جهـمية الوصاف إلا أنهم قد لقبوها جوهر الأشياء
وكأن بهجتها وبهجة كأسها نار ونـور قيدا بوعاء
أو درة بيضاء بكر أطبقت حبلا على ياقوتة حمراء
هذه ثلاثة أبيات من مقدمة مدحية لأبي تمام، تداولها القدامى على تباعدهم زمانا ومكانا، سجالا ومحاورة؛ وكأنهم على خشبة المسرح، أو في «فضاء مشهدي». فالصولي يحمل «جوهر الاشياء» على صفة القدم والعتاقة في الخمر، رغم أنها تكاد من رقتها أي لطفها أو دقتها، لا تثبت ولا تتحصل. وهذا التفسير إنما صدر فيه الصولي عما عده أساسا في مذهب جهم بن صفوان، وهو الجحد وقلة التحصيل. وقد أنكره عليه المرزوقي على أساس أن الأصل في مذهب جهم إنما هو امتناع أن يسمى الله شيئا؛ لأنه أزلي أو قديم دائم الوجود، لا بدء له. وهذه اللفظة «شيء» وضعت للمحدثات من أجسام وأعراض. ويخلص المرزوقي إلى أن المقصود بـ»جهمية الوصاف» أنها خمرة لا يسميها وصافها شيئا؛ لكنهم جعلوها لقدمها أصل الأشياء. غير أن المرزوقي لا يدفع بالتأويل إلى منتهاه بحيث ينفذ إلى «المضمر» في الصورة ـ وفي كلامه إيماءة إليه؛ ونعني صفة الألوهية التي يضفيها الشاعر على الخمرة. وإنما يقف على حدود البيت شأنه شأن الآخرين قاطعا له عما قبله وما بعده، بل هو يجزم برأيه وينفذه «وهذا هو الذي لا يجوز غيره» وكأن لا إمكان لحمل الصورة على غير ما حمل، بخلاف الآمدي، فقد ساق رأيه على أنه ممكن لا يحصل ثبوته أو اعتقاد راجع يحتمل النقيض. ورجح بعضهم أن يكون المراد بالصورة، أن الخمر جمعت المحاسن والأفعال الحسنة كلها، على نحو ما هو مسلم به في مذهب جهم، من أن الأفعال كلها للذات الإلهية.
ويقول الآمدي: «وما زلت أسمع الشيوخ يقولون هذا البيت من وساوسه وتخليطه لأن الشعر إنما يستحسن إذا فهم. وهذه الأشياء التي يأتي بها (أبوتمام) ليست على مذهب الأولين والمتأخرين».
ويعترض ابن المستوفي على قول الآمدي «لأنهم ما رأوا أحدا لقبها هذا اللقب» أي جوهر الأشياء» قال: «ما أظن أبا تمام أراد به مواضعة الناس على هذا البيت لها ولا اصطلاحهم عليه؛ وإنما أراد أن أصحاب جهم بن صفوان لقبوها بذلك، كما أخبر أن أوصافها جهمية، أخبر أنهم وصفوها بذلك. ولهذا قالوا إن رواية «جهمية الوصاف «أولى لإعادة ضمير» لقبوها «إليهم.» وهو في تقديري اعتراض وجيه، فـ»لقبوها» بمثابة قرينة صارفة عن إرادة معنى المواضعة؛ إذ هي تدل على أن هذه الخمرة سميت باسم سوى اسمها الأول.
ويقرأ أبو العلاء البيت قراءة «سياقية» ويحكم وصله بما تقدمه؛ ويوضح أن المقصود بـ»الجوهر» رونق الشيء وصفاؤه: «وهذا البيت مبني على ما قبله، وهو نحو من قوله «خرقاء يلعب بالعقول حبابها»؛ لأنه أخبر عنها بالشيء وخلافه. والجهمية طائفة من المتكلمين ينسبون إلى رجل يقال له جهم، ومن اعتقادهم أن الإنسان لا يستطيع أن يفعل شيئا، ويلزمونه العقوبة على ما يفعل، فتقع بذلك المناقضة. والطائي من وصاف الخمر، فكأنه ذهب مذهب جهم؛ لأنه يجعل الخمر لا فعل لها، ثم يزعم أنها أسكرته وشوقته؛ فيختلف خبراه عنها في الحال الواحدة». وأما قوله «جوهر الأشياء» فهو عنده ضرب من التورية. وذلك أن أبا تمام ذكر هذه الطائفة من المتكلمين؛ ومن شأنهم أن يتكلموا في الجوهر والعرض»فأوهم السامع أنه يريد الجوهر الذي يستعمله أصحاب الكلام؛ وإنما يريد الجوهر الذي هو رونق الشيء وصفاؤه، من قولك ظهر جوهر الشيء، أي أن الأشياء ليس لها حسن إلا بالخمر. وأصحاب المنطق يجعلون الجوهر الذي يسميه غيرهم الجسم، فالأرض عندهم جوهر وكذلك الإنسان والفرس. والمتكلمون المحدثون يقولون الجوهر الجزء الذي لا يتجزأ. وهذا الفن (التورية) من صناعة النظم». أما قول أبي العلاء إن الطائي من «وصاف الخمر» فلا يخلو من مبالغة، إذ ليس في ديوانه سوى أربع قصائد جاء فيها وصف الخمر مدخلا إلى الغرض.
والجهمية طائفة من المتكلمين ينسبون إلى رجل يقال له جهم، ومن اعتقادهم أن الإنسان لا يستطيع أن يفعل شيئا، ويلزمونه العقوبة على ما يفعل، فتقع بذلك المناقضة.
ويخلص ابن المستوفي صاحب «النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام» بعد أن استعرض آراء هؤلاء إلى القول: «فسر كل عالم هذا البيت على ما أداه رأيه إليه، والصحيح ما قال الآمدي من قوله: «وهذا البيت مما عهدتهم يفيضون فيه وفي تفسيره فلا يصح إلا بالحدس والظن».
أما البيتان الثاني والثالث فلم يثيرا إشكالا يذكر، فقد اقتصر التبريزي على شرح الصولي، وهو لا يعدو أكثر من نثر الصورة. يقول: «شبه الخمر بالنار والزجاجة بالنور وقد اجتمعا». وكذا فعل في البيت السابع. قال الصولي: «شبه الكأس بدرة بكر لم تثقب، والخمر بياقوتة حمراء، فكأنها حمل في جوفها وهي حبلى بها».
ويتوسع أبو العلاء، واصلا بين شعرية البيت وشعرية اللغة؛ فالدرة إنما يقال لها بكر أو عذراء إذا لم يوصل إليها ولم تخرج من صدفتها، أو لما يوجد في صدفتها من ماء قليل هو أشبه بالدم الذي يكون عند افتضاض العذراء. ويخلص إلى أن «الفائدة» في هذا البيت، أن الطائي جعل الكأس عذراء، وادعى لها الحبل في آن.
ليس في أي من هذه الشروح والتأويلات إجابة ناجزة تعفينا من حقنا في استئناف القراءة، بل هي تؤكد أن صناعة الشعر في قراءة القدامى خصوما وأنصارا، هي غيرها في النص. من ذلك أن «اشتكال» الصورة (باصطلاح حازم القرطاجني) عند بعضهم أو اتضاحها عند آخرين، ولا فرق في الحقيقة بين الأمرين؛ يرجع في جانب لافت منه إلى تقييدها بقيود البيت المفرد؛ فما أوجبوه في البيت من حيث هو كلام مستقل بالفائدة مبنى ومعنى، أوجبوه في الصورة. وهذا من مكونات صناعة الشعر في القصيدة «الأنموذج» (الجاهلية) باعتبار هذه القصيدة نصا «شفويا» أو هو «قابل للكتابة». فقد كانت إنشائيتها من إنشائية البيت، حتى إن نزعنا إلى القول إن «شفهيتها» لم تكن خالصة/ ولا هي كانت تجري على السجية المحض أو على الطبع المبرأ من مراسم الصنعة والكتابة. وقد كانت هذه القصيدة تستعير، بحكم إنشادها في جمهرة من الناس حيلها (بالمعنى الأسلوبي واللعبي) من سنن ومراسم ثقافية وخطابية، وتنهض على خطة محكمة في بناء القصيدة، وأفانين التخلص فيها من مقدمة إلى غرض أو من موضوع إلى موضوع؛ لكن في حدود بنية الاستطراد المتولدة من بنية البيت نفسه، فللصنعة أو العقل الواعي أثر واضح في إنشائية هذه القصيدة، وهي التي تقوم على تخير اللغة وتدبرها وإحكام تنسيقها، وإن لم يتأنق فيها الجاهلي تأنق المحدثين، ولم يستكثر من «التزاويق» وباهر «الزخرف» استكثارهم. وربما نم ذلك على استجابة لنزعة كتابية «خفية» أو على اتجاه كتابي لم تتكامل فيه شروط الكتابة، ولا هي تجلت بأجلى مظاهرها؛ فكان حظ بعضها أوفر من بعض. ورغم ذلك فقد ظلت إنشائيتها من إنشائية البيت، الأمر الذي يفسر أخذهم بها في قراءة المحدث الشعري؛ حتى أنهم التزموا ذلك في الأبيات التي غلب فيها أن يكون متصلا بعضها ببعض في مستوى التركيب النحوي، بمعمولية العوامل والأدوات أو بالاتباع أو بالعطف وما إلى ذلك مما يجمع الأبيات «الأجنبي» بعضها مع بعض في المعنى، على نحو ما نلحظ في هذه المقدمة؛ حيث عطف الأبيات إما بالواو المقتضية لأصل التشريك في الحكم وإما بالفاء للتفريع. لكنهم قلما احتكموا إلى التركيب النحوي في الأبيات مجتمعة، وهي للعطف والوصل أحوج ما دام الأصل فيها الاستقلال على ما يقولون ويطلبون من الشعر.
ولعل النص المحدث كان أحوج، بحكم أنه نص كتابي «قلق» إلى هذا النوع من التركيب الذي يظل من أهم مقتضيات الكتابة وسمات اللغة المكتوبة. وهو النص الذي يتكشف عن منزعين يتحكمان في انتحاء الذات إلى الكلام مرة وإلى الكلمة أخرى، لأثر الشفهية فيه من جهة، وأثر الكتابة من أخرى، باعتبارها أداء نوعيا محكوما بقوانينه الخاصة. وعلى أساس من هذا فإن إنشائية الخطاب، إنما تُكتنه في وحدة القصيدة من حيث هي كتابة وإيقاع، مهما تكن درجة الشفهية العالقة بها؛ وليس في وحدة البيت من حيث هو ذاكرة وإنشاد.
لهذا لم يكن بالمستغرب أن يشتد خلافهم في»جهمية الوصاف» حتى أنساهم الصورة أو كاد، فتحولوا عنها إلى تفسير مذهب جهم بن صفوان وإلى قضية كلامية خلافية؛ لم يكن لها من داع سوى بحثهم عن حقيقة ترجع إليها الصورة، ويكون بينهما شبه ظاهر وتعلق وكيد.
كاتب وشاعر تونسي
تحيّة للأستاذ الدكتور منصف الوهايبيّ…مقال رائع ؛ فالأسلوب هو الكاتب كما يقول أهل فرنسا.هل لحضرتك كتاب خاصّ
بالنقد الأدبيّ منشور؟ مع الودّ الدائم.
جزيل الشكر صديقي د. جمال. الحق ما نشرته ليس نقدا ادبيا بالمعنى الحصري للكلمة، إنًما هي بحوث علمية: رسالتي عن أبي تمام(دكتوراه دولة/ نظام فرنسي قديم)، و الثالث المرفوع في قصص الحب عند العرب، والله والمتكلمون معه في القرآن… ولدي كتاب في اكثر من 500 ص يضمّ جلّ هذه المقالات، وأسعى إلى نشره قريبا. كما انّ رسالتي الاولى عن الجسد المرئي والجسد المتخيًل في شعر ادونيس، غير منشورة بعد، بالرغم من انني ناقشتها اواخر الثمانينات من القرن الماضي. والمشكل هو التوزيع. على انّ الشعر هو شغلي كتابة وقراءة وترجمة.