«أنت لا تحب السياسة، فقط تكره الظلم وتكره مبارك ونظامه بكل ما يمثله من انحطاط، وتحلم بعالمٍ عادل وحياة كريمة، لكنك لا تحب السياسة أبداً ولا ترى نفسك قائداً جماهيرياً أو نائباً يهتف الناس باسمه قائلين (عاش موحد الأديان)، تحلم فقط أن تتفرغ للموسيقى والقراءة والكتابة وشكراً» عمر قناوي «خبرني العندليب» في عالمٍ متلونٍ متنوعٍ، منذ كان.
عديدةٌ هي الرؤى والتقييمات لأي حدثٍ أو فكرة، وبالطبع فإن الانحيازات الفكرية والاجتماعية والتكوين الذهني، والاستعداد النفسي تؤثر وتحكم ذلك بدرجةٍ كبيرة، ومع تقديري لقيمة الموضوعية وإمكانية التحليل العلمي، فإنني أعترف بأنه في أحيانٍ كثيرة وأمثلة عديدة فإن كلمة موضوعية تُلوث وتبتذل وتضحى محض غلالة أو ستارٍ من التجرد والحياد، لتمرير وجهة نظرٍ وانحيازٍ مسبق؛ لا يعني ذلك أنها مستحيلة وإنما أنه يتعين عليك أن تتحرى وتتشكك، أن تتحسس رأسك.
انحزت لثورة يناير من قبل أن تولد، انتظرتها وكتبت لها وأعتبر نفسي على ذلك مشاركاً فيها، ولو بشكلٍ متواضع، على الأقل فإنني إذ أكتب ذلك إنما أتخذ قراراً واعياً بتحمل تبعة وثمن هذا الانحياز وذلك الموقف، وعلى ذلك فإنني لا أحتاج لبذل مجهودٍ أو عناء لأقرر قناعتي، بأن ثورتنا قد هُزمت، وأننا نقبع في ظلٍ كئيبٍ من ثورةٍ مضادةٍ بامتياز، حقبة لا أستطيع أن أجزم كم ستطول.
في ما مضى، في فتراتٍ رماديةٍ كتلك، عكف المهزومون الجادون على النظر في تجربتهم الثورية الخاصة، وفي ثورات التاريخ ، في تفاصيلها وملابساتها، في تحركات الكتل الجماهيرية، ودور الأحزاب والطبقات وأركان الدولة، في المفاجآت واللحظات الحرجة والمواقف الفاصلة، في محاولةٍ للبحث عن أسباب الفشل. لم أشذ عن ذلك، وعلى الرغم من قناعاتي الشخصية، ببعض الأسباب الرئيسية للهزيمة، وعلى رأسها غياب الحضور الجماهيري الكثيف لتنظيماتٍ ترشدها نظريةٌ ثوريةٌ متماسكة، تمكنها من سد الفراغ وتصدر المشهد، ومنطلقاً من رغبتي في البحث والفهم لتجنب تكرار الخطأ، فإنني أنشأت أبحث وأسأل عن ما كتب حتى الآن عن هذه الثورة، فهداني صديقٌ عزيزٌ باحث إلى كتابٍ قصيرٍ يوفر سرداً سلساً ودقيقاً للأحداث، وإن لم يتفق مع خلاصته.
«خبرني العندليب» – عاشق منذ الصغر لفيروز ـ لا بد أن أعترف بأن العنوان شدني، ولم يلبث النص نفسه أن يزيد من تلك الجاذبية، فهو يسرد ببساطةٍ من دون أي تكلف تفاصيل علاقةٍ غريبة نشأت بالصدفة البحتة (أو على الأقل هذا ما يتصوره الكاتب) بينه وبين شخصٍ كان يختلف إلى المكتبة التي يعمل فيها لشراء الكتب. شيئاً فشيئاً تطورت العلاقة فصارا يتحدثان في الشأن العام والسياسة والتوريث، الذي كان يشغل الناس حينها، والسؤال المتسط على الكل: إلى أين يمضي البلد؟
كان البلد يغلي، وثمة قناعة ترسخت لدى معارضي نظام مبارك والناشطين بأن البلد مقدمٌ على كارثة، وأن هذا الوضع يستحيل استمراره، فقد أُسست حركة كفاية، ودخلت وسائل التواصل الاجتماعي وسيلةً ووسيطاً على ساحة التفاعل والحراك، بتأسيس «كلنا خالد سعيد» على سبيل المثال. فوجئ الكاتب مع الوقت وتوطد العلاقة، أن ذلك الشخص ليس مرتاداً عادياً، إنما هو يخبره بأمورٍ خطيرة ستقع من قبيل، سلسلة من الحرائق اجتاحت القاهرة في 2008 كمجلس الشورى والمسرح القومي، ثم أنشأ يُسرّ له بأن هناك في السلطة من يحملون هم البلد، يخافون عليه ويعملون على حمايته. لاحقاً سيتحدث عن «قلب الدولة الصلب» ( ذاك الذي عرف بعد الثورة بالدولة العميقة) مخبراً بأن أعمدةً قوية وشخصياتٍ ذات ثقلٍ في المنظومة الأمنية والاستخبارية، لم تكن راضيةً عن مجرى الأحداث من توريثٍ وبيعٍ للأصول الاقتصادية للبلد.
الأهم من هذا وذاك أخبره بأنهم كانوا يتوقعون ويتحسبون، يقيناً، نشوب ثورة في البلد ويحملون تصوراً عن أدوارٍ ستلعبها أطرافٌ عديدة، بعضها معروف كأيمن نور المرشح الرئاسي السابق، وإبراهيم عيسى الصحافي المعروف، على سبيل المثال. باختصار كانوا قد وصلوا إلى قناعة بأن مباركاً وجوقة أحمد نظيف صاروا خطراً ويشكلون عبئاً على البلد والنظام.كان يسرب له معلومات قبل كل خطوةٍ يتخذها النظام وتحدث بالفعل، كما أخبره منذ الأيام الأولى أن مباركاً راحل، وأن القرار قد اتخذ للإطاحة به، كما كان يوضح له صراعات الأجنحة في السلطة، والعداء من قبل الجيش الذي قد يصل حد الكراهية للداخلية وتحديداً جهاز أمن الدولة وممارساته.
في الكتاب سردٌ دقيق لأيام الثورة المتتالية ومشاهدات الكاتب عمر قناوي ومواقف عايشها وكان في قلبها في ميادين الثورة وشوارعها. إلى جانب المتعة (وهي متحققة) فإن الكاتب الذي لا أشك في مصداقيته يكشف زاويةً أخرى ومهمة في تقييم 25 يناير: أن أطرافاً في المنظومة الأمنية – الاستخبارية، وتحديداً تلك التابعة لوزارة الدفاع أو تدور في فلكها، لم تكن تتوقع ثورةً فحسب، وإنما كانت تنتظرها، بل رحبت بها.
الواقع معقد ينبغي أن نبحث في تفاصيله ونحاول تحليلها للوصول إلى قناعاتٍ وتصوراتٍ تتسق وانحيازاتنا السياسية
لم تبارحني قناعةٌ مذ سقط مبارك بأن الجيش اتخذ قراراً بالتضحية به، حفاظاً على تماسك المؤسسة والدولة والنظام، وهو ما بسطته وأعدته في مقالاتٍ متكررة على صفحات «القدس العربي»، إلا أن ما يطرحه عمر قناوي في كتابه الممتع، أن الأمر يتخطى ذلك للترحيب أو الارتياح بذهابه، بل ثمة إشارات للتسهيل، كواقعةٍ يذكرها عن أمرٍ صدر لمجندين في القوات المسلحة بالاعتصام في ميدان التحرير، ومشاهدة فوهة دبابة تابعة للجيش متمركزة أمام مديرية أمن الجيزة، تصوب مدفعها نحوها في إشارةٍ ودلالةٍ لا تحتملان اللبس. لا ينفي ذلك أبداً أن التضارب والارتباك صبغ تصرفات النظام، خاصةً في المرحلة الانتقالية، ما قد طمس تلك التفاصيل، كما لا ينال أو يقترب من الحقيقة الأساسية، التي لا يشكك الكاتب فيها البتة، كما أكد لي في تواصل معه: أن الفعل الأولي بجدارة ومن دون نزاع هو حراك الجماهير الثوري وأن «قلب الدولة الصلب» كما اختار مصدره أن يسميه ركب الموجة، تلك التي توقعها ودرس احتمالات تفاعلاتها قبل ذلك.
مهمٌ في رأيي أن نقرأ وجهاتٍ نظر مختلفة، نقبلها أو نرفضها، نرحب بها أو نهاجمها ونفندها، نقبل تفاصيل ونرفض أخرى، إلا أننا لا نملك رفاهية الاكتفاء بإسقاط تصوراتنا المستقاة من قناعاتنا الفكرية وانحيازاتنا الأيديولوجية، النابعة من تجارب شعوب أخرى وثورات سابقة على الواقع الخاص لبلدٍ بعينه، من دون الالتفات للخصائص والتفاصيل. لكن الكلام لا يكتمل من دون الإشارة إلى ما لم يقصده الكاتب، وإن برز جلياً عبر صفحات الكتاب، أن البطل الحقيقي للكتاب ليس مصدر المعلومات، ذلك الرجل الغامض، وإنما الكاتب نفسه ومن يمثلهم، فمطالبه كمطالبهم بسيطة، ما يفسر كم الإحباط الذي تملك الناس حين لم يجنوا من الثورة ولو أبسط المكاسب، بل وعدموا القليل الذي كان لديهم مع صعوبة المعيشة من انفلاتٍ أمني وتضخمٍ واشتعالٍ جنوني للأسعار.
هو حكاء، يحكي حكايةً أو «حدوتة» عاشها ولم يزل، يجد صعوبةً في تصديقها لولا يقينه بأنها حدثت بالفعل، يحكي ببساطةً وتواضعٍ جم، أعجب أيام عمره، وربما أكثرها ثراءً حين أوشكت أحلامه على التحقق، حين رأى آماله تحلق عالياً ثم ما تلبث أن تسقط متحطمةً على الأرض، مع ارتباكات المرحلة الانتقالية وخيبة الأمل في الإخوان ومرسي، الذي انتخبه، ومن ثم العنف وجريمة رابعة الكارثية، كما وصفها في كتابه اللاحق والمتمم «الثورة المصنوعة»، حيث يفقد يقينه كما كتب بالحرف.
لا شك لديّ أنه يمثل الكثيرين، ملايين من دون مبالغة، سقطوا بين براثن الإحباط والحيرة، بيد أن الكتابة والتوثيق في حالته (وربما من دون إدراكٍ منه ) تصبحان عملاً تحررياً. في خضم الأحداث والمشاغل ربما فاتته بعض التفاصيل التي قد يرويها في معرض الكلام والجلسات وكم كانت لتفيد لو أن الكتاب شملها.
الواقع معقد، بل شديد التعقيد، إلا أننا ينبغي أن نبحث في تفاصيله ونلم بها قبل أن نحاول تحليلها ومن ثم الوصول إلى قناعاتٍ وتصوراتٍ تتسق وانحيازاتنا السياسية، وقد يعني ذلك أن نصل إلى اكتشافاتٍ قد تكون مزعجة في بعض الأحيان، إلا أن ذلك لا ينفي احتياجنا للتعامل مع هذا الواقع، بكل رثاثته وقبحه وفظاظته، وإلا سنستمر في تكرار الأخطاء نفسها وحصد المزيد من الهزائم.
كاتب مصري