بيّنت الاستجابة الثقافية للزلزال، الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، تصدّر مقولتين أساسيتين في التعاطي مع المسألة السورية عموماً: الأولى ما يمكن تسميته بـ«مشكلة الشر»، أي مدى استبدادية وإجرام ولا أخلاقية النظام السوري، وعدم مبالاته بمعاناة ملايين البشر، الذين كانوا دوماً ضحاياه، قبل الزلزال وبعده؛ والثانية مأساة «خذلان العالم»، أو عدم حساسيته لآلام السوريين، وتقاعسه عن تقديم مساعدات جديّة وحاسمة، سواء لإغاثة الناس، أو حتى تخليصهم من النظام الاستبدادي الذي أوصلهم لهذه الحال.
وبعيداً عن ردود الفعل المباشرة والمتوقّعة أمام الكوارث الطبيعية، وما تثيره من أحاسيس حول عبثية أو هشاشة الوجود الإنساني، وغياب معنى يمكن إدراكه للكون والطبيعة، فإن استخدام ألفاظ مثل «الشر» و«الخذلان» و«الحساسية» و«الاستبداد» و«العالم» في معالجة حالة بتعقيد المسألة السورية لا يبدو مفيداً لفهم أو تفسير وقائعها المركّبة والمتشابكة، المتعلّقة بعمق البنى الاجتماعية والسياسية للبلد، وعلاقات القوة المحلية والإقليمية، وطبيعة النظام الدولي الحالي؛ كما أنه قد لا يكون صالحاً حتى للتأمّل الفلسفي والأخلاقي، الذي لا يمكن أن يتعامل مع تلك الألفاظ بوصفها مجرد مفردات تكتسب المعنى من ذاتها، بل مفاهيم إشكالية، لا بد من بحثها وتحليلها وإظهار تناقضاتها. لماذا يبدو التعاطي مع «مأساة السوريين»، وقضاياهم السياسية والحياتية المختلفة، أقرب لشعر رديء، لا يسائل حتى لغته، أو يعمل عليها؟
يمكن إلى حد ما تعميم الحالة عربياً، خاصة في دول «الربيع العربي»، التي اعتبرت ثوراتها أن المشكلة مع «الاستبداد»، أي مع نظام من الفاسدين والطغاة، يُنكر حقوقاً بديهية للمحكومين، وما على الثوّار إلا السعي لإزاحته كي تعود الحقوق، بشكل طبيعي ودون وسيط سياسي أو صراع اجتماعي ربما. أدى ذلك للتقاعس عن تقديم تحليلات جديّة عن الواقع، والقوى والمؤثرات الفاعلة فيه، ربما باستثناء «فضح» سوء الأنظمة، وتوثيق مظالمها وانتهاكاتها. هذا المفهوم للحقوق، المستند إلى طرح أخلاقي واثق بنفسه ومكتفٍ بذاته، قد يكون مساهماً بدوره في «المأساة»، بقدر حجمه وتأثيره السياسي في السنوات الماضية طبعاً. ربما يكون الأجدى، بدلاً من الاسترسال في هجاء وعي وخطاب كثير من المعنيين بقضايا الشأن العام العربية المعاصرة، التساؤل حول مصدر وطبيعة مفاهيمهم نفسها، سواءً «الأخلاق» و«الحقوق»، أو «العالم» الذي يخذلهم دائماً، ويلومونه دائماً: لماذا يبدو «الحق» واضحاً وبديهياً بالنسبة لهم لهذه الدرجة؟ أي «عالم» تخلّى عنهم تاركاً لهم كل تلك المرارة؟ لماذا تختفي السياسة والمجتمع والتاريخ من منظوراتهم؟
فجر الأخلاق
يمكن اعتبار منظور «الحق» المجرّد عن سياقات سياسية واجتماعية، سواء كانت عينية وتجريبية، أو قائمة على التجريد النظري، نمطاً من «الأخلاق المفرطة» Hypermoral ، وهو مفهوم يعود للفيلسوف والأنثروبولوجي الألماني أرنولد غيلين، خاصة في كتابه «الأخلاق والأخلاق المفرطة» الصادر عام 1969، والذي تتم استعادته حالياً بقوة في النقاشات السياسية الدائرة في الفضاء الأوروبي.
ما كان يعني غيلين أساساً هو بحث وإثبات تعددية المصادر الأنثروبولوجية للأخلاق، وهي، حسبه، الانعكاسات الغريزية، التي يمكن تفسيرها فيزيولوجياً، مثل التعاطف والاشمئزاز؛ المبادئ العابرة للثقافات، المُفسّرة بالطبيعية التواصلية للغات الإنسانية، وعلى رأسها مبدأ «المعاملة بالمثل»؛ السلوك الأخلاقي المتعيّن ثقافياً عبر التنشئة الاجتماعية في الأسر والجماعات الأهلية؛ وصولاً للمؤسسات الأكثر تعقيداً، مثل الكنائس والقضاء والتعليم، وبمرحلة أعلى الأمة والدولة، ودورها في إنتاج القيم الأخلاقية وتنظيم حياة البشر. لم يكن هناك في ما مضى مبدأ أخلاقي مستقل عن بقية الأنظمة الاجتماعية، إلا في أعمال الفلاسفة، وكانت الأخلاق تابعة ومُفسَّرة دوماً بأنظمة أخرى أكثر شمولاً، مثل الدين أو السياسة أو العرف الاجتماعي، إلا أنه منذ مطلع عصر التنوير باتت الأخلاق نظاماً مستقلاً، معتمداً على مبدأ عقلاني موحّد ومجرّد، يُنكر تعددية وتنوّع المصادر الأخلاقية، ويسعى إلى تحقيق نوع من الهندسة الاجتماعية لجعل كل الأنظمة الأخرى متوافقة معه، رغم أنه لا يمكن تنظيم كل المجالات، حسب المبدأ الأخلاقي وحده. تبتلع «الأخلاق المفرطة» كل مناحي الحياة، وتفتت الجماعات الإنسانية و«روح» المؤسسات والدولة، وتؤدي إلى «أخلقة» السياسة والدين والمجتمع، أي حرمانهم من استقلاليتهم وآليات اشتغالهم الخاصة لحساب الأخلاق. كما أن قمع «الفضيلة السياسية للروح المؤسساتية الجماعية»، حسب تعبير المفكر الألماني، يجعل موطن الأخلاق المفرطة في المصالح المخصخصة للذات الفردية.
يبدو «العالم» في خطاب كثير من الناشطين والمثقفين العرب أشبه بذات واعية بنفسها، تمتلك القيم والقدرة وشرعية التسمية وإطلاق الأحكام. ليس المقصود هنا بالطبع كل «العالم»، فلا أحد يعني بهذا اللفظ جنوب شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية مثلاً، بل «الغرب» بالتحديد، أي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا كان غيلين يُنسب غالباً إلى تقليد «الثورة المحافظة» الألمانية، سيئة السمعة في السياق الأوروبي، ومنشغلاً بنقد التنوير والنزعة الإنسانية، فإن المهتمين بفكره حالياً ينتمون لمشارب مختلفة، واهتمامهم الأساسي هو تحليل تراجع كل ما هو سياسي واجتماعي لحساب الأخلاقوية الفردية، التي تسعى لتأييد طروحاتها من خلال الإثبات البلاغي لمدى أخلاقية خطابها، بدلاً من تقديم حجج وبراهين متماسكة، تعالج المشكلات الواقعية في مجالاتها المتعددة، التي لا يمكن اختزالها في الأخلاق «الصحيحة» بالتأكيد. هذا التغيير عرفته المجتمعات الغربية في عصر «ما بعد الأيديولوجيا»، عقب تفكك معظم أشكال الذاتية السياسية الجمعية، مثل الوطنية والحزبية والطبقية؛ وحلول الإدارة البيروقراطية/التكنوقراطية محل السياسة، ما أدى لبروز أفراد غير منخرطين بشكل واعٍ في أي منظومة، ولا التزام سياسي أو ديني أو مجتمعي لهم، اللهم إلا شعورهم الأخلاقي المتضخّم، وتعيينهم المبالغ فيه لحقوقهم الفردية ضمن مساحاتهم الخاصة. هكذا تصبح النزعة الأخلاقية والحقوقية المفرطة بديلاً عن الممارسة السياسية، والفعل والتواصل ضمن منظومات المجتمع المتعددة، وهو تحوّل استشفّه غيلين، حسب كثير من دارسيه، منذ اندلاع الثورات الطلابية والشبابية في أواخر الستينيات.
ولكن إذا كان هذا «الارتداد» للخطاب الأخلاقي والحقوقي المبالغ فيه ملازماً لتحولات بنيوية في مجتمعات توصف بـ«ما بعد صناعية»، بات من الصعب أن تشهد نضالاً سياسياً جمعياً، بل «ناشطية»Activism فردية فقط، فكيف أمكن أن ينتقل إلى المجتمعات العربية وناشطيها، رغم أنها لم تعش ظروفاً مشابهة، وما زالت بناها الجمعية موجودة، ودولها القومية القمعية قائمة ومسيطرة، على رثاثتها؟ ربما يجب التفكير هنا في منظور الناشطية العربية لـ»العالم» دائم الخذلان.
تراوما «العالم»
يبدو «العالم» في خطاب كثير من الناشطين والمثقفين العرب أشبه بذات واعية بنفسها، تمتلك القيم والقدرة وشرعية التسمية وإطلاق الأحكام. ليس المقصود هنا بالطبع كل «العالم»، فلا أحد يعني بهذا اللفظ جنوب شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية مثلاً، بل «الغرب» بالتحديد، أي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. يبدو ذاك «العالم» أقرب لأب أو أم، ربما «آخر كبير»، إذا استعرنا من مصطلحات عالم النفس الفرنسي جاك لاكان، أي النسق اللغوي/الرمزي الذي يعطي المعنى للأنا والآخر. أما المعنى الذي تستقيه الناشطية العربية لذاتها من ذلك «الكبير» فليس أكثر من تكرار صيغ أخلاقية وحقوقية مفرطة، اعتُبرت «طبيعية». قد يكون أحد العوامل المساهمة في تكوّن هذا «الوعي» تقدّم أيديولوجيا العولمة والمنظمات «غير الحكومية»، التي أنتجت جيلاً جديداً من الناشطين، أو استقطبت معارضين قدماء، ظنوا أن «رياح التغيير» انتصرت منذ الثمانينيات، فلا معنى للتحليل السياسي أو الخطاب الأيديولوجي، بل فقط الإدانة الأخلاقية والحقوقية. هكذا يكفي أن تُنعت الأنظمة الحاكمة بـ«الاستبداد»، دون أي محاولة جديّة لتحليل بنيتها السياسية أو قواعدها الاجتماعية أو شرطها الاقتصادي وموقعها في النظام الدولي. ويصبح «النشاط» الأساسي لمقاومة «الاستبداد» توثيق انتهاكاته ورفعها لـ«العالم»، الذي يجب أن يستجيب. وإذا كانت الأخلاقية المفرطة تعمل على مستوى الوعي الفردي، فربما لا يكون لها أي نفع على صعيد السعي للتغيير الاجتماعي والسياسي الجدّي. صُدمت الناشطية العربية بأن أخلاق «العالم» ليست مفرطة للدرجة التي كانت تتخيلها، ولا تشبه كثيراً أخلاقيات مثلها الأعلى من ناشطين غربيين أفراد.
هل الأنظمة شريرة؟
من الصعب تحديد أي معنى لنعت الأنظمة العربية بـ»الشر» إلا من منظور الأخلاق المفرطة لمعارضيها من الناشطين. خارج هذا المنظور قد تبدو المسائل أعقد بكثير، وستبرز أسئلة صعبة، منها مثلاً سبب دفاع فئات اجتماعية كثيرة عن «الاستبداد»، وعدم ثقتها بـ»التغيير»، بل قلة اكتراثها أصلاً بالمبادئ الأخلاقية والحقوقية لـ»العالم». تحليل البنى الاجتماعية والسياسية وعوامل الصراع الاجتماعي أجدى بالتأكيد من الشعور الدائم بالصدمة والخذلان، ولكنه لن يكون ممكناً إلا إذا تخلّت الناشطية العربية عن الفهم المبسّط للأخلاق والحقوق بوصفها بديهيات أو مبادئ متعالية. ربما الأفضل التخلّي عن الناشطية العربية نفسها.
توجد «حقوق» باتت كونية تدريجياً منذ مطلع الحداثة (وتعرّضت دائما للنقد وإعادة النظر) إلا أنها لم تتحقق يوماً إلا ضمن قنوات السياسة والصراع الاجتماعي والطبقي، وعبر أيديولوجيات متنوّعة ومتنازعة، وكثير من الوقائع العنيفة والدموية. اعتبار الأخلاق بديلاً عن كل هذا لن ينتج إلا ناشطين أيتاماً، يتذمّرون على موائد لئام «العالم».
كاتب سوري