حسب جورج فريدمان المدير التنفيذي لمؤسسة ستراتفور، فإن الأشخاص «العقلاء» لا يمكنهم توقع المستقبل، لأن الأشياء التي تبدو دائمة ومسيطرة في حقبة تاريخية معينة يمكن أن تتغير بسرعة مذهلة. لهذا، فإن الشعار اليساري القديم، «كن واقعيا واطلب المستحيل» يجب أن يتغير إلى: «كن واقعيا، توقع المستحيل». استخدم فريدمان هذه الفكرة البسيطة لإنجاز عمل يكاد يكون مستحيلا، تمثل في عنوان لكتابه «المئة سنة المقبلة: منظور لرؤية القرن الواحد والعشرين» فهل استطاع فعلا توقع ما يحصل الآن؟
في عام 1979، كان فريدمان آخر، هو توماس فريدمان، الذي كان في بداية عمله مراسلا مبتدئا في بيروت لوكالة «يونايتد برس أنترناشيونال» وكانت إحدى مسؤوليات عمله إرسال تقرير عن الطقس في بيروت. كان البلد، كما يقول في كتابه «اللكزس وشجرة الزيتون» الصادر عام 1999، في خضم حرب أهلية، فمن يعبأ بدرجة الحرارة؟ الحلّ كان سؤال زملائه اللبنانيين في العمل، فيرد أحدهم: «حار نوعا ما» فيكتب في تقريره أن الحرارة 90 فهرنهايت، ثم يسأل زميلا آخر في وقت لاحق: هل الجو بارد في الخارج؟ وحين يرد عليه المسؤول بالإيجاب يكتب في تقريره، أن الحرارة تقارب 72، «وعلى هذا النحو كان تقرير الطقس يرسل من بيروت»!
الالتحام بالقطيع الإلكتروني
قادت هذه الحادثة توماس إلى شك كبير في طرق تقدير الصحافيين لكل شؤون العالم، وهو ما جعله يطوّر أسلوبا يحاول فيه «تنظيم الفوضى» وبذلك تعلم أن المرء بحاجة لأمرين في آن واحد: النظر للعالم من منظور متعدد الأبعاد والبؤر، وأن ينقل في الوقت نفسه هذا الوضع المركب إلى القراء، في أخبار بسيطة، وإذا كنت تريد أن تصبح مراسلا، أو كاتب عمود مؤثرا وأن تحاول فهم معنى ما يحدث في الشؤون العالمية اليوم «فعليك أن تكون قادرا على القيام بشيء مماثل».
قضى توماس حقبة من حياته في تغطية ما يسمّيه «أمّ جميع الحروب» (الصراع العربي الإسرائيلي) وكانت الصحافة حينها ذات بعدين: سياسي وثقافي، وكان العالم، بالنسبة إليه «مجرد مراقبة الناس وهم يتشبثون بجذورهم واقتلاع جيرانهم من جذورهم» وحين انتقل ليصبح مراسلا دبلوماسيا في واشنطن، صار عليه، إضافة إلى بعدي السياسة والثقافة، إضافة بعدي الأمن القومي وتوازن القوى، وبعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، أصبح واضحا أن المال والتجارة يلعبان دورا أكبر، واكتشف فريدمان «التداخل بين الدبلوماسية والمال» ورغم أن العالم بدا منظورا إليه من أربعة أبعاد، فإن الأمر لم يكن كافيا لفهمه، دون إضافة عنصري التكنولوجيا، التي صارت قوة رئيسية مؤثرة في العالم، والبيئة، التي يمكن أن يؤثر انهيارها في انهيار كل النظم الأخرى.
يمكن اعتبار الفكرة الرئيسية لكتاب توماس فريدمان، أن العولمة هي النظام الجديد للعالم، وأن لا مهرب لأحد من هذا النظام، «الانضمام للاقتصاد العالمي والالتحام بالقطيع الإلكتروني، يعادل تماما طرح دولتك للاكتتاب العام». ينعكس ذلك، على المستوى السياسي، بمزيد من الديمقراطية، عبر الحاجة للشفافية والمعايير ومكافحة الفساد وحرية الصحافة وسوق للسندات. هذه العناصر، باختصار تكشف مدى استبداد أي نظام، وبالتالي مدى قدرته على النجاح أو الفشل.
فاز تحليل فريدمان (جورج) على فريدمان (توماس). المتنبئون فازوا على العقلاء، وكتبت صحيفة «الغارديان» نعيا بعنوان: «وداعا بيغ ماك». لقد أغلقت مطاعم ماكدونالدز البالغ عددها 850 فرعا منافذها في كل روسيا، واصطف الروس، الأسبوع الماضي، للحصول على آخر شطائر برغر معلنة تغلّب الجيوبوليتيك على العولمة.
فروع ماك الأذرية تهاجم أرمينيا!
اقترح توماس في كتابه المذكور، نظرية تقول إن الدول التي تصل إلى اقتصاد متطوّر، تشكّل فيه الطبقة الوسطى قوة كافية لظهور فروع مطاعم ماكدونالدز فلن تكون مهتمة بدخول حروب جديدة. التكامل الاقتصادي بين دول العالم يقلل خيارات السياسة الحربية للحكومات في البدء بحروب. بالعودة إلى كتاب «المئة عام المقبلة» الصادر عام 2009 (أي بعد عشر سنوات من صدور كتاب توماس) يطرح جورج فريدمان، طرحا مخالفا تماما لاستنتاجات نظيره في الكنية، قائلا: «الحرب الأمريكية مع الإسلاميين تنتهي والنزاع المقبل قادم، روسيا تعيد بناء مجالها نفوذها القديم، وهذا المجال سيتحدى بشكل محتم الولايات المتحدة الأمريكية. الروس سيتحركون نحو الغرب باتجاه السهوب الأوروبية الشمالية. مع إعادة بنائها لقوتها، ستقوم روسيا بمواجهة أمريكا في المناطق التي يسيطر عليها حلف الناتو في البلقان ـ ايستونيا، لاتفيا، وليتوانيا ـ وكذلك في بولندا».
تقديرات فريدمان صحيحة، لكنه لم يدخل أوكرانيا في الحسبان، والسبب مفهوم، فالبلاد في تلك الفترة كانت تحت قيادة الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، الذي تولى السلطة عام 2010، وكان نصيرا معروفا للكرملين، حتى قيام ثورة شعبية ضده عام 2014.
تعرضت نظرية «الماكدونالدز» لنقد شديد، أحد أمثلته كان مقالا نشر في مجلة «السياسة الخارجية» لبول موزغريف، أشار فيه إلى أن فروع مطاعم ماكدونالدز، في أذربيجان، شارك فيه فرع مكدونالد الأذري في إعلان تأييده الحرب ضد أرمينيا!
المتنبئون فازوا على العقلاء!
يقدّم جورج فريدمان ملخصا للقرن العشرين، يفسّر عمل الجيوبولوتيك: لشخص كان يعيش عام 1900 في لندن، التي كانت عاصمة العالم، سيرى أن أوروبا تحكم العالم، وأن القارة تعيش في سلام وتستمتع بثراء غير مسبوق. كان اعتماد أوروبا التجاري والاستثماري على نفسها (تصغيرا لفكرة العولمة الحالية) يجعل كثيرين يتوقعون أن الحرب بين بلدانها.
مع عام 1920 كانت أوروبا قد تمزّقت، تحطمت الامبراطوريات الكبرى، النمساوية ـ الهنغارية، الروسية، الألمانية، والعثمانية، ومات الملايين في حرب استمرت أربعة أعوام. لم يكن أحد يتوقع أن تسيطر الشيوعية على روسيا، أو أن تتمكن من البقاء، فيما بلدان كانت على هامش العالم، كالولايات المتحدة الأمريكية واليابان، ظهرتا كقوى كبرى. في عام 1940 لم تكن ألمانيا قد تمكنت من إعادة بناء قوتها الاقتصادية والعسكرية بعد هزيمة كبرى في الحرب العالمية الأولى، لكنها أيضا اجتاحت فرنسا وسيطرت على أوروبا. في المقابل تمكن الحكم الشيوعي في روسيا من البقاء وتحالف مع ألمانيا النازية، وبقيت بريطانيا وحدها في مواجهة ألمانيا. بالنسبة للعقلاء في ذلك الوقت بدا أن الحرب قاربت على النهاية، وأن ألمانيا ستسيطر على أوروبا وترث امبراطورياتها. في عام 1960 كانت ألمانيا قد سحقت وكانت أوروبا قد أصبحت تحت سيطرة قوتين عظميين: أمريكا والاتحاد السوفييتي. الامبراطوريات الأوروبية كانت تنهار، وكانت أمريكا والاتحاد السوفييتي تتنافسان على من سيكون الوريث. حاصرت أمريكا الاتحاد السوفييتي الذي كان، حسب رأي المتوقعين العقلاء، يمكن أن يندفع نحو أوروبا لاحتلالها.
في صيف 1980 هزمت أمريكا بعد حرب سبع سنوات، لكن ليس على يد الاتحاد السوفييتي، بل على يد الشيوعيين في شمال فيتنام. بعد طردها من فيتنام تم طردها من إيران أيضا، ولمواجهة الاتحاد السوفييتي قامت أمريكا بالتحالف مع الصين الماوية، فهذا التحالف وحده كان يبدو قادرا على وقف قوة الاتحاد السوفييتي المتعاظمة. غير أنه في عام 2000 كان الاتحاد السوفييتي قد انهار بشكل كامل، الصين بقيت شيوعية بالاسم لكنها أصبحت رأسمالية بالممارسة. حلف الأطلسي كان قد تمدد نحو شرق أوروبا وحتى إلى بلدان الاتحاد السوفييتي السابق. بدا العالم مزدهرا وهادئا، والجميع كان يعتقد أن مسائل الجغرافيا السياسية صارت عاملا ثانويا أمام الاقتصاد، والمشاكل الوحيدة كانت إقليمية، ثم جاء حدث 11 أيلول/سبتمبر 2001، وانقلب العالم رأسا على عقب مجددا.
فاز تحليل فريدمان (جورج) على فريدمان (توماس). المتنبئون فازوا على العقلاء، وكتبت صحيفة «الغارديان» نعيا بعنوان: «وداعا بيغ ماك». لقد أغلقت مطاعم ماكدونالدز البالغ عددها 850 فرعا منافذها في كل روسيا، واصطف الروس، الأسبوع الماضي، للحصول على آخر شطائر برغر معلنة تغلّب الجيوبوليتيك على العولمة.
كاتب من أسرة «القدس العربي»
لم أقرأ كتاباً لجورج فريدمان أو توماس فريدمان لضيق الوقت او قلة الصبر. و لكن أتابع مقالات توماس فريدمان الاسبوعية في النيويورك تايمز. و هو من النخبة الصحفية الاميركية الممتازة في التحليل السياسي، و المؤيدة لقضايانا بعقلانية، و لم يُسمع عنه أنه ارتشى كي يكتب رأياً غير رأيه.
أكبر خطأ لتوماس فريدمان أنه كتب عن وعود محمد بن سلمان قبل أشهر من احتجازه لأقاربه من آل سعود في الفورسيزون كي يأخد أموالهم. و طبعاً لم يتأخر فريدمان في الاعتذار عما كتبه.
و بكل الأحوال، كذب المنجمون و لو صدقوا!
بعد أحداث أوكرانيا وتحوّل الساسة والأعلاميون الغربيون إلى أبواق انفعالية لحكوماتهم لن أثق بكاتب غربي مرة أخرى.
شكرًا أخي حسام الدين محمد. ربما تنبوأ جورج فريدمان أكثر صحة من تنظير توماس فريدمان لمن الأمور أبعد بكثير أيضًا من تصورات جورج فريدمان.