجة… ألا يجدر بنا أن نضع خطة إستراتيجية للنهوض والاعتماد على أنفسنا؟”
وفي ما يتعلّق بالاستحقاق الرئاسي، أشار أبي المنى إلى “أن الحوار سبيل وليس غاية فلماذا لا ندعو إليه ونشارك به لإحداث خرق في جدار التعطيل سعياً إلى جمال التسوية النافعة المجدية؟”.
بدوره، لفت الراعي إلى “أن الأساس في لبنان هو الوحدة في التنوع، فنحن معاً نشخّص مشكلتنا، ونبحث عن العلاج لمَا نُعانيه وهذا ما نصبو إليه مع شيخ العقل وذوي الإرادة الحسنة، ولن نتراجع عن هذا العمل لأنّه واجبٌ وطني علينا”، مضيفاً “صحة لبنان من صحة الجبل وهذه مسؤولية مشتركة تقع على عاتقنا جميعاً. كلمة مصالحة تتطلب أعمالاً ومبادرات وعلى عاتقنا مسؤولية مشتركة لنعمل معاً من أجل وحدة شعبنا، وهذا لن أتراجع عنه”.
بعد ذلك، تابع البطريرك الراعي جولته ووصل إلى المختارة للقاء النائب السابق وليد جنبلاط ونجله تيمور جنبلاط.
وخلال اللقاء قال جنبلاط الأب “صاحب الغبطة، اسمح لي ببعض الملاحظات… نُثمن عالياً كل الجهود التي تقومون بها من أجل حل معضلة الرئاسة وتأييدكم للحوار رغم العقبات المتعددة، كما نثمن المبادرات الخارجية والداخلية التي تساهم في حل معضلة الرئاسة، ونثمن زيارتكم بالرغم من بعض أصوات النشاز التي تصر على نبش القبور وتنسى صفحات العيش المشترك”.
وأضاف: “الشهداء كل الشهداء هم شهداء الوطن من دون تمييز، وفيما نسمعه من نظريات، ليس هناك أغبى أو أسخف، لكن أخطر من الذين ينادون بالفراغ من دون تسهيل موضوع الانتخابات الرئاسية، وحول ما يسمى مواصفات الرئيس وكأنه مفروض أن يتعلم المجلس النيابي دروساً في النحت أو في الخياطة، عندما تريد الدول حل الأمور فتحلها، وكل المحطات التاريخية تشهد، فكفى وضع عراقيل لتطيير الانتخابات الرئاسية”.
وسأل جنبلاط: “يأتينا وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان بالوقت نفسه الذي كان فيه آموس هوكشتاين، وكلاهما صرح أنه مع انتخاب رئيس، فهل تكون تلك الانتخابات بالاشتراك مع دول معنية ومسؤولين معنيين؟”
وأضاف: “هل يمكن ترسيم حقل بعبدا يا سيد آموس هوكشتاين؟ وهل يمكن تسهيل انتخاب الرئيس يا سيد حسين أمير عبد اللهيان؟”. وختم متوجهاً للراعي: “نثمن جهودكم عالياً ونحن على استعداد لأي مساعدة في هذه المهمة الصعبة، لكن غير المستحيلة”.
بدوره، شدد البطريرك الراعي على أن “هذا اليوم تاريخي، وأتينا لكي نُحيي مرة أخرى المصالحة التي قمتم بها مع البطريرك صفير وأردتما أن تشمل جميع اللبنانيين”، مؤكّداً ” ألا مصالحة من دون مصارحة”، معتبراً “أن لبنان أصبح غريباً عن ذاته، ولا يُمكن أن يستمر في هذه الحالة”.
من جهته، لفت النائب مروان حمادة إلى “أن مشهد الشوف وعاليه اليوم هو درس ورسالة لكل لبنان والمناطق التي تتجاذبها الخلافات لا سيما بشأن الحوار، فقلب لبنان هو هذا الجبل وهو رسالة للعرب والأجانب بأن الحل يخرج من لبنان وهو سيادي بامتياز”.
وكان جنبلاط أعلن في خلال المصالحة مع البطريرك صفير في ٤ آب/أغسطس 2001 “أن حرب الجبل ولّت إلى غير رجعة”.