منذ أنْ خرجَ الملكُ كلكامش لحربِه الواهمة،
كانتْ أوروك تحلمُ بالحرية، تبحثُ عن خبزٍ وماء،
عن بلادٍ لا تغوي أحدا بالخطيئة، ولا تفتح اأسوارها للعابرين..
الملكُ يشتري المدنَ لأخطائه،
والحروبَ لغلمانه،
والحصونَ لشياطينه..
أوروك عصيةٌ مثل مراهقةٍ جبلية، لا تعرف الملكَ، ولا اللصَ،
أنوثتُها تفيضُ بالعسلِ ورائحةِ المسك..
ترشّ دفئها وسحرَها مثل خمرةِ الليل،
تُسكِر العابرَ بالشهواتِ، توهمه بأخطاءِ الطرقِ، واخطاءِ الوقت..
تعرفُ أنّ أنكيدو هو الولدُ الصالحُ، وأنّ جلدَه اليابسَ يعوي
مثل ذئبٍ، يدعوها للخصب،
لا لذةَ هنا سوى طينِ الجسد، إذ يصعدُ الخلقُ أبهّةَ الأشياء،
يُبادلها الشهقاتِ، والاعترافَ،
يطالسُها بالأصابع،
يفتحُ لسرائرها قراطيسَ المعنى، وشبقَ الاستعارات.
الملكُ كلكامش يشبه الجنرالَ تماما، يطوي الطرقَ أمامه،
يشتري الوقت كلّه، يوزّعه كالمواسمِ، والفرائسِ، والعطايا،
يضاجعُ النساءَ بالمواعيدِ العابثة، لا تعنيه الراياتُ، ولا الوجوهُ،
الكلّ في أوروك عاطلٌ عن الأسماء، إذ لا نصيبَ للجسدِ سوى موته الساطع..
أنكيدو ليس خلّه، ولا خليله، ولا ظلّه.. هو ندّه، عواؤوه،
ما كان له أن يكون إلّا أسطورته الباهلة، إذ تسقطُ القرائنُ والأقنعةُ مثل الحجر،
وليكنْ الجسدُ المبللُ بالرغباتِ حاضرا عند السريرِ، متوّجاً، متوهجاً، ساخناً.
له سكرةُ الليلِ، نداءُ الطبيعة، شغفُ الاكتمال…
آه أيها الولدُ الصالحُ، كيف لك أنْ تبادلَ كلكامش أوهامَه؟
وكيف لك أنْ تُرمم الغابةَ والسريرَ وألحانةَ، لتُدنّسَ المعنى بالتأويل،
وتؤّنث العالم من حولك، إذ لا عشبةَ للخلاصِ، ولا ليلا يضيق بالشهوات..
وحدكَ أيها الصالحُ ترسمُ للأشياءِ أسفارَها،
يطلقُ لك المغنون أبواقَهم،
وتعرى النساءُ عن بياضِ الغوايةِ، وعذوبةِ التضرّع..
ما كان لليليك أنْ يكونَ، ولا لعشتارَ أنْ تقايضك باللذة، لولا ما تبغيه، أو ما ترحل إليه، حيث الأقاصي، والأضاحي، وحيث المدنُ التي لا تأويك،
أوروك، سيدةُ المدنِ، بيتُ الماءِ، غابةُ الحواس، ليلُ الصناجات، تستيقظ للخصبِ، تجرّك إلى حفلِ طقوسها، توهبكَ الشبقَ، لتكشفَ عن ريشِ الجلد وهو يطير، أو يغلو في الهذيان..
ما كان لوليمتك المقدسة أنْ تنحرَ القرابين، أو أنْ تُخرجك من الغابة، لولا ما تعاقره من خمرِ الفكرة، وطوفان العبارة، إذ تصعد بالفمِّ الناصعِ حدّ الهتافِ، تستدعي الأنثى، تطأها، مبلولا بماءِ العشبة، لترى ما يهبطُ من غيمِ الجلدِ، وما يصعدُ من بوحِ أصابعِك الملتاثةِ بالطين..
تسهو عن كلكامش، عن سيرةِ رحلته، أو حربهِ الواهمة، فأنت الماسكُ بالعشب، والطاعنُ بالجلد، والواهبُ في الطين.
تتصيّر روحَ الخلقِ،
تركضُ كالعدائين إلى أقصى المعنى، المعنى لا تتوارثه العشبة،
بل أنتَ،
أنتَ الولدُ الصالحُ، الصاعدُ في عرباتِ الحربِ، حيث الأطفالُ المبذورون بمائك، يتهجّون تعاويذَ الموتِ، بعيدا عن أورورك،
أوروك لا تشبهُ كلكامش،
لا تشبهُ طاغيةَ الليل، لا تسعى خلفَ الأثرِ، تتقصى ذاكرةَ المحذوفِ، تتوهمه الغاطسَ في أخطاءِ الحرب، والباحث عن أوهامٍ راكضةٍ كالعربات،
أو أوهامٍ طاعنةٍ بالسهو، وعالقةٍ كالأسلاب على حبلِ الخوف..
أيها الولُد الصالحُ، الخارجُ من الغابةِ إلى الحانة،
الواهب مثل الغيمة ماء الملكوت..
كيف سترمم حولك ما ترميه الحرب
وما يصنعه الملك العنين؟
فأنت تدورُ كما الوقتُ، لك الخزائنُ، والطوالعُ
لك الطرقُ المسكونةُ بالياقوتِ والزبرجدِ، ولجلدِك المتحوّلِ رذاذُ العنّاب،
وعطرُ النارنجِ، وماءُ الليلِ…
كنْ وريثَك، كنْ خنثيَك..
إحملْ ليلَكَ، ونصفَكَ الأنثوي إلى الغابةِ، لا تتركَ النصفَ للملك،
فالملوكُ يأكلونَ الشاةَ والطاولةَ، ويرشّون الليلَ بالمعقماتِ والخمورِ الثقيلة.
خذْ أوروكَ، رممْ أسوارَها باللذةِ، لا تتركها لحروبِ كلكامش الخائنة،
ولا لأوهامِ أعشابه المعلولةِ بالسمِّ،
فما كان لأوتونابشتم سوى أنْ يسخرَ منه، ليتركَه لأوهامِ الأفعى، ولشهوةِ النعاسِ، وما كان له أنْ يصطاد الخنزيرَ سوى أن يلتاث بالخطيئةِ، وأنْ يصدّق أنّ حربَه خادعةٌ، وأنّ ليلكَ الخنثويَ هو اللعبةُ عند أسوارِ أوروك…
أيها المخدوعُ والخادعُ
أيها الواهمُ والموهومُ
سترى، خلفَ أسوارِك، المسبياتِ، وخلفَ ضحاياكَ، عربات تركضُ في الفراغ، وأولادا عراةً من الخديعة، ونساءً يحملنّ القرابينَ والثيابَ والأثداءَ إلى حربِك القادمة…
الحربُ خادعةٌ دونَ أنكيدو، ودونَ العشبةِ، ودون عشتار ودون سيدة الحانة..
وحدك تصدّق حربك الضالة، تشتري لها الجنود والأقواس والسموم والعربات، والطرق الغامرة بالفخاخ.
وحدك تصدّق الغابة، وخمبابا،
وحدك ترى العدو يركض نحوك،
وحدك ستظل مخدوعا وباحثا عن حروب تخدعك دائما…
٭ كاتب عراقي
نص جميل …قدرة ابداعية لتحطيم نظرة الجموع المهللة لاسطورة يختبئ تحتها الاسم المستمر للملك او قائد جيوش الخراب لكبح الانتقال الطبيعي نحو حياة اسلس .. تكثيف لاسطورة تارة يقودها جلجامش واخرى اللطم ..كي تبقى اسطورة السطوة.