جيمس جويس ونظرية المؤامرة

حجم الخط
7

حتى بعد 97 سنة على صدور «عوليس»، رواية الإيرلندي جيمس جويس الأشهر؛ وبعد آلاف الدراسات والأبحاث والقراءات والتحليلات، التي لم تترك شاردة ولا واردة في النصّ دون تمحيص وتدقيق وتأويل؛ يمكن أن يطلع علينا رأي عربي يناقش هكذا: هذه دعاية صهيونية، ويا لعار النقاد العرب الذين لم ينتبهوا إليها، ولم يفضحوها على خلفية صفتها هذه تحديداً!
في «العروبة»، إحدى صحف النظام السوري التي تصدر عن «مؤسسة الوحدة»، جاء التالي: «قارىء الرواية، مهما كانت ثقافته عادية، يكتشف أنّها دعاية للحركة الصهيونية، فبطل الرواية بلوم يحمل كل صفات البطل اليهودي مثل شايلوك في تاجر البندقية لشكسبير، بل أكثر منه بكثير فيما يتعلق بالحق اليهودي في فلسطين وأسطورة أرض الميعاد». أكثر من هذا، لا مناص من المرور على نظرية المؤامرة: «نقاد من بريطانيا وأمريكا هاجموا الرواية وقت صدورها وبعد ذلك، لكن أصواتهم بقيت غير مسموعة بسبب تبني الإعلام الصهيوني للرواية لأنها تدعو بصراحة إلى العودة إلى أرض الميعاد! وهذا يعني أنها صهيونية بامتياز».
لكنّ «عوليس» إحدى أصعب نماذج الرواية على امتداد تاريخ الإبداع الإنساني، إذا لم تكن الأصعب قطعاً؛ وهي في عداد الأشدّ مشقة على القارئ والقراءة.. فكيف لـ«دعاية صهيونية» أن تتخذ هذا المنحى الشاقّ، لغة وعمارة ورموزاً وأحجيات؟ ثمّ إذا كانت وظيفتها هي الدعاية للحركة الصهيونية، والصهاينة لهم باع ونفوذ وجاه ومال، فكيف حدث أنّ مؤلفها فشل في العثور على ناشر لها، في بلده إرلندا وكذلك في بريطانيا وفي سويسرا، حتى غامرت الأمريكية سيلفيا بيش، مالكة مكتبة صغيرة في باريس، بإصدار طبعة محدودة منها، لم تتجاوز ألف نسخة؟ وكيف، وهي دعاية صهيونية، حُظر توزيع تلك الطبعة اليتيمة في الولايات المتحدة ــ أسوة بمعظم ديمقراطيات أوروبا آنذاك ــ بوصفها «أدب دعارة» و«بورنوغرافيا»؟
ثابت، بالطبع، وهو أمر جليّ وصريح، أنّ جويس في الرواية يشير مراراً إلى فلسطين، والمشروع الصهيوني، والاستيطان المبكّر، والمسألة اليهودية بصفة أعمّ؛ من منطلق ثابت، بدوره، في معظم أعماله، هو التعاطف مع اليهود كشعب مضطهَد وجوّاب آفاق. معروف، كذلك، أنّ رفع يهودي مثل هارولد بلوم، بطل الرواية، إلى مصافّ رمز ملحمي كوني مثل عوليس، أسهم في ترسيخ سوء الفهم حول طبيعة علاقة جويس باليهود. وكانت هذه الملابسات وراء إحجام السلطات السويسرية عن منحه تأشيرة دخول عام 1940 على أساس أنه يهودي، خاصة بعد خبر قام بتلفيقه صحافي صهيوني، زاعماً أنّ جويس زار فلسطين في سنة 1920.
ما هو أكثر أهمية في الأمر أن الروائي الإيرلندي الكبير كان، في طور محدد من أطوار حياته المتقلبة، قد أوشك على الإيمان بتشابه المصائر بين اليهود والإيرلنديين؛ فاستهوته الحياة العائلية لليهود، وشغفهم بالمعرفة (تحدّث بحماس عن هذه التسمية الجذابة: «أهل الكتاب»)، وتعرّضهم للاضطهاد والخروج والتيه. ولكنه، في الرواية مثلما في آرائه الشخصية المعلنة، أبقى اليهودي على حافّة الترحال فقط، واعتبر أنه لن يبلغ أرض الميعاد… تماماً مثل موسى في «سفر التثنية».
بلوم يبدو يهودياً، ولكنه «يبدو» فقط في الواقع، لأنّ دارسي جويس لا يجمعون حتى الآن على يهوديته، فكيف بصهيونيته؛ خصوصاً وأنّ الروائي المولع بالالتباس وفّر الكثير من المعطيات المتناقضة التي تجعل الأمر حمّال أوجه عديدة. الثابت، في المقابل، أن بلوم معارض للحركة الصهيونية المبكّرة، ومناهض لأفكار موشيه مونتيفيوري تحديداً، الذي كان أحد أبرز يهود بريطانيا في القرن التاسع عشر. وفي مشهد الرواية الأشهر حول الموضوع، يذهب بلوم لشراء كِلية خنزير من أجل إفطاره، فيلفّها له الجزار (ذو التوجه الصهيوني) بورقة هي في الأصل إعلان لصالح شركة مقرّها تركيا، تتخصص في بيع أراضٍ لإقامة مزرعة قرب بحيرة طبريا. أهي دعاية إيجابية، أم سخرية سوداء، أن يبيع جزار يهودي (ولكنه غير متخصص في الـ«كوشير») كلية خنزير إلى يهودي آخر، ملفوفة في منشور استيطان صهيوني؟ وما مغزى أنّ بلوم يقوم بإحراق تلك الورقة تحديداً، لإشعال شمعة؟
جانب آخر في المسألة هو أنّ نقاشاً ساخناً حول بلوم نشب داخل الحركة الصهيونية أولاً، ثمّ امتدّ إلى تيارات دينية يهودية متشددة؛ وبدا وكأنّ تحديد هوية هذه الشخصية الروائية إنما يحسم معضلة كبيرة بين «العلمانيين» و«غير العلمانيين». ديفيد بن غوريون أعلن بفخار: «حسناً… قد لا يقول الحاخامات إنّ بلوم يهودي. أنا من جهتي لا أتردد في اعتباره يهودياً»؛ ولكنّ مناحيم بيغين لم يتردد في الجزم أيضاً، ولكن نحو جهة معاكسة: «هل يحتاج الأمر إلى حاخام، لندرك أن آكل لحم الخنزير ليس باليهودي؟». وفي مستوطنة نيتيفوت، شنّ حاخام (يمني الأصل!) هجوماً مقذعاً على الذين يروّجون لـ«أدب جويس الداعر»، ويجدون فخاراً في أن يكون بطله يهودياً: «هذا الزاني، المتهتك، آكل لحم الخنزير، كاره طبريا»!
بيد أنّ المخيّلة التي تنتج نظريات المؤامرة لا تحدّها حدود، ولا تقيدها قيود، ويمكن لقشّة واحدة أن تصبح مخوّلة بالوكالة عن بيدر بأكمله، ليس من حيث التوصيف فقط، بل لجهة الاختزال والمسخ والتشويه.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسماء قصد الله:

    انها مقالة عميقة مثلما عودنا عليه الاستاذ حديدي وقيمتها الاولى تتمثل بابراز الجوانب الفنية لرواية اجمع العالم على عظمتها وقيمتها الثانية فضح بؤس الثقافة والاعلام في النظام السوري فلا يمكن للاستبداد الا ان ينتج السطحية.

  2. يقول حي يقظان:

    ملاحظة للإضاءة فقط:
    شخصية ليوبولد بلومLeopold Bloom ، كما تظهر في رائعة جيمس جويس «يُولِيس» Ulysses، ترتكز على كونه الابنَ الأوحدَ لرجل مخفي (تاريخيًّا) اسمه رودولف فيراغ Rudolf Virág. ورودولف فيراغ، في الأصل، هنغاري (يهودي) هاجر إلى إيرلندا واعتنق الديانة المسيحية البروتستانتية لكي يتزوج من إلين هيغينز Ellen Higgins (وهي المرأة الإيرلندية المسيحية البروتستانية)، فغيَّر اسمه إلى رودُلف بلوم Rudolph Bloom ثم انتحر فيما بعد لأسباب غامضة.
    ليوبولد بلوم الابن، بدوره هو الآخر، اعتنق الديانة المسيحية الكاثوليكية لكي يتزوج من ماريون تويديMarion Tweedy(وهي المرأة الإيرلندية المسيحية الكاثوليكية والمعروفة اختصارًا بـ«مولي» Molly في الكتاب). وهكذا، فإن مسألةَ «يهودية» ليوبولد بلوم (غيرِ المختون) لمسألةٌ رمزيةٌ صرف تمَّ استخدامُها من لدن جويس نكايةً بالحكومة الإيرلندية التي لم توافق على استقبال اليهود في ذلك الحين – يعني، أخي صبحي، لو كان المسلمون (السنَّة) في محل اليهود أيام زمان، لكان ليوبولد بلوم اسمه «خلدون سلوم»، مثلاً، بنفس الطريقة الرمزية: وطز باللي يفهم وباللي ما يفهم من صحيفة «العروبة» التابعة للنظام الأسدي المافيوي المجرم!

  3. يقول سوري:

    شكرا عزيزي صبحي على هذا المقال الذي يجلي بعض خبايا جيمس جويس ورائعته عوليس

    1. يقول حي يقظان:

      نسيتُ، في هذه المناسبة، أن أحيل القارئات والقراء الكرام، لمزيدٍ من الاطلاع، إلى مقال صديق طفولتي غياث المرزوق:
      «ذٰلِكَ ٱلكَاتِبُ ٱلمُوْسِيقِيُّ: شِقَاقُ ٱلتَّأْيِيسِ أَمْ نِفَاقُ ٱلتَّسْيِيسِ؟»
      وهذا المقال يحتوي على الكثير من التفاصيل التي تتعلق بمسألة «يهودية» ليوبولد بلوم بالذات، وقد صدر في جزأين اثنين في العديد من الصحف والدوريات العربية منذ حوالي ستة شهور.

  4. يقول عبد الوهاب عليوات:

    لا يهم الموقف الشخصي من كاتب الرواية.. لا يهم إن كان جويس يهوديا أو مسيحيا أو مسلما تماما كما لا تهم الأسباب التي جعلت من البطل ذو أصول يهودية..
    لكن ذلك لا يمنع أن الاستعمال السياسي للرواية كان يصب في مصلحة الصهيونية..
    أن يتم رفضه الرواية في امريكا وفي أوربا بداية القرن الماضي شيء عادي ولا يمثل أي دليل على عدم انحياز الكاتب للصهاينة..
    لم تكن الحركة الصهيونية وقتها تملك كل النفوذ العالمي الذي تملكه اليوم وكان اليمين الفاشي هو المتحكم في السياسة الاوربية.
    أعتقد أن تجريد رواية اوليسيس من بعدها الصهيوني المتدثر بلباس الانسانية والحق في الحياة للشعوب المظطهدة لا يستدعي كل هذا السخط لأن ذلك لا ينقص من القيمة الادبية للرواية.

  5. يقول خليل ابورزق:

    كثيرا ما أخلص الى ان اليهود ضحية الصهيونية المسيحية و خاصة تلك التي نشأت وقويت في بريطانيا و امريكا..و كثيرا ما اجد ان الصهيونية اليهودية ما كانت لتنشأ و تترعرع و تقوى الا بدافع من ورعاية و دعم من الصهيونية اليهودية. و بالطبع بعد ان توافقت الفكرة مع الاستراتيجية الغربية في الا تقوم للشرق قائمة و ان يبق الشرق تحت السيطرة. و من المفارقات ان لكل من الصهيونية المسيحية و الصهيونية اليهودية اهدافا متناقضة الا ان المشترك هو تجميع اليهود في فلسطين بالنسبة للاولى للقضاء عليهم و بالنسبة للثانية للعودة الى الفردوس المفقود و انشاء اسرائيل السعيدة لالف عام.
    اليهود اقلية صغيرة جدا مشتتة مكانيا و عقائديا عاشت لقرون مسالمة منغلقة على نفسها و خاصة في العالم الاسلامي الى ان حدثت لها الكارثة الكبرى في اوروبا على يد النازية تبعتها بكارثة اكبر هي تحقيق انشاء اسرائيل التي جعلتهم في معركة طويلة لا يمكن حسمها امام نصف العالم من عرب و مسلمين و مسيحين من مذاهب اخرى و احرار ضد الاستراتيجيات الاستعمارية.
    وكارثة انشاء اسرائيل اكبر لانهم جعلت منهم مجرمين معتدين مغتصبين قتلة و ليس ضحايا كما كانوا و لان هذا المشروع الى زوال مهما طال الزمن و التاريخ اكبر شاهد على ذلك

  6. يقول ثائر القدسي:

    السيد عبد الوهاب عليوات …
    كلامك صحيح من حيث المبدأ ولكن عندما يأتينا أحد أبواق النظام الأسدي الفاشي ويتشدق بالوطنيات ويقول في صحيفة «العروبة» على الملأ بأن «قارىء الرواية، مهما كانت ثقافته عادية، يكتشف أنّها دعاية للحركة الصهيونية» دون أن يكون ملما بالموضوع ؛ فما علينا إلا كشف حقيقة هذا البوق على الملأ أيضا وكشف جهله بما يقول وكشف نفاقه للنظام … خاصة وأن هذا النظام نفسه هو في مقدمة الذين يعملون خدما أذلاء للصهاينة كما تنكشف حقائقه يوما بعد يوم .. أرجو أن تقرأ بإمعان ما كتبه الأخ حي يقظان وكذلك مقال الأخ غياث المرزوق الذي أشار إليه !!!

إشترك في قائمتنا البريدية