«خاتم سليمى» رواية السورية ريما بالي: ثنائياتٌ تتجلّى بنصف الحقيقة والتباس اليقين

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

 تتألَّق الروايةُ، وربّما تصلُ إلى ذرىً غيرِ مسبوقةٍ في النجاح إذا ما اكتشف الروائيُّ الثيمةَ التي تحبكُها كما مغزلٍ، وتُخرِجُها عِقداً تتوهَّجُ فيه واسطةً تفوق الإعجاب. وينال الروائي متعة التناغم في الحبْك الذي تمنحه له ثيمته خلالَ جريان الرواية، مثلما ينال قارئُه متعةَ الإحساس بنسيج الرواية المحبوك بالذكاء بعد خروجها. ولكنْ، ماذا عن سلمى؟
سؤال قد يُشعر القارئ أنه في غير موقعه ربّما؛ وإن هزّ سطحَ بحيرة الفقرة/ المَدْخَل، لكنَّ الغرابة تنجلي، عندما يعرف القارئ الذي يقرأ رواية السورية ريما بالي المدهشة «خاتم سليمى»، بعد التمعّن وقسرِ العودة إلى قراءة بعض فقراتِها إن لم يكنْ جُلّها، أنّ ثيمةً تقف في مركز الرواية مثل صوفيٍّ يدور حول الكون ويدور الكون حوله في الآن نفسه، بمولويةٍ لجلال الدين الرومي اسمها كتاب «مثنوي»؛ هي ثيمةٌ لن يستطيعَ غيرُ روائي قديرٍ ومغامرٍ أن يلتقطَها؛ فظلّ طائر الروميّ يجري ويجري خلفه الروائي الصيّاد، تماثلاً مع عالم الرواية، بما تلتبس النتيجة فيه، إن كان يجري خلف الطائر/ النتيجة أم خلف ظلّه الذي هو وهم النتيجة.
ولكن، أليست المتعة موجودةً في نصف الحقيقة، وعدم اليقين؟ أليس القمر في السماء لا في الماء كما يقول الروميُّ؟ أليس علينا أن نتعلّم علماً لا يمحوه الماء كما علّمَ شمسُ التبريزيُّ مريدَه الروميَّ وكما نقلَ الموسيقيُّ الإيطاليُّ شمس الدين هذا العلمَ إلى مريدته وعاشقته بطلة الرواية سلمى/ العطّارة؟
وفي النهاية، من الذي يبقى على يقينه بعد الاستنارة بجُمَل الروميِّ النورانية القلّابةِ لاطمئنان القناعات، حيث تصل سلمى بعد استنارتها بمثنوياته، إلى أنَّ: «أولَ حقيقةٍ توصّلتُ إليها أنه لا وجودَ لحقيقةٍ كاملةٍ، وأنَّه من شبهِ المستحيلِ إدراكُ اليقين». ولكنْ! على هذا، ماذا إن عرَفْنا أن مثنويَّ الروميِّ الظاهرِ ليسَ ثيمةَ رواية «خاتم سليمى»، وأنّ ثيمتَها هي الخاتَمُ، الذي وضعتْه بالي عنواناً لها، وافتتحتْ به الرواية وكادتْ أن تنهيها به، لولا شعورُها أنّ عليها نفضَ يقيننا المطمئنّ الطامح إلى نهايةٍ عاديةٍ سعيدةٍ، بفتحِ الرواية على عدم اليقين.

قمرٌ في السماء والماء

في روايتها المحبوكة تداخلاً بثنائيات الروميّ، وتوأمَتِها بما يشمل كل عوالم روايتِها؛ تضع ريما بالي حكاياتِها الشهرزادية الممسوحة بزيت الواقعية السحرية وشاعرية الأسلوب، في بنيةٍ بسيطة ومعقّدة بآن، تضمّ أربعةً وعشرين فصلاً. نهجس من عددها أو نخترع لها، كما تخترع بطلة الرواية سيلين العطار التي سمّت نفسها سلمى فصلاً يُكمل أسطورةَ سرقةِ خاتمِ سليمان من الشيطان واستعادته، أنّها ربّما تكونُ شهورَ السنتين التي يحدِّدُها شمس الدين، لعاشقته سلمى، ابنة التاسعة عشرة، حين تفصح له عن حبها له، وهو ابن السادسة والأربعين. ويطلب منها لغايات تتكشّفُ عن دوافع غيرِ منظورةٍ، أن تعود لمناقشة حبّها له بعد سنتين، على أن تقرأ كتاب المثنوي الذي أهداه لها.
وفي هذه البنية تصيغ بالي سرديَّتَها التي تتمحور حول الحبّ ومراوغات ماهيته، وفق ثنائياتٍ متضادة، بثلاث شخصياتٍ هي: سلمى، ابنة الطبيب المسلم سامح العطار والمسيحية خريجة الأدب الفرنسي جانيت خوري الذين أحبّا بعضهما وتزوّجا بتضحية نبذ جانيت من عائلتها لها،  ولوكاس أورتيز بيريس، ابن طبيب الأطفال الإسباني المسيحي، وزوجته اليهودية الرسامة إستير، الذين أحبّا بعضهما وتزوجا بعد معارضةِ الأهل كذلك. وثالثهما الموسيقي الإيطالي شمس الدين/ سيلفيو كارلوني، الذي هجرتْه أمه طفلاً بسبب عشقها لرجل فرنسي ما لبث أن عاملها بقسوة، وعادتْ بعد سنتين، أدركتْ فيهما فشل اختيارها هذا العشق، (بما يفسّر طلب شمس الدين من سلمى أن تعود لمناقشة حبها له بعد سنتين خوفاً من أن يصبح ذلك الحقير الذي خدع أمه بالعشق، ودفعه لبلورة مفهومه عن الحب بأنّه كيمياء ملعونةٌ بجينات البشر).
وفي هذه السرديّة لا تكتفي بالي بثنائيات طبيعة شخصياتها، بل تمدّ ذلك إلى المكان، حيث تتنقَّل الرواية بشكل رئيسي بين مدينتيْ حلب السورية، وتوليدو/ طليطلة الإسبانية، اللتين تشبهان بعضهما أيضاً كتوأمين، وتزيد بالي جلاء ثنائية المدينتين بنوسانهما بين ثنائية الماضي والحاضر. تتبلور حلبُ في ماضيها الجميل الذي يُخفي في دِعَتِه وأمانه الظاهر براكينَ الظلم والفساد، وحاضرها في ظلال الثورة السورية التي تنحاز لها الروائية دون مواربة، مع كشفِها لمآثم تحويلها إلى حربٍ أراد لها شياطينُها أن تكون طائفيةً، وتدفعُ الأخ/ بثنائية أيضاً، إلى ذبح أخيه بعد زرع النظام السوريّ الفاسد ما يؤهِّلَهما لممارسة الذبح، تحت جلديهما.
كما تمدّ بالي ثنائياتِها إلى منظومة سردِها التي تُجريها بصيغتين للسّرد: سردُ الراوي العليم الغالب الذي يَجري ويقطعُه سردُ المتكلّم بفاصل نجماتٍ في البداية ثم بسلاسة ذوبان النجمات؛ من سلمى تارةً بعودتها إلى كتيِّبها الذي تسميه «المثنويّ الصغير» المتداخل بمثنوي الرومي. ومن لوكاس بتسجيله لأحلامه الستة في الدفتر الذي أهدتْه إياه سلمى لتسجيل أحلامه الطقوسية التي سترسلها له سجّادةٌ مذهلةُ الجمالِ ببركَةٍ جاذبةٍ وورودٍ حمراء، نصحتْه بشرائها من مخزن تراثياتِها، مرفقةً بستّ شمعاتٍ يحرقُ واحدةً منها كبخور يخلق طقس الرؤيا لكل حلم.
وتُدهِش بالي قارئَها بتوأمةِ خاتم سليمى/ حيث يسمّي شمس الدين سلمى هكذا مماثلةً لها بالملك الأسطوريّ سليمان وسطوةِ قُدرةِ خاتمه على التحكّم بالرياح والجنّ، مع خاتمٍ آخر مماثلٍ صمَّمتْهما سلمى، لها ولمعشوقها الذي حكمتْ شروط وقيم تكوُّنِ صورةِ الحبّ لديه عليها أن لا تكون معه.

تداخلٌ صوفيٌّ

في تجْلِيَتِها لماهية الحبّ، كمحورٍ تتراكبُ عليه مستويات روايتها، تمدّ بالي عوالمَها الممسوحة بالثنائيات، إلى التشابك المدهش مع مختاراتٍ متناغمةٍ وهذه العوالم، من كتاب «المثنوي»؛ بادئةً بحبّ سلمى للموسيقار الإيطالي سيلفيو كارلوني المتحوِّل إلى الإسلام الصوفي باسم شمس الدين تيمناً بشمس التبريزي. ومداخلةِ هذا الحبَّ، كمثال، بجملة الروميّ: «الطائر محلّقٌ في الأعالي، وظلُّه منعكسٌ على الأرض، يُسرع طائراً وكأنّه الطائرَ الحقيقيَّ، ويصبحُ أحد البلهاء صياداً لذلك الظلّ، ويسعى كثيراً من أجل ألَّا يظفر بنتيجةٍ».
وتتابع بالي مشابكاتها، بظهور الحبّ واختفائه في حياة سلمى خلال خوضها لتجارب حبٍّ متنوعةٍ بانتظار تحقّق عشقها، مثل صيّادٍ يطارد الظلّ، متعمدةً ألّا تحصل على نتيجةٍ؛ خوفاٌ من أسرِ الحبِّ لها كما تكتشف، بحواراتها مع شمس الدين بعد كل سنتين، ولفته لنظرها بأنّ هذا التعمّد «هو نصف الحقيقة، والنصف الثاني مازال في علم الغيب». ليجري التشويقُ حول مصير هذا العشق بين رجليها، مارّأً بكيِّها في لقائها التالي مع شمس الدين، بنار احتيار اختيار الحبّ بين دفء لوكاس وصقيعه، حيث يقول لها: «ــ عليك أن تميّزي إذا كان هدفُ بحثكِ هو الحضن نفسه أم صقيعُه؟ ويسألُها إن كانت تتوق «إلى الصقيعِ خوفاً من أن يحرقها الدفءُ بناره؟!»، فتختار: «أن تتحدّى توقَها إلى صقيعه، وأن تجرِّب الاحتراق بدفء نيران لوكاس».
وتدعمُ بالي كشفَها المتداخل مع المثنوي للحبّ، كمثالٍ، بحبّ والديْ سلمى الأسطوري المشكوك فيه من قبلها، حيث تمرّ الهمسات بأن والدها له علاقات خفيّة مشبوهة، تدفعها لسؤال أمّها إن كانت نادمة على قرارها بالتضحية، مع عرض بالي لمشاعر جانيت الملتبَسة في حياتها مع زوجها وعائلته، وانسجامها الظاهري في الوسط المسلم.كذلك اشتياقها لعيش تراثها المسيحي الذي تربّت عليه، وحُرمت منه بسبب تخلّي أهلها عنها، ودَفَعَها  لتَذَكُّرِ الجملة التي قرأتها عليها سلمى من كتاب المثنوي: «ما تظنّه كنزاً، ربّما فقدتَ من جرّائه الكنز».
وفي كل هذا تعيد بالي قارئها إلى تقديم روايتها الذي لم يكن عبثاً فيه التشابك الروائي، بجملة جبران خليل جبران إلى سلمى، التي اختارت أن تماثل اسم بطلتها بها: «إن حياة الإنسان يا سلمى لا تبدأ في الرحم، كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الواسع المملوء بأشعة القمر والكواكب لا يخلوا من الأرواح المتعانقة بالمحبة والنفوس المتضامنة بالتفاهم». وهذا تناسقاً مع جملة الرومي التي تستذكرها سلمى كرؤيا في تعاملها مع قارورة رماد شمس الدين، التي تتخلقُ بعدها مفارقة من مات فعلاً في ختام الرواية ومن حلّ محلَّ مَنْ؟ شمس الدين أم لوكاس الذي سمعت صوتَه يردّد عليها هذه الجملة: «إذا رحلت الحياة… فالله يعطيك حياةً جديدة.». لتكتشف من سؤالها لابنه مانويل أنه تعرّض لحادث، وهو الآن في غرفة العناية الفائقة.

واقعيةٌ سحريّة صوفية:

في طقوسية أحلام لوكاس الرمزية التي لا تخلوا من اطّلاعٍ واسعٍ على تحليل الأحلام، وتَحقُّقِ رؤاها بعدها في الواقع، مع أفكار العطّارة الساحرة سلمى؛ تنقُل بالي روايتَها إلى عوالم الواقعيّة السحرية بنكهة وروح تزاوج الصوفية بالكمومية. وهذا من خلال نقل طبيعة رقص المولويّة الذكورية في الغالب إلى الأنثى سلمى التي ترقص دائرةً مع كونها في حلم الشمعة الرابعة، حيث يدلف لوكاس مع سلمى إلى بيتٍ شرقيّ هو بيت شمس الدين في حي باب قنسرين، ويعيشان طقس رقص المولوية الذكوري الأنثوي، بتوسط شمس الدين الصالة عازفاً على قانونه. وحوله دراويش المولوية يدورون بثياب بيضاء تدفعُ سلمى مجذوبةً للانضمام إليهم على وقع موسيقاه، حافيةً بخفّة وانسجامٍ، وبوجهٍ: «كان يشع نوراً، وقد أسبلتْ عيناها بخشوع راهبةٍ تصلّي، وبنشوةِ عاشقةٍ تمارس الحبّ. برقصةٍ ذاتُ حركةٍ واحدةٍ، تدور وتدور حول نفسها كأنها في دوامةٍ لا بداية لها ولا نهاية».
وتُوصِل بالي من خلال هذا الحلم ورمزيته الأخّاذة ما تريد من تجسيد لمعاني عشق سلمى لشمس الدين، بإحساس لوكاس، الذي يُكمل حلمَه بـاختفاء الدراويش وبقاء سلمى «تدور وحيدةً حول ذاتها، وشمس الدين يعزف». ومن ثم اقتراب لوكاس منها والتصاقه بها مع سؤالها أن تتوقّفَ عن الدوران.
وتتألق سحرية الطقس بمداخلة بالي خاتمَ سلمى ورمزية نوسان عشقها بين رجلين، معشوقٌ يهرب منها إليها، وعاشقٌ تهربُ منهُ إليه، حيث يستمرّ الحلم والدوران بـدفعها لوكاس قائلةً له: «لا أستطيع أن أتوقفَ قبلَ أن يتوقّف العزف، انتظرني يا لوكاس، سأجيء إليك وسأعطيك هذا./ مشيرةً إلى خاتمها، ومانحةً له «قبلةً عذبة.»؛ مع استمرار دورانها حتى اشتعال النار في ثوبها وصراخ لوكاس بشمس الدين أن يتوقَّفَ عن العزف. وأن يدعها تتوقّفَ عن الرقص، واستمرار بالي تحت تأثير ما خلقتْ، بمدّ نسيج طقسها السحري الرمزي إلى هربِ لوكاس بابنه مانويل راكضاً عن النار، حتى توقُّفِ الموسيقى واختفاء سلمى بنارها، لكنْ مع تهدئة ما نويل لأبيه مشيراً بإصبعه الذي يرتدي الخاتم، أنهما سيجدانها هناك.
ريما بالي: «خاتم سليمى»
دار تنمية، القاهرة 2022
304 صفحات.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية