على الرغم من الأهمية الكبرى، التي تحتلها الفضاءات العامة في إنتاجها للإشكاليات المجتمعية، والفلسفية والجمالية، إلا أنها إلى جانب ذلك قابلة لأن تتحول وبدون سابق إنذار، إلى مدافن حقيقية لهذه الإشكاليات. ذلك أن حضور النوايا الحسنة والحماس الزائد لتكريس حق المشاركة، لا يضمنان بالضرورة إمكانية بلورة وجهة نظر معينة، حول هذا الشأن أو ذاك.
ولعل أخطر المنزلقات التي يمكن أن يقع فيه المعني بالتنظير لظاهرة مجتمعية، أو ثقافية ما، هو تورطه الإرادي أو القسري في النقاشات العامة، التي يعود لها فضل الفتك بالمقومات الدنيا لموضوعاتها، تحت غطاء «التفاعل مع الرأي العام» و«ترسيخ أسس الحوار الديمقراطي»، أو «فضيلة « نزول المثقف من أبراجه العالية، كي يلتحق بساكنة القاع، في ما يتعلق الأمر أولا وأخيرا، بصخب لا عقلاني، يختلط فيه حابل الأمية، بنابل الحق في الثرثرة.
وفي اعتقادنا أن المنهجية التي تعتمدها السلطات في تمييعها وطمسها للكثير من القضايا العالقة، تقوم على مكر إيداعها في قمامة ما يتواضع عليه ظلما وعدوانا، بالنقاشات العامة كطريقة عملية للتخلص من واجب تدبيرها. علما بأن النقاشات العامة، ليست في نهاية المطاف، سوى محرقة حقيقية، تفقد الموضوع هويته، كي يتحول إلى مجرد قطعة متفحمة، بدون ملامح أو صفات. وحرصا من العقل على الحد من عنف هذه الممارسات التخريبية، سيكون مدعوا ولو مؤقتا، للاشتغال في تلك المساحة البعيدة جدا عن عين البوم، حيث تحتفي اللغة، ومعها أطياف الدلالة/الفكرة، بالبحث عن أسمائهما وصفاتهما. لأن البحث عن الاسم والصفة، ممارسة على درجة كبيرة من الحساسية، إذ لا يمكن إنجازها على أساس تأجج عاطفي، أو تقديس مبالغ فيه لخصوصية ما، بل عبر تكامل وتفاعل مجموعة من العوامل المعرفية، والمنهجية المؤطرة بدربتها، وضوء عقلانيتها، فالأطياف الدلالية، تجد في اللغة مجالها الملائم لممارسة ألاعيبها التنكرية، متخذة في ذلك شكل علب مجازية لتخزين رؤى، ومنظومات قابلة أو غير قابلة للتفعيل، سواء كانت محيلة على إشكاليات ملموسة، أو أخرى مجردة. فاللعب الذي تتحكم اللغة في تحريك خيوطه، لا يستكمل شروط اشتغاله، إلا بفعل تعدد وتنوع المعاني التي تلهج، أو توحي بها الأطياف الدلالية/الأفكار. وهو تنوع يكون له دوره الفعال، في تصعيد حالة اللعب. ما يساهم في تزايد عنف الاختلاف السلبي الناتج عن تداخل وتشابك ما يتم تحصيله، الذي غالبا ما يكون مطبوعا بالتعارض والتناقض. علما بأن اللعب المفضي إلى متعة أو مأساوية التنوع، هو في الأصل نتاج تلك الدينامية، التي تتيح للغة إمكانية تجريب ما لا حصر له من الصيغ، لتأكيد سلطتها على كل من الناطقين بها، أو المتلقين لرسائلها.
المنهجية التي تعتمدها السلطات في تمييعها للكثير من القضايا العالقة، تقوم على مكر إيداعها في قمامة ما يتواضع عليه ظلما وعدوانا، بالنقاشات العامة كطريقة عملية للتخلص من واجب تدبيرها.
مع التذكير بأن هذه السلطة، قد تكون سماوية حينما تفلح في استمالة إجلال الكائن وتقديسه. كما تكون أرضية، حينما تتمكن من إحكام سيطرتها عليه بقوة سحرها التعبيري، الصادرعن قدرتها البراغماتية الخارقة، على بسط خيوط شبكاتها التواصلية، في أكثر من بحر، وأكثر من صحراء. بمعنى أن الأمر يتعلق أساسا بحدة، أو بنشوة إبهارها لنا عبر بلورتها، لما كنا نعتقد من قبل، أنه غير قابل لاتخاذ شكل تعبيري ما. لكونه وبكل بساطة، مندرجا في حكم الغيب المطلق. وهي الدينامية التي تستمد منها كل من الفكرة/الطيف الدلالي واللغة أيضا، استمرارية مرافقتهما للكائن في أسفاره الطويلة، داخل عوالم الحلم الوردية، كما داخل حرائق الجحيم. وليست الأسفار هنا طبعا، سوى التعبير الرمزي عن المواجهات والمكابدات المعيشة، في فضاءات السعادة والألم، التي تنفتح وتتسع تباعا أمام الكائن، بدون أن تولي أي اهتمام لاقتناعه بها، أو رفضه لها. ضمن هذا التصور المثقل بإشكالاته النظرية، ستكون الأطياف الدلالية/الأفكار، معنية بتكثير وتنويع حضورها داخل شبكة التعدد الكبير، المصاحب لتحول البنيات اللغوية، وهي تعيش تقلباتها المتتالية عبر هذه الفضاءات وهذه الأسفار. ذلك أن الفضل في استمرارية حياتها، يعود أساسا إلى هذا اللعب، الذي يحتمل أن يكون حكيما وأنيقا، كما يحتمل أن يكون أرعن وطائشا، خاصة أنه المولد لظاهرة التكثير والتنويع النسقي والمقولاتي، إذ لا مجال للحديث عن استمرارية حضور شكل مقيد بوضعيته الثابتة، التي تلقي به خارج لعبة التحويلات اللغوية والدلالية، وداخل بقعة لغوية تخلو من حراكها اللغوي، والشبيهة بسجن ضيق، تتعذر في ظلمته إمكانية ممارسة شطحات اللعب الذي تغتني به القوة التداولية للغة، وما يتناسخ فيها من أطياف دلالية مشوبة بمنطق التشابه والتعارض.
السلطة، قد تكون سماوية حينما تفلح في استمالة إجلال الكائن وتقديسه.
تبعا لذلك، وحرصا من اللغة على الاحتفاظ بجوهرها، بوصفها ذاتا مرحة ولعوبا، فإنها تكون معنية بالانفتاح على ما لا حصر له من الأشكال التعبيرية للطيف الدلالي الواحد، عبر تطويرها لآليات لعبها وتلاعباتها، إذ أنها وبقوة هذا الانفتاح، تجهض البعد الاستهلاكي للقول الظرفي، في أفق تكريسها لسلطة استمراريته، التي تشحنه بديناميات تعبيرية، تتعدد معها وتتجدد فرص تواجداتها المختلفة في أكثر من نسق، وفي أكثرمن سياق. هنا تحديدا، سيكون بالوسع القول ذاته، ممارسة امتداداته وتشعباته التي لا تنتهي، خارج حدود الظرفي والآني، وداخل الديمومة الخبيرة بتقنية تنويعه، وتكثير فضاءات تواجده.
فالطيف الدلالي الواحد المحيل تقليديا على الفكرة المفردة، وجد أصلا من أجل التفاعل في عدد لا متناه من الأنساق التعبيرية، ما يوحي أو يوهم لمستعمليها بتنوعها وتعددها، أي باختلافها عن غيرها، حيث يتوهم كل طرف أنه بصدد معالجة ”فكرة»مستقلة بذاتها، واحدة وأحادية المبنى والمعنى.
فيما يتعلق الأمر، بتوظيف متعدد لـ«الفكرة «ذاتها، انطلاقا من تعدد المنظور اللغوي، الخاضع لطبيعة المقام الذي يتدخل بشكل مباشر في إخضاع الفكرة للشروط اللغوية والتعبيرية، المنسجمة مع السياق ومع المقام. علما بأن العبرة ليست في الفكرة، بقدر ما هي في تعدد أنماطها التعبيرية، التي بها ومن خلالها، يتحقق شرط حضور الكائن في مفترقات القول، وفي مفترقات الكتابة.
إن الأمر هنا شبيه بلعبة تغيير الأقنعة، التي تعتبر جد ضرورية من أجل انتقال الذات، أو الوجه، بين عدة أحوال وعدة مقامات، حيث لن نكون بالضرورة ملزمين باستحضار حشد كبير من الوجوه الحقيقية، من أجل الاستجابة إلى هاجس استحضار عدة ملامح، نسعى بواسطتها إلى تكريس صورة، قد تكون متعلقة فقط بشأن عابر، آني وظرفي. لأن الاستحضار الدائم لكل هذه الوجوه، وفي سياقات تخلو من المصداقية أو الأهمية، سيؤدي حتما إلى كسوفها واحتراقها. هنا تحديدا، تكمن الأهمية القصوى للعب بالأقنعة، أو بالأحرى بالبنيات المجازية، التي يمكن أن تنجز وبشكل جيد، ما دأبت الوجوه الحقيقية على القيام به من أدوار. عدا عن أن القناع يمارس الدور ذاته بأقل تكلفة، وأقل جهد. تماما، كما هو الشأن بالنسبة للفكرة الواحدة، حينما تبدع في البحث عن عدة أشكال تعبيرية، تمكنها من ممارسة حضورها المتعدد في مختلف الفضاءات الاجتماعية والثقافية والنصية. وهذه التعبيرات المتعددة، هي المقابل الموضوعي للأقنعة المتعددة، التي يمكن للوجه الواحد أن يمارس بها سلطاته المتعددة، والتي يمكن أن تراوح بين سلطة القتل، وسلطة الإحياء، طبعا، بعيدا عن عين البوم.
٭ شاعر وكاتب من المغرب
من وجهة نظري الموضوع ليس له علاقة باللغة والفكر، عندما يكون له علاقة بشيء خارج محددات الأنا أو الآخر أو النحن، كما هو حال عملية فهم ومن ثم التعبير، عما فهمته من صورة عن تعدد العيون لحيوان في سياق ما، أو زمن ما، وبصحبة وأجواء ما، بالتأكيد ستكون مختلفة بتعدد الخيارات والاحتمالات.
عمّا كتب تحت عنوان (خطابات تتنامى بعيدا عن عين البوم) من وجهة نظري الموضوع ليس له علاقة باللغة والفكر،
عندما يكون له علاقة بشيء خارج محددات الأنا أو الآخر أو النحن،
كما هو حال عملية فهم ومن ثم التعبير، عما فهمته من صورة عن تعدد العيون لحيوان في سياق ما، أو زمن ما، وبصحبة وأجواء ما، بالتأكيد ستكون مختلفة بتعدد الخيارات والاحتمالات.