جيش عبدالناصر المقصود في العنوان هو جيش مصر الحديث الثاني، جيش مصر الحديث الأول بدأت سيرته في أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر، وارتبط باسم إبراهيم باشا ابن محمد علي، وخاض حروبا ضخمة، وحقق انتصارات باهرة في معارك اليونان والشام واقتحام تركيا العثمانية، فيما ارتبط جيش مصر الثاني باسم جمال عبد الناصر، الذي أعاد البناء من نقطة الصفر بعد الهزيمة الكاسحة في 1967، وخاض الجيش الجديد حروب الاستنزاف وحرب أكتوبر/تشرين الأول، ولا يزال يواصل إلى اليوم.
نعم، جيش عبد الناصر بهذا المعنى التاريخي، هو الذي اجترح المعجزة، واقتحم قناة السويس، وحطم خط بارليف، وعبر في ساعات إلى سيناء بثمانين ألف جندي وألف دبابة، صحيح أنه حين بدأت الحرب بعد ظهر يوم 6 أكتوبر 1973، كانت قد مضت ثلاث سنوات وأيام على الرحيل الصادم المفاجئ لعبد الناصر في 28 سبتمبر/أيلول 1970، وكان السادات وقت الحرب في منصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والقائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو الذي تحمل المسؤولية، وأصدر قرار الحرب، لكن الجيش الذي عبر هو جيش جمال عبد الناصر، والنظام الذي كان لايزال قائما هو نظام عبد الناصر، بعناصر الإيجاب ونواحي النقص فيه، بتنظيمه السياسي الوحيد، وبقيادة القطاع العام لحركة الاقتصاد، وبإتمام بناء السد العالي بعد وفاة عبد الناصر، وبقفزات التنمية المتلاحقة التي جعلت مصر وقتها رأسا برأس مع كوريا الجنوبية، وكانت الكوادر الأساسية في الحكم منتمية تاريخيا لتجربة عبد الناصر، فأول رئيس للوزراء تحت رئاسة السادات كان محمود فوزي، وقد كان فوزى عميدا لدبلوماسية مصر وقت ثورة عبد الناصر، وظل رئيسا لوزارتين تحت رئاسة السادات، وخلّفه عزيز صدقي مهندس التصنيع الشامل زمن عبد الناصر، وكان عبد القادر حاتم نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للإعلام وقت حرب أكتوبر، وكان حاتم واحدا من اثنين، تبادلا حقيبة وزارة الثقافة في غالب سنوات حكم عبد الناصر، وكان الآخر هو ثروت عكاشة، أعظم وزير ثقافة على الإطلاق، وكان محمد حسنين هيكل لا يزال رئيسا لتحرير “الأهرام” إلى ما بعد حرب أكتوبر، وهو الذي كتب التوجيه الاستراتيجي للحرب بخط يده، صحيح أن السادات كان قد أطاح بعدد معتبر من رجال عبد الناصر في 15 مايو/أيار 1971، أو هم الذين أفسحوا له الطريق باستقالاتهم الجماعية، وكان هؤلاء أقرب إلى جناح يساري في النظام، لكن غالب الرجال الذين ظلوا في الخدمة حتى حرب أكتوبر، كانوا أيضا من الناصريين، بلا شبهة في إخلاصهم للمبادئ، حتى إن كانوا أقرب إلى معنى اليمين الناصري، وأضيف إليهم من اليسار الماركسي وزراء بقامة الراحلين فؤاد مرسي وإسماعيل صبري عبد الله ومراد غالب، لم يمانعوا في العمل مع السادات، وبقصد خدمة وتطوير الفكرة الناصرية نفسها، أو هكذ تراءى لهم وقتها، وقد رأوا السادات ينحنى راكعا أمام تمثال نصفي لجمال عبد الناصر في قاعة مجلس الشعب وقتها، وفيما بعد حرب أكتوبر، وخذلان السياسة لنصر السلاح، ودوس “الذين هبروا” فوق دماء الذين عبروا، كانت معادن الرجال الذين خدموا مع السادات قبل حرب أكتوبر، تظهر على حقيقتها الناصعة، وكانوا في طليعة الذين عارضوا السادات على نحو شامل، وعارضوا مبارك من بعده، وماتوا على دين الإخلاص لسيرة جمال عبد الناصر وتجربته واختياراته، التي جرى الانقلاب عليها بالجملة بعد سكوت مدافع حرب أكتوبر.
نصر أكتوبر ليس محتكرا لمن وقع قرار الحرب، بل النصر للجنرالات الذين وضعوا الخطط وأداروا غرف العمليات
المعنى ببساطة، أن نصر أكتوبر العظيم ليس نسبا محتكرا لمن وقع قرار الحرب، بل كان النصر للجنرالات الذين وضعوا الخطط، وأداروا غرف العمليات، ومن قبلهم لجيش المليون جندي الذي بناه جمال عبد الناصر، ومن قبل هؤلاء جميعا للشعب المصري، الذي صمم بهدير ملايينه على إعادة عبد الناصر للقيادة بعد قرار التنحي، وتحمل تعبئة متصلة على مدى ست سنوات بعد الهزيمة إلى النصر العسكري، فلم تكن الهزيمة لنظام عبد الناصر كما يقال كثيرا بغير تدقيق، والدليل المادي الملموس، أن النظام نفسه الذي وقعت في عهده الهزيمة، هو النظام نفسه الذي تحقق في ظله النصر، فلم تكن قد جرت بعد أي تغييرات جوهرية على هيكل النظام، وهو ما يؤكد أن الهزيمة الخاطفة حين وقعت، فقد كانت هزيمة عسكرية محضة، وبسبب ما قال عنه عبد الناصر ذات مرة، أنه “انفجار في المخ”، أصاب قيادة عسكرية لم تكن مؤهلة أبدا، ولا قادرة، وبدليل ما جرى بعد الهزيمة مباشرة، حين جرى التخلص من عبد الحكيم عامر وزمرته العاجزة اللاهية، وكان ذلك قرارا متأخرا جدا، كان يتوجب على عبد الناصر اتخاذه منذ ما بعد حرب العدوان الثلاثي، وقنع عبد الناصر وقتها بما تحقق من نصر سياسي في غالبه، وبدون أن يعيد النظر في قيادة عسكرية بائسة، أدمنت تكتيك الانسحاب عند بدء كل حرب، حتى في هروب عبد الحكيم عامر المخزي من سوريا ساعة حدوث الانفصال، ثم تحولت الزمرة إلى ورم سرطاني بالقرب من رأس النظام، وحالت دون إشراف عبد الناصر وإطلاعه الدقيق على ما يجري داخل الجيش، وإلى أن وقعت الهزيمة المرعبة في 1967، وبدون أن يجري تمكين رجل عبد الناصر العسكري المحترف المؤهل محمد فوزي، الذي كان عبد الناصر قد عينه رئيسا للأركان، وعزلته زمرة عبد الحكيم عامر عن أي دور أو فعل مؤثر، فيما ظهرت ملكات الفريق فوزي بعد إزاحة عامر، وكان الفريق أول محمد فوزي هو الساعد الأيمن لعبد الناصر في عملية إعادة بناء الجيش، وإلى جواره ظهرت عبقرية الفريق عبد المنعم رياض أول رئيس أركان للجيش بعد هزيمة 1967، الذي استشهد بين جنوده على خط النار في حرب الاستنزاف، كان فوزي ورياض من أئمة الجنرالات العظام، ولو كان أيهما قائدا للقوات المسلحة المصرية قبل حرب 1967، ربما لتغير التاريخ بالجملة، لكن وقائع التاريخ الفعلية لا تعرف كلمة “لو” للأسف، وجرى ما جرى، ما تحمل عبد الناصر مسؤوليته على رؤوس الأشهاد، وبدون أن يضع نقطة ختام في آخر السطر، بل بدأ في كتابة سطر جديد، كان هو نقطة البدء في واحدة من أعظم الملاحم في تاريخ مصر الألفي السنين، وأعطى غالب وقته وعقله وأعصابه وثقله الشعبي والدولي لعملية إعادة بناء الجيش، وكتب بخط يده قواعد بناء وتنظيم الجيش الجديد وخرائط قواته وأسلحته، وبنى جيشا عصريا علميا بكل معنى الكلمة، كان ذوو المؤهلات العليا عصب جنوده، وكانت حرب الاستنزاف مجال اختباره الميداني، وتطويره باستمرار، فلم تكد تمضى ثلاثة أسابيع على وقوع الهزيمة ووقف إطلاق النار، حتى تجددت النيران على الجبهة من جديد، وفي أول يوليو/تموز 1967، وقعت معركة “رأس العش” على أرض سيناء المحتلة نفسها، وكانت معركة كاشفة لحقيقة قوة وبسالة الجيش المصري، فقد انتصر ثلاثون جنديا من قوات الصاعقة المصرية على جيش إسرائيلي كامل، وكان المعنى ظاهرا، فلم يتح لجنود الجيش المصري أن يقاتلوا في حرب يونيو/حزيران 1967، وكان العطب القاتل في القيادة العسكرية، هو السبب المباشر في الهزيمة، تماما كما كانت حرب الاستنزاف معملا لتفريخ واكتشاف الجنرالات العظام، كان قائد قوات الجبهة وقت معركة “رأس العش”، هو اللواء أحمد إسماعيل، الذي صار وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة في حرب أكتوبر 1973، وبعد معركة “رأس العش” بقرابة الثلاث سنوات، وقعت معركة “جزيرة شدوان” في البحر الأحمر، التي فكرت إسرائيل في غزوها في أواخر يناير/كانون الثاني 1970، ولقيت هزيمة منكرة على يد عشرات من المقاتلين المصريين، وكان قائد قوات منطقة البحر الأحمر وقتها، هو اللواء سعد الدين الشاذلي، الذي أصبح في ما بعد رئيسا لأركان الجيش المصري في حرب أكتوبر 1973، وهو الذي وضع خطة الحرب النهائية، وصار معارضا للسادات فمبارك، بعد انقلابات السياسة والاقتصاد عقب حرب أكتوبر 1973، وهكذا كانت سيرة غالب القادة العظام في الجيش المصري الجديد، وفي طليعتهم الجنرال محمد عبد الغني الجمسي قائد غرفة العمليات الرئيسية في حرب أكتوبر، الذي يعزى إليه فضل اختيار الموعد الدقيق لبدء الحرب في أكتوبر 1973، وقد كان الجمسي وزيرا للحربية وقت انتفاضة الشعب المصري ضد السادات في 18 و19 يناير 1977، ورفض طلب السادات بإنزال قوات الجيش لتهدئة الناس، واشترط أن يلغي السادات قرارات رفع الأسعار أولا قبل نزول الجيش، وهو ما كان، ودفع الجمسي الثمن بإزاحته من منصبه بعدها بقليل، وهكذا كانت سيرة أغلب القادة العظام في حرب أكتوبر، ولاء مطلق للشعب المصري، ولروح الزمن الناصري، التي جعلتهم جنرالات حرب من طراز رفيع.
وليس بوسع أحد أن ينكر روابط “العروة الوثقى” بين حرب أكتوبر وحرب الاستنزاف، التي أثمرت تفريخ المئات والآلاف من القادة العسكريين المبدعين، على طريقة اللواء باقي زكي يوسف الذي توفي قبل شهور، وكان صاحب فكرة تحطيم خط بارليف بخراطيم المياه، وقد استوحاها من عمله كمهندس في بناء السد العالي، وعرضها على جمال عبد الناصر في أوائل 1969، وجرى اختبارها في تجهيزات ومناورات سرية كبرى، فقد كانت حرب الاستنزاف أطول صدام عسكري مستدام مع العدو الإسرائيلي، وتضمنت عشرات المعارك والملاحم في الجو والبر والبحر وإغارات العبور الليلي، وحين أوقفها عبد الناصر قبل شهور من رحيله، وبهدف بناء حائط الصواريخ الأعظم، فقد كان كل شيء قد اكتمل لخوض حرب التحرير، التي انتظرت مواعيدها إلى يوم 6 أكتوبر 1973، وتحقق النصر الإعجازي للجيش الذي بناه جمال عبد الناصر، وإن قضت الأقدار ألا يشهده الرجل في حياته، فقد كان أكتوبر هو نصر عبد الناصر الذي عاش ومات لأجله، وربما كان غيابه سببا في مفارقة انهيار السياسة من بعد انتصار السلاح.
كاتب مصري