خلال إطلالة فيديو قصيرة بالغة الذكاء لأنها تجمع بين السخرية السوداء والمرارة المأساوية، يناشد الفتى الفلسطيني الغزاوي مستمعيه أن يُدخلوا نبتة الخبيزة في التاريخ؛ «لازم لازم» لأنها، كما يقول بلهجته الغزاوية المحببة: «وكَّفت [وقفت] مع القضية الفلسطينية أكتر من كتير دول». وفي ظلّ الحصار والمجاعة التي يعاني منها أهل القطاع، يتابع عبود، ليس من السهل الحصول على الخبيزة، وهنالك مخاطر جدية تواجه الباحثين عنها، من جهة أولى؛ وأمّا من جهة ثانية، فإنّ النبتة البرية باتت مطلوبة أو حتى لا غنى عنها، ويستخدمها الغزاويون بدل أكلات كثيرة: «بدل وركَ العنب، خبيزة؛ بدل الملوخية، خبيزة؛ بدل الملفوف، خبيزة… لإنه ما ضل إشي غير الخبيزة».
وسوى المخاطر المباشرة للأطفال والنساء والرجال الباحثين عن النبتة، ثمة ما تعرّضت له حقولها من تلوّث غير مباشر عن طريق أعمال القصف الإسرائيلية واستخدام قذائف طافحة بمختلف المواد الكيميائية السامة؛ وهنالك حملات إسرائيلية منهجية تتعمد استئصال النبتة، ضمن سياسة أحقاد قديمة ومتأصلة ضدّ النباتات الوطنية الفلسطينية عموماً، أو تطبيقاً لسياسات تجويع أهل القطاع بصفة خاصة. سبب أوّل وراء الضغينة الإسرائيلية يعود إلى أنّ الفولكلور الفلسطيني متنوّع الميادين، وهو أيضاً سجلّ عالي الأمانة للعادات والطقوس والتاريخ الطبيعي والأنثروبولوجيا، يطلق على الخبيزة تسمية «ربيع المعدة»؛ بما يعنيه اللقب من منافع صحية وبدنية، لا يروق للاحتلال أن يتمتع بها أبناء فلسطين.
سبب آخر، أجدر بأن يكون توراتياً وفقهياً/ حاخامياً، هو ما جاء في سفر أيوب عن الخبيزة، 30: 1ـ4، تحت مسمى «الملاح» من دون أن تغيب الصفة الخُبزية للنبتة عن نبرة الشكوى والتذمّر من جانب نبيّ اشتُهر بالصبر: «في العوز والمحل مهزولون، عارقون اليابسة التي هي منذ أمس خراب وخربة/ الذين يقطفون الملاح عند الشيح، وأصول الرتم خبزهم». هذا مع العلم أنّ ابن سينا منح اليهود فضيلة اقتسام النبتة مع الفلسطينيين حين اختار لها صفة عشبة يهودية، ورحّالة عديدون في أصقاع الشرق الأوسط (وحلب تحديداً) سجلوا أنّ الجاليات اليهودية اعتمدت على النبتة لتحضير الحساء؛ عدا بالطبع عن فوائدها الطبية الكثيرة.
وليس من المستبعد أنّ حقد الاحتلال على الخبيزة، الذي يشتدّ هذه الأيام بصفة خاصة ولكن ضمن نهج معمم يمتدّ على كامل عقود المشروع الصهيوني في فلسطين، لا يبتعد كثيراً عن عراقة تاريخ هذه النبتة؛ سواء بمعانيها المطبخية الحافلة التي تشمل فراعنة مصر، ولا تنتهي عند قدماء الرومان؛ أو بمعانيها الأسطورية، حين شاع أنها نبتة تحت وصاية فينوس إلهة الحبّ، أو أنّ غرسها بمحاذاة القبور تحمي الموتى من أذى الأرواح الشريرة.
وكتاب «النباتات البرية الغذائية الفلسطينية»، الفريد في اتساع أبحاثه النوعية، والذي حرّره عمر امسيح تسدال المُحاضر في الجغرافيا والدراسات البيئية في جامعة بيرزيت، وصدر في سنة 2018 عن مركز خليل السكاكيني في رام الله؛ يسرد العشرات من الأعشاب البرية التي تُستخدم في إعداد أطباق شتى من الأطعمة، حيث تنويعاتها مذهلة ومفاجئة: نبتة الحِمصيص (حميمصة، سنينة، ركيبة)؛ أو السيسَعة (جَليبنة، جَلَثون، اسيبعة، اصيبعة)؛ أو الخس البرّي (ذِّبّح، ذنّبح، هِندباء)؛ أو قُرص ستي (قُرطة، خُبزة الراعي، طبَق الراعي، المطبَّق، الحلزونة)…
ويشير تسدال إلى أنّ النباتات البريّة الصالحة للأكل تنمو «دونما حاجة للإنسان، حيث تُعدّ بعضها نباتات سنويّة تنمو في الربيع والصيف لتنتج أوراقاً وسيقاناً وأزهاراً صالحة لأكل، ومن ثم تنثر بذورها لتنمو مجدداً في موسمها المقبل»؛ وهذا تفصيل قد يُفرح صديقنا عبود، الفتى الغزاوي، لأنه يؤكد عجز الاحتلال الإسرائيلي عن مقاومة الخبيزة، أياً كانت الأضرار التي يُلحقها بالنبتة. أيضاً، في تفصيل آخر مثير حقاً، يوضح تسدال أنّ «قطاف النباتات البريّة يعدّ ممارسة ذات طابع جندريّ، حيث تملك النساء المخزون الأساسيّ للمعرفة والخبرة في هذا المجال»؛ وهذا تكريم إضافي للمرأة الغزاوية التي لا تقطف الخبيزة فقط، بل تغسلها وتنظفها وتطبخها… تحت تهديد دبابة إسرائيلية هنا، أو قاذفة وحوّامة ومسيّرة هناك.
وفلسطين، بوصفها في قلب بلاد الشام ومنطقة الهلال الخصيب كما يوضح تسدال، كانت على صلة وثيقة مع التطور الزراعيّ الحاسم الذي شهد تحويل النباتات البريّة إلى أهم المحاصيل والحبوب الغذائيّة المعروفة (القمح والشعير والحمّص والكتّان والعدس والبازلاء والكرسنّة…)؛ وللمرء أن يتجول في هضاب فلسطين وسهولها ليجد نباتات بريّة منحدرة من تلك السلالات، تنمو دون تدخل بشريّ. ويكتب تسدال أنّ اللائحة المختارة في كتابه لبعض النباتات البريّة الصالحة للأكل والمتواجدة في هضاب الضفّة الغربيّة، هي «ذات أهمية في ظلّ التحديات البيئية المقبلة وبناءً على الموروث الثقافيّ والعلميّ الفلسطينيّ»، فضلاً عن طراز خاصّ من مقاومة سياسات الاحتلال الاستيطانية والعنصرية ضدّ البشر والزرع والحجر.
وقبل أسابيع سبقت عملية «طوفان الأقصى»، ألقى رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو خطبة من سدّة الأمم المتحدة، رفع خلالها خريطة ما سمّاه «الشرق الأوسط الجديد»، خالية تماماً من تسمية المكان الفلسطيني؛ ولعلّ الفتى عبود، صحبة خبيزة غزّة وعموم فلسطين، تكفّل بالصفعة الأوضح على صفاقة دخيل فاشيّ، سليل شذّاذ الآفاق.