خارج العالم

حجم الخط
19

اقتراح الرئيس الأوكراني مدينة القدس كمكان محتمل للقاء تفاوضي مع الرئيس الروسي يثير العجب. لا أدري كيف ابتلع زيلينسكي تصريحاً أدلى به منذ أيام قليلة بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية لم يعرض عليه سوى الاستسلام للمطالب الروسية؟ أو كيف لم يلاحظ الموقف العنصري الإسرائيلي من اللاجئين الأوكران عبر التمييز الصارخ بين اللاجئين اليهود واللاجئين غير اليهود؟
أستطيع أن أتخيل حجم الورطة التي وقع فيها الرجل، ما يجعله يشعر بالوحدة رغم سيل الكلام عن الدعم الذي لم يفتح أمام بلاده أبواب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وأبقى الدعم في حدود لا تتجاوز خطوطاً حمراء رسمها التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة.
لكن ما لا أستطيع فهمه هو أن يختار رئيس دولة تتعرض للاجتياح والاحتلال مدينة محتلة اسمها القدس كمكان للتفاوض. ما تجاهله فولوديمير زيلينسكي، هو أن الادعاءات الروسية بالحق في السيطرة على أوكرانيا أقل بجاحة من الادعاءات الإسرائيلية بالحق اليهودي في فلسطين. أسطورة روسية مدعوة للتفاوض في مدينة تجسد أسطورة الحق اليهودي. الأسطورة الروسية تستنبط مسوغات تاريخية، أما الأسطورة اليهودية فهي خلاصة المزج بين الدين والعنصرية. وبين الأسطورتين لن تجد أوكرانيا مكاناً لها، إلا كهامش صغير.
الحق ليس على زيلينسكي فقط، بل يقع أساساً على العالم العربي. فبعد احتفالات التطبيع الذليلة، لم يعد يحق لنا أن نعتب على كل الساسة الغربيين الذين يعاملون الحق الفلسطيني والعربي بازدراء.
لكن المسألة ليست هنا.
المسألة هي أننا نعيش في عالم يعيد رسم خريطته بشكل جديد.
الخريطة الجديدة صغيرة وكبيرة في الآن نفسه:
صغيرة؛ لأنها تشمل أوروبا وأمريكا الشمالية. هنا في هذه البقعة الجغرافية يقع العالم الجديد- القديم. عالم يرسم حدوده ويسيج نفسه على كل المستويات، الاقتصادية والسياسية والعسكرية، والثقافية. عملية طرد الثقافة الروسية من الذاكرة تتم بشكل عشوائي ومبتذل، لكنها تحمل علامات قطيعة مخيفة تعيد أوروبا إلى أجواء الحروب الاستعمارية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
وكبيرة؛ لأنها تطرد الجنوب منها من دون أن تطرده، فتحوّله إلى حاضر-غائب. الجنوب غائب لأنه يكاد لا يُرى، وحاضر كسديم متصحّر أو كتلة من الظلال لا يكترث بها أحد إلا بصفتها موانئ استراتيجية أو مصدراً للمواد الأولية، أو فزّاعة للخوف من تدفق اللاجئين.
في هذه الخريطة المكسورة إلى نصفين، هناك عنصر مؤجّل مؤهل للانفجار اسمه الصين.
فالعالم الجديد لا يستطيع طرد الصين من الخريطة؛ لأن العولمة التي صنعتها النيوليبرالية الصاعدة لا تستطيع مواجهة العملاق الاقتصادي الصيني من جهة، كما أنها لا تستقيم إذا بقيت الصين تمتلك كل هذا الجبروت الاقتصادي من جهة ثانية.
هل حرب أوكرانيا هي «بروفة» للحروب المقبلة في المحيط الهادئ؟ وماذا يعني ذلك بالنسبة لدول الجنوب؟
حتى الآن يجد جنوب العالم نفسه في عزلة الاختناق.
لا روسيا التي تحاول استعادة إمبراطوريتها ونفوذها قطعة قطعة، ولا الصين المشغولة ببناء بنية تحتية إمبراطورية، معنيتان بهموم العالم الثالث. فهذا العالم بالنسبة لهما هو مجرد موانئ ومطارات، ولا مانع من دعم أعتى أشكال الاستبداد فيه، كما فعلت روسيا في سوريا.
هذا العالم المهمش فقد هويته، ولا يستطيع أن يقدم شيئاً، بعد سقوط الدول العربية والإفريقية في قبضة العسكر وملوك الرمل والنفط والفساد والعجز. كما أن أمريكا الجنوبية رغم أنها تشكل اليوم الرئة الوحيدة للتنفس، ليست قادرة على رسم استراتيجيات مستقلة.
الحرب الأوكرانية مؤلمة على أكثر من مستوى:
مؤلمة؛ لأننا لا نستطيع أن نرى المأساة الأوكرانية ونصمت أمام حق الشعب الأوكراني في تقرير المصير.
ومؤلمة أيضاً؛ لأن العالم ينعطف إلى حروب قومية تغذيها الأسطورة، (لاحظوا الدور المتعاظم للكنيستين الأرثوذكسيتين الروسية والأوكرانية في الحرب) ولأن هذا المنحى القومي الأسطوري يجري استغلاله في حرب عالمية جديدة، بدأت في أوروبا ولا ندري إلى أين ستمضي.
ومؤلمة أخيراً؛ لأنها تكشف لنا حقيقة أن العالم العربي طُرد أو طرد نفسه من العالم.
الحلم بقرية كونية يتحقق، لكن شرطه هو أن يكون الجنوب مجرد ضاحيته الفقيرة والمهمشة.
عالمنا العربي خارج كل المعادلات، حتى النفط الذي توهمنا أنه أحد أسلحتنا صار سلاحاً ضد شعوب المنطقة.
خواء شامل وعري يثير الأسى، ومثاله المليء بالدلالات هو قيام الروس بالاستعداد لجلب مرتزقة من سوريا للقتال في أوكرانيا!
إنه فراغ القيم الذي يتجسد في فلسطين، فوسط هذه الكارثة الكونية لا هم للقيادة سوى تأجيل مؤتمر حركة فتح، كي تستطيع طرد الأسرى وشبيبة الانتفاضة الثانية من الحركة، فيستتب الأمر لأصحاب الأمر.
يعتقد الإسرائيليون أنهم خارج هذه المعادلة، فهم جزء من العالم الجديد بصفتهم امتداده الاستعماري في المنطقة العربية، وهم حلفاء تواطؤ متبادل مع الروس في سوريا.
لا تستطيع الحكومة الإسرائيلية، في الظرف الراهن على الأقل، كسر هذه المعادلة المعقدة. فخساراتها سوف تكون كبيرة في حال حسمت أحد الخيارين. غير أن هذه اللعبة سوف تكشف عن عبثيتها، وتعري مأزق إسرائيل الأيديولوجي كقوة احتلال وتمييز عنصري.
والسؤال هو لماذا يريد زيلينسكي الذهاب إلى القدس المحتلة، للتفاوض من أجل إزالة شبح الاحتلال الروسي عن أوكرانيا؟
هل الاحتلال الإسرائيلي مقبول والاحتلال الروسي مرفوض؟ أم أن العالم يعيش دوامة موت القيم، ففي الحروب القومية والاستعمارية تصير القيم مجرد مطية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول غياث أبو لحية:

    ألف مبروك للفلسطيني الحر والفلسطينية الحرة وعقبال أبناءكم القدس وغزة.

  2. يقول محي الدين احمد علي:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . العالم العربي في مازق من 1917 من يوم ارسال بلوفر خطاب الى روتشليد تعبير عن تعاطف بريطانيا مع الحركة الصهيونية لقيام دولة إسرائيل في فلسطين وكانت 1948 وده كان اول مسمار في نعش الدول العربية من 1948 حتى يومنا هذا ماذا فعل العرب حروب وهزائم ونكسات وفي اخر المطاف التطبيع مع الكيان الصهيوني وهذا الغلام الاوكراني طلب اجتماع مع بوتين في الأرض المحتلة العالم بيش تغلنا . جزاكم الله خير الجزاء . وشكرا

  3. يقول الدكتور ماهر كيوان:

    كل من أيد سفك دماء الشعب الفلسطيني سيلقى نفس مصير الرئيس الاوكراني الصهيوني ..سيصبح شريدا هائما على وجهه مثل الملك الذليل ..

  4. يقول Ankab Hamza:

    تواطؤ دول عربية بعضها على بعض وكل دولة عربية تسعى لتحطيم دولة أخرى كتلك الدولة الحديثة التكوين من الاستعمار الفرنسي المتعنتة بنفطها وغازها في سعييها باستمرار لتقسيم دولة جارة وتُسَّخر عوائد نفطها وغازها لجلب المرتزقة دول جنوب الصحراء وتسلحهم بشكل فاضح وخطير على المنطقة بأكملها في صمت عربي متواطأ مع هده الدولة التي تسعى لتقسيم صحراءه وعندما تلجأ لما يخدم مصالحها الإقتصادية مع أمريكا وولايتها 51 إسرائيل التي تسد دلك الفراغ العربي وتعتزم دهم وحدته الترابية تمكنه من مواجهة تلك الدولة النفطية الخبيثة المدعمة من روسيا في المجال العسكري والسياسي وعندما تحدث فرقا ملحوضا في علاقتها مع أمريكا وإسرائيل وتعزز وحدتها الترابية تجعل الدول العربية ترمي غبار نفاقها لدعم وحدتها الترابية في وقت متأخر جدا وفي نفس الوقت يهاجمون بإعلامهم لمادا طبعت مع إسرائيل وهم لم يتفوهون يوما ما مدة خمسة عقود بكلمة إذانة لتلك الدولة النفطية الخبيثة المتواجدة في شمال افريقيا من سياستها التي تخدم الغرب في تقسيم اراضي جيرانها وتفقر شمال افريقيا حقدا وحسدا
    فتعلموا من الغرب كيف وقفوا مع أوكرانيا دون توريط أنفسهم في الحرب ومنعوا الروس من استعمال السلاح النووي

  5. يقول سيف كرار... السودان:

    مبروك علي الفلسطينيه الحره العرض.. اربطوا الاحزمه للإقلاع…

  6. يقول سرحان الزبيدي:

    لأنه “إسرائيلي” وأداة ورّطه المجرمون الأمريكان والعنصريون البيض في قذف بلده في فم الدب الروسي وقالوا له ” قالوا يا موسى إنا لن أدخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون” ولا أدري لماذا يتجاهل المحسوبون على الثقافة العربية الدور الإجرامي الذي يلعبه العنصريون القوميون في أوكرانيا !؟

  7. يقول ابويونس:

    ياعمي هذا الرجل يهودي اوكرني وغرد لصالح الإحتلال عندما دمروا ابنية غزة وقتلوا اهلها
    إنه يريد بذلك إشهار إنتمائه لمحتلين فلسطين ، وكأنه لم يذق طعم الحرب وغزو البلد الذي يعيش فيها

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية