أكثر من ماضٍ واحد عاشه فيلم جورج نصر «إلى أين؟». مرات عديدة تفصل بين إحداها والأخرى سنوات غير قليلة كنا نُدعى إلى الاحتفال بريادة هذا الفيلم. من حوالى ثلاثين عاما، وكان قد ظهر قبل ذلك بثلاثين عاما أخرى، كنا نظن أنه أول عمل سينمائي أنتج في لبنان. وإذ علمنا أن هناك أعمالا أخرى سبقته، رحنا نصحّح فنقول إنه أول فيلم لبناني جدّي يتناول قضية اجتماعية لبنانية عامة. الأعمال السابقة، القليلة على أي حال، غلب عليها الترفيه وابتكار شخصيات طريفة أو هازلة. ربما ما كان يسعى إليه صانعو تلك الأفلام هو الاعتراف بأن ما أنجزوه هو سينما، وأن تجارب منها تحقّقت على أيديهم. جورج نصر حظي بذلك الاعتراف. شارك فيلمه الأول ذاك في مهرجان كان، وهي مشاركة رسمية يقول هو، مكرّرا عبارة «رسمية» منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا. وهو أعاد ذلك في السنة الفائتة حين أعيد عرض الفيلم بعد ترميمه، في الذكرى السبعين لقيام المهرجان الفرنسي العالمي. «إلى أين؟» اعتُمد إذن واحدا من كلاسيكيات السينما العالمية، وقد جرى الاحتفال بمخرجه جورج نصر هناك، مرة أخرى، بعد انقضاء ستين سنة على حضوره الأول فيها.
كان ذلك، في 1957، أكبر مما كان ينتظره لبنان القليل التمرس والكفاءة للمشاركة في مهرجانات من هذا النوع. جورج نصر ظل يردّد في الحوارات التي كانت تُجرى معه بعد ذلك، أن كل شيء كان قاصرا وبدائيا في ما يتعلق بصناعة الأفلام… فلا تقنيات مناسبة، ولا وجود لاختصاصيين، ولا لممثلين، إلخ. ونحن الذين أتيحت لنا مشاهدة الفيلم في المناسبات اللاحقة للاحتفال به (وهذه قد تفصل بين إحداها والأخرى عشر سنوات) كاملا حينا ومتقطّعا حينا، كنا نشعر كما لو أن الممثلين أدخلوا هكذا من دون تهيئة ليؤدّوا أدوارا غريبة عن فطرتهم. وفي نظرة مشاهد حالي للسينما ليس من شيء تلقائي في ظهور هؤلاء الممثلين أو في كلامهم. وما زلت أذكر كيف أن الخاصية الفنية المسوَّقة لأهمية الفيلم كانت تُصاغ على الشكل التالي: تلك الحركة البطيئة، في الأداء والسرد، مقصودة تماما، لأن الفيلم ينقل وقائع حياة ريفية، فالريف هو هكذا بطيء الإيقاع.
أخرج نصر فيلما ثانيا لكن منقطع الصلة عن سابقه، وهو باشر بإخراج فيلم ثالث أيضا، لكن يظل «إلى أين» كما لو أنه فيلمه الوحيد. تلك الحياة المديدة لم تنبت إلا ثمرا قليلا.
ربما كان لموضوع الفيلم نصيب كبير من اهتمام القيّمين على مهرجان كان. وهذا أيضا مما لم يتوقّف جورج نصر عن التذكير به. ها هو يردّد، من جديد، كيف رأى لبنانيين هناك، في أمريكا، مسندين ظهورهم إلى الحيطان منتظرين أن ينتهي الآكلون من أكلهم حتى يروا إن كان هؤلاء قد تركوا شيئا في الأطباق. كما رآهم ينامون في العراء، أو في مرائب السيارات. كان ما رآه هناك صادما، وكان عليه أن يوضح واقع الهجرة الحقيقي في ذلك الزمن حيث، بحسب إحصاء ما فتئ يعيد ذكره في الحوارات التي تجرى معه، أن ما بين ألف وثمانمئة وألفي لبناني كانوا يغادرون لبنان كل شهر.
ومع أن أغنيات وأزجال كانت هي أيضا تدعو إلى التوقف عن الهجرة والبقاء في الأرض، وأن صور الغربة المضنية كانت تتألف، تبعا لذلك، في مخيلات الباقين هنا، إلا أن الفيلم لم يتمكن من القيام بما كان مؤمّلا أن يفعله. لم يُقبل عليه المشاهدون. ذكر جورج نصر كيف أن إدارة سينما راديو سيتي وعدته بأن تعرض فيلمه، لكنها عادت وتراجعت، وكذا فعلت سينما روكسي. «إلى أين؟» لم تزكّه راهنية موضوعه، ولا كونه فيلما لبنانيا هذه المرة، بل أن هذه الصفة الأخيرة هي التي رفعت الحواجز بينه وبين المشاهدين. فهؤلاء يعرفون أن السينما هي إما أجنبية وإما مصرية، وإن عرضت لهم سينما أخرى سيكون عليهم أن يبدّلوا كل ما حصّلوه من معرفة بحكايات الأفلام وممثليها وموضوعاتها ودرامياتها ولغة المتكلمين فيها.
أن نقول عن «إلى أين؟» إنه فيلم أول ففي هذا قدر من المغامرة مساو لقدر ما فيه من الريادة. كان قدره أن يكون فيلما للتاريخ، «العمل الأول الذي وضع لبنان على خريطة السينما العالمية»، يشاهده جمهور السينما مرة كل عشر سنوات في صالة متخصّصة. لا أعرف إن كان هذه الإنجاز كافيا وحده لإشباع شغف جورج نصر بالسينما. كان قد أخرج فيلما ثانيا لكن منقطع الصلة عن سابقه، وهو باشر بإخراج فيلم ثالث أيضا، لكن يظل «إلى أين» كما لو أنه فيلمه الوحيد. تلك الحياة المديدة لم تنبت إلا ثمرا قليلا. كان مخرجنا ما يزال لصيقا بالسينما حتى جاوز التسعين من عمره، مكتفيا ربما بأنه ترك علامة في سجل عالمي لها. هذا كاف لتلبية طموح حياة كاملة. كان ما يزال هو نفسه محتفلا بفيلمه، ناقلا إلى طلابه تجربته وذلك حتى وفاته منذ أيام. المهم أن يُقبل طلب الانتساب لهذا الفن، وهذا حصل. والقليل يكفي، ومن دون شكوى كتلك التي أطلقها كاتب في إحدى المرات عن الأدب، قائلا: «تعطيه كلّك ولا يعطيك بعضه».
٭ روائي لبناني