ظهر النائب الكويتي المعارض د. عبيد الوسمي، وهو نائب سابق ومعارض سابق كذلك حيث تغير موقفه السياسي والسلوكي بشكل جذري ومفاجئ وهذه قصة أخرى، في إحدى ندوات حملته للانتخابات الكويتية الأخيرة والتي خسرها هو في صورة بليغة الرسالة، مجيباً عن سؤال حول سن تقاعد المرأة، حيث قال في عارض إجابته أن “بعض السيدات إنتاجها كبير، فهذه السيدة تقدم للدولة خدمة… من عندها أربعة أو خمسة أو سبعة أولاد، ليست كمن عندها ولد واحد، احتياجها كسيدة أكبر”. وعلى أنه بدا محاولاً إنصاف المرأة، خصوصاً صاحبة الأبناء الكثيرين والعائلة الكبيرة، إلا أنه لم يفشل قط في استخدام لغة أبوية ومفاهيم قديمة ومفردات وعبارات ذكورية في تعبيره عن الفكرة، لتأتي دلالات خطابه مشيرة إلى الدور المتوقع والمحمود من المرأة، ذلك أن السيدة ذات الأبناء الأكثر بحاجة لرعاية أكثر من الدولة لأنها تقدم خدمة لها، عائداً بخطابه هذا، أياً كان غرضه أو هدفه أو السؤال الذي بني عليه، إلى فحوى بدائي جداً، مضمونه ينحصر في أن قيمة المرأة محصورة في جسدها وخصوصاً من زاوية “خدمة” الإنجاب التي تقدمها والتي يفترض أن تكون هي غاية هدفها ورسالتها في الحياة.
وإذا كان الإنجاب خدمة تقدمها المرأة للدولة، ألا يفترض ذلك، منطقياً، أنها خدمة يقدمها الرجل كذلك؟ الإنجاب عملية لا تستطيعها المرأة منفردة، على الأقل في الوقت الحالي، ذلك أن العلم والتطور الجسدي بعد لم يستقلا بالمرأة ككائن غير ذي حاجة للرجل في عملية الإنجاب. وعليه، فإن الواجب هذا يطال الرجل كما المرأة. بالتأكيد، فإن العبء الجسدي الذي تنفرد به المرأة في عملية الحمل والولادة سيتطلب رعاية، ثم استحقاقات خاصة نظراً للحالة البيولوجية المفروضة عليها، لكن هل تلزمها هذه الحالة البيولوجية بالرعاية المستقبلية المنفردة للأطفال، وهل يصبح “زيادة المواطنين” دورها وواجبها منفردة تجاه الدولة؟ المثير للانتباه والتعجب في هذا الأمر أن النائب السابق الفاضل غير متزوج وليس له أولاد، وهذا شأن خاص به، وحياته الخاصة لا يجب أن تكون مشاعاً للحديث، لكنه استجلبه هو بنفسه حين حدد الإنجاب كخدمة تقدمها المرأة، ما يستدعي السؤال حول “تقصير” الرجل كذلك.
لكن موقف النائب ليس غريباً ولا جديداً، فالمجتمعات البشرية عموماً، والشرقية تحديداً، تحصر أدوار المرأة وأهميتها كإنسان، بل والقوانين التي تنطبق عليها وبسبب جسدها، فأحد سبل تقييمها للزواج هو جمالها، وقوانين مظهرها وملبسها مبنية على فكرة “إغواء” جسدها، وقواعد الشرف والحفاظ على العِرض كلها قائمة على التعتيم على وجودها والمحافظة حد الاستماتة، ولربما “إماتتها” هي، على عذريتها، وأهم أدوارها اجتماعياً بل ودينياً كذلك هو إنجاب الأبناء، لدرجة أن الجنة تصبح عند قدميها حال إتيانها بهم لهذه الحياة، حيث تكتسب المرأة صفة أقرب للقداسة حين تتحول من “مجرد” امرأة إلى أم. هذا التركيز التقييمي على الجسد يُفَعِّل بقوة كل الجهود الذكورية “للمحافظة” عليه وصيانته وحمايته وإخفائه عن الأعين الطامعة والتقنين له ليصبح في متناول يد الرجل وفي حيز سلطاته.
ورغم كل هذا التركيز على جسد المرأة، ورغم كل التقييمات الاجتماعية والتقنينات الدينية والمدنية بل والبناءات السياسية والاقتصادية المرتكزة جميعاً على الوجود المادي لهذا الجسد، إلا أن اعترافها هي بجسدها، بحاجات هذا الجسد، بجنسيته وجنسانيته، أو محاولتها لأخذ زمام أمورها بيدها كلها تعتبر توجهات خارجة مشينة ودلالات على طغيان هذه المرأة ومحاولة تمردها على مجتمعها و”طبيعتها” البشرية. المرأة، وخصوصاً في مجتمعاتنا الشرقية، لا طيف متنوعاً لمواقعها الحياتية والإنسانية، هي إما أم أو شيطانة، قديسة أو بائعة هوى، صانعة أو محطمة للبيت والأسرة، كل ذلك وهي موصومة دوماً بالعاطفية التي تحجب عنها القدرة على الحكم المنطقي وضبط النفس. أي تناقض فكري وأي مرض نفسي تعكسه هذه الأفكار عنيفة المنحى؟
إذا كان الإنجاب مفروضاً بيولوجياً على المرأة، أليست التربية والرعاية واجب الرجل والمرأة معاً؟ ألا يفترض أن نقول إن خدمة الإنجاب مقدمة من الطرفين وواجباتها ومن ثم مستحقاتها مفروضة ومكفولة على الطرفين ولهما؟ أم أن فكرة أن الإنجاب خدمة يقدمها الرجل مرفوضة ذلك لأنها تستدعي أن يتكفل هذا الرجل بالرعاية المنزلية اللاحقة التي ينظر لها على أنها عمل أقل قيمة، ومن ثم منوط بالمرأة وحدها؟ غريب جداً حقيقة أن يستطيع رجل، مهما حسنت نيته وذهب معنى كلامه مذاهب دفاعية حقوقية، أن يستخدم هكذا تعابير ومفردات تشير إلى أن الإنجاب “خدمة” تقدمها المرأة لبلدها، والتي هي في الواقع ليست خدمة اختيارية تماماً، ذلك أن أي خلل في وفرة هذه الخدمة سيقود إلى نتائج كارثية على المرأة سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى العام مثلما تُبين قراءة مسلسل The Handmaid’s Tale لمستقبل تقل فيه القدرة الإنجابية للبشرية والتي تتحمل نتائجها وعذاباتها كاملة النساء فقط، أقول غريب أن يستطيع هذا الرجل الإشارة إلى الإنجاب على أنه “خدمة” وعلى أن من تقدم أربعة أو خمسة أبناء غير التي تقدم واحداً، في حين أنه لم يتفكر في إسقاطات هذا القول عليه هو وبني جنسه. هل تتحدد خدمة الرجل ومن ثم قيمته واستحقاقاته بعدد الأبناء الذين ينجبون للوطن كذلك؟