الجزائر- «القدس العربي»: رغم أن نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية أزالت هاجس وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، وهو ما كان سيهدد بشكل مباشر العلاقة مع الجزائر، إلا أن صوت هذا التيار بات أكثر قوة في البرلمان الفرنسي اليوم، بعد ارتفاع عدد نوابه، حتى إن أكثرهم جدلاً سيترأس الجلسة الافتتاحية المنتظرة غداً الخميس.
ومن الصدف أن جوزي غونزاليس النائب الذي افتعل أزمة مع الجزائر قبل سنتين بعد خطابه الذي يحن فيه إلى زمن الاستعمار الفرنسي للبلاد، سيعود غداً ليترأس جلسة الافتتاح مرة أخرى، بحكم أنه الأكبر سناً من بين النواب (81 سنة)، ويحبس من جديد الأنفاس حول ما يقوله في وقت تبدو العلاقة مع الجزائر مستقرة نسبياً بعد تجاوزها أزمات كثيرة في السنوات الأخيرة.
وكان غونزاليس قد أعيد انتخابه نائباً في الجمعية الوطنية الفرنسية، عن حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في الدائرة العاشرة في “بوش دو رون” جنوبي فرنسا. وهذا النائب الذي كان سياسياً في الصفوف الخلفية قبل أن يرتقي للبرلمان سنة 2022، هو أحد المقربين من جان ماري لوبان مؤسس حزب الجبهة الوطنية والشهير بماضيه في التعذيب لما كان عضواً في يعمل في الجيش الاستعماري الفرنسي بالجزائر.
وبقي هذا النائب عضواً في الجبهة الوطنية التي تحول لاحقاً إلى التجمع الوطني، وهو يتبنى في طروحاته وأدبياته أفكار هذا التيار الأولى قبل ما عرف بمرحلة “إزالة الشيطنة” التي اتبعتها مارين لوبان لجعل الحزب أكثر قبولاً لدى الرأي العام الفرنسي.
وقبل انتخاب رئيس جديد للجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، يُعهد وفق النظام الداخلي للنائب الأكبر سناً لترؤس الجلسة الافتتاحية بمساعدة أصغر ستة نواب سنًا يقومون بمهام السكرتارية حتى انتخاب المكتب الجديد. وهذه الرئاسة مؤقتة وذات طابع رمزي، لكن يمكن أن تستغل لتمرير رسائل سياسية مثل فعل غونزاليس نفسه في خطابه سنة 2022.
وفي تلك الواقعة، تحولت رئاسته للجلسة من حدث روتيني عادي إلى جدل سياسي، بعد أن خصص الجزء الأكبر من كلمته للحديث عن حنينه للجزائر التي ولد فيها وإبراز ما يزعم أنم الظلم الذي طال الأقدام السوداء، وهم المعمرون الذين غادروا الجزائر بعد انتزاعها للاستقلال.
ومما قاله هذا النائب مخاطباً زملاءه في الجلسة الشهيرة: “أن نجتمع جنبًا إلى جنب بعيدًا عن خلافاتنا هو رمز للوحدة الفرنسية. ورمز هذه الوحدة يلمس قلب الطفل الذي هو أنا من فرنسا البعيدة، نُزع من وطنه الأم وألقت به رياح تاريخ 1962 على شواطئ بروفانس، وتركت خلفي فرنسا وأصدقائي، وأنا الرجل الذي ظل يحمل الجرح للأبد”.
ودفعت هذه الكلمات لسؤال النائب بعد انتهاء الجلسة عن موقفه من استقلال الجزائر، فأجاب بشكل مستفز قائلاً: “تعالوا إلى الجزائر، إلى الجبل، وسنجد الكثير من الجزائريين يسألون “متى ستعود فرنسا؟”. وزاد على ذلك بالقول لما سئل عن جرائم فرنسا في الجزائر: “أنا لست هنا للحكم فيما إن ارتكبت المنظمة السرية جرائم أم لا، لا أظنّ أن فرنسا اقترفت جرائم ضد الإنسانيّة”. والمعروف أن منظمة الجيش السري التي نشطت في السنة التي سبقت استقلال الجزائر، قد ارتكبت جرائم بشعة ضد الجزائريين، وهو ما تثبته الأوساط الفرنسية نفسها.
وكان لتلك التصريحات أثر حتى على الرئيس الفرنسي الذي تحدث عن هذه الواقعة خلال زيارته للجزائر في أغسطس 2021، في سياق تأكيده على ضرورة قيام مصالحة تاريخية بين الجزائر وفرنسا، لكون الأمر يتعلق بالسياسة الداخلية في فرنسا نفسها. وقال ماكرون في ذلك الوقت: “ليس لدينا درس نقدمه نحن الفرنسيين؛ افتتاح أول جلسة برلمانية كانت بحديث نائب عن الجزائر. لا يمكننا أن نقول للجزائريين إننا قلبنا الصفحة”.
وأضاف: “أحاول منذ أن أصبحت رئيساً أن أشاهد الماضي أمامي.. في مسألة الذاكرة وكأننا مجبرون على الاختيار بين الفخر والاعتذار.. أنا اخترت الحقيقة والاعتراف.. أنا لست ابن حرب الجزائر ولا عائلتي، لكني أدرك شيئاً، أن الجزائر وفرنسا لا يمكنهما التقدم دون النظر للماضي؛ لأن تاريخينا مشترك”.
وعاود هذا النائب الظهور عدة مرات في البرلمان السابق بطرق متناقضة أحياناً، فقد حصل على منصب نائب لمجموعة الصداقة الجزائرية الفرنسية في البرلمان الفرنسي، وهو ما أثار استغراباً واسعاً، كون الرجل يتبنى أطروحات ممجدة للاستعمار وينكر جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
وقوبل تعيين هذا النائب بكثير من التعليقات الساخرة والمستغربة، حتى إن البعض وصف الأمر بالنكتة. وقال أحد المعلقين في رده على تغريدة غونزاليس التي أعلن فيها الخبر، أن هذا الشخص يروج لتمجيد الاستعمار ثم يتم تعيينه نائبًا لرئيس مجموعة صداقة فرنسية جزائرية. المستوطنون يسيرون على رؤوسهم بالتأكيد (إشارة لتناقضهم)، يا له من عار مطلق”. وكتب آخر: “مجموعة الصداقة الفرنسية الجزائرية لا يمكن في أي وقت أن يمثلها شخص يشعر بالحنين إلى الجزائر الفرنسية والذي دافع عن الاستعمار”.
كما لفت النائب مرة أخرى الانتباه بسؤال استفزازي للجزائر يتحدث فيه عن حالة المقابر للمسيحيين واليهود في البلاد. وتحدث النائب عن وضعية متدهورة للقبور حيث “عظام في الهواء الطلق، قبور محطمة، لوحات على وشك الانهيار”، مشيراً إلى أن “القبور ضحية تخريب غالباً ما يكون مادياً يتعلق بسرقة الرخام، وتدنيس الجثث من أجل العثور على الذهب وأيضاً التحطيم الناجم عن أعمال البناء”.
وسبق للسلطات الجزائرية أن نفت ادعاءات إهمال المقابر الأوروبية، وقامت المؤسسة العمومية لتسيير الجنائز والمقابر لولاية الجزائر، في سياق الاعتناء بهذه المقابر، بتجميع أزيد من 13 ألف رفات مستخرجة من المقابر المسيحية المتواجدة على مستوى الجزائر العاصمة لتجمعهم في مقابر كبرى، وذلك في إطار اتفاق رسمي بين السلطات الجزائرية والفرنسية.
ويتبنى اليمين المتطرف خطاباً عدائياً اتجاه الجزائر يقوم برفض أي خطوة اعتراف بجرائم فرنسا في الجزائر وتبني نظرة متشددة ضد الهجرة الجزائرية في فرنسا والسعي بكل الطرق لإلغاء اتفاقية 1968 التي تمنح بعض الامتيازات للمهاجرين الجزائريين الذين يسعون للإقامة في فرنسا. ويضم هذا التيار في صفوفه عدداً معتبراً من الأقدام السوداء، وهم المستوطنون الفرنسيون في الجزائر وأبناؤهم وأحفادهم، بالإضافة إلى الحركى؛ وهم الجزائريون الذين تعاونوا مع الاستعمار ضد الثورة التحريرية.