لدينا في مصر المواقف ‘سابقة التعليب’، على طريقة البضائع التي تعد للبيع أو للتصدير.. وقبل خطاب الرئيس محمد مرسي، كان كثيرون قد حددوا موقفهم منه، فمن هم من شيعته قرروا تأييده ولو قال ‘ريان يا فجل’، في حين أن الذي هو من عدوه بيت النية على رفض الخطاب ولو كان وحياً يوحى، وهو أمر كاشف عن حالة الانقسام التي صارت عنواناً للمشهد السياسي الآن.
‘ريان يا فجل’ عبارة يستخدمها باعة ‘الفجل’ للترويج عن بضاعتهم، وقد يستبدلها البعض بعبارة أخرى هي ‘حرات يا فجل حرات’، بكسر الحاء، ولا يوجد معنى محددا لها من وجهة نظري، وعندما يتم استدعاء الجملة الأولي لوصف كلاما بعينه، فإنها تعني انه كلام بلا مضمون، أي أنه ‘أي كلام’، وعليه فلو قال مرسي ‘ريان يا فجل’، فسوف يهتف أنصاره: ‘تكبير’!
كان الخطاب فرصة لأن أنتقل إلى قناة ‘مصر 25’، ومنذ أن أثار باسم يوسف انتباهنا إلى شخص ‘خميس’ المذيع بها، قررت أن أتابع أداءه، لاسيما وأن باسم ينقل لنا مقتطفات ضاحكة له، وتعلمون أن القلوب تمل، وفي السابق كنت أشاهد توفيق عكاشة لأسري عن نفسي، لكن توفيق يتصرف الآن على انه زعيم، وله تلاميذ، فحياة الدرديري، المذيعة بقناته تقلده، وكأن روحه حلت فيها، وهي امرأة فكاهية للغاية، تبدو وهي تتحدث على الشاشة كما لو كانت تقوم بتجهيز ‘حلة محشي’ لزوجها العائد من العمل بعد قليل، ولا نستبعد في حالة تنفيذ قرار النائب العام بضبطه وإحضاره، أن تعلن أنها ستحمل راية النضال من بعده.
المشهد السياسي بات كوميدياً للغاية، ويكفي أن تتحدث لميس الحديدي عن دمها المراق في الثورة، وهي المسؤولة الإعلامية بحملة الانتخابات للرئيس المخلوع لتقف بنفسك على حجم الفكاهة المتناثرة في أرجاء الكون، وقد قرأت قبل قليل من كتابة هذه السطور على شريط الأخبار بفضائية ‘اون تي في: تواصل اعتصام ‘القوى الثورية’ أمام مبنى وزارة الدفاع.
هكذا منحهم نجيب ساويرس صفة ‘الثورية’، مع أنهم من تجمع ‘إحنا آسفين يا ريس’ بقيادة الزعيم توفيق عكاشة، والريس ليس هو المطرب الشعبي الراحل ‘متقال’ ولكنه حسني مبارك. وهي حركة قليلة العدد تطورت وفق نظرية ‘النشوء والارتقاء’ من مجموعة تذهب إلى المحكمة التي تحكم المخلوع، وترفع صوره وتعتدي على أسر الشهداء وضحايا الثورة، لتدافع عن حكم المجلس العسكري، ثم هرولت إلى عمر سليمان عندما قال إنه سيترشح للانتخابات الرئاسية، ثم انحازت للفريق احمد شفيق عندما رسا العطاء عليه.
هذه المجموعة ترابط منذ يوم الجمعة الماضي أمام وزارة الدفاع تطالب الجيش بالانقلاب على السلطة لكن قناة ‘اون تي في’ منحت القوم الصفة الثورية، وقد نسينا ان ساويرس باعها لمستثمر تونسي، ربما لأننا لم نصدق، وبدا لافتا انه في ظل ذلك ان المستثمر التونسي يبقي على المحطة كما هي، وبكل المذيعين العاملين فيها، بمن في ذلك جابر القرموطي، الذي يفخر نجيب بأنه اكتشافه، ولا نعرف سر إبقاء التونسي عليه، وهو ليس من اكتشاف غيره، إن كان هناك شخص تونسي فعلاً مجسم، ومحسوس، ومحدد المعالم، قد اشترى ‘اون تي في’!
يقولون إن الإعلام ‘عزوة’ ولا نعرف كيف فات أن يكرس التونسي هذا عزوته في الخضراء ولو ببرنامج في الفضائية المذكورة يتحدث عن تونس، وهو الذي جاء ليشتري محطة مصرية شحماً ولحماً، إلا إذا كان يتصرف وفق قاعدة: ‘من معه فرنك ومحيره يشتري به حمام ويطيره’.. و’الفرنك’ باعتباره وحسبما نشر أنه رجل أعمال تونسي يعيش في باريس.
الموجه السياسي
لم أشاهد في المأسوف على شابها ‘مصر 25’ الأخ خميس، الذي كان من خطباء مليونية القوى الإسلامية بميدان رابعة العدوية يوم الجمعة الماضي، ولكني وجدت هاني صلاح الدين يقدم برنامجاً، ويقال أنه صار مسؤولاً عظيماً بالمحطة الاخوانية. وهاني من الإخوان، لكنه الإخواني الوحيد الذي ينتمي إلى مدرسة توفيق عكاشة في الإعلام، وهي مدرسة ينتمي إليها كثيرون ممن نشاهدهم الآن، ومن إبراهيم عيسى إلى لميس الحديدي.. وكان هاني يهاجم إبراهيم عيسي صاحب ‘ وصلة الردح’ اليومية على قناة ‘القاهرة والناس’ ضد الإخوان.
اهتمام البسطاء بتوفيق عكاشة جعل هناك من يقلدونه، لكن التحدي الحقيقي الذي يواجههم يتمثل في باسم يوسف، فخفة الدم، وروح الفكاهة، تمثلان السهل الممتنع العصي على التقليد، وعيسى له محاولات سابقة لأن يكون مذيعاً ساخراً وكاتباً فكاهياً وفشل.
المذيع الخطيب، والموجه السياسي، صار هذا ما يميز إعلامنا، وفي ليلة الجمعة، شاهدت المذيع المحترف جمال الشاعر خطيباً، إذ شاهدت لقطات من خطبة الوداع التي أنهى بها برنامجه على احدي قنوات التلفزيون المصري، وقال انه استقال احتجاجاً على وقف برنامجه، ولم يكن سبق لي أن شاهدته، وقد احتفى به خيري رمضان على ‘سي بي سي’ في مداخلة، ووصفه خيري بأنه بلدياته، وتكلم صاحبنا ولم أفهم هل أوقف برنامجه احتجاجاً على ما وصفه بأخونة الإعلام، والتدخل في اختيار ضيوفه؟.. أم استقال لأنهم أوقفوا برنامجه؟!.. ولماذا أوقفوه؟ .. هل لأنه ضد الإخوان؟!
قبل أيام حللت ضيفاً على برنامج ‘مصر الأهم’ على القناة الثانية المصرية، وشاهدت وأنا في حجرة الاستقبال وفي الفقرة السابقة على فقرتنا ضيوفا عبر الهاتف للتعليق على بعض الأخبار، وهم معروفون بخصومتهم مع الحكم، وكانوا يقولون فيه ما قال مالك في الخمر، حتى هتفت: ‘أين الأخونة’؟!
لدينا في مصر استقالات تمثل قفزاً من المركب، عندما يرى البعض أن مركب الإخوان غارقة لا محالة، ومعظم المستشارين حول الرئيس استقالوا في مرات ظن البعض ان مصر ستطوي صفحة الحكم الإخواني، مع أن منهم من سعد سعادة ‘العبيط’ بيوم زواجه عندما جرى اختياره، لأنه نظر إلى المنصب على انه يمثل لوناً من ألوان الوجاهة الاجتماعية، فلم يكن الرئيس قد اختارهم ليقوموا بمهام، فالمهام موكولة للأهل والعشيرة.
في الأسبوع الماضي استقال رئيس تحرير جريدة ‘الأخبار’ احتجاجاً على وضع الصحافة المزري في ظل الحكم الحالي، مع أنه جزء من هذا الوضع المزري، وقد قام بمنع مقالات لعدد من الكتاب لأنهم كتبوا ضد الإخوان من جلال عارف، إلى أحمد طه النقر، إلى عبلة الرويني، انتهاء بيوسف القعيد، فكان يد الإخوان التي يعصفون بالخصوم بها.
صاحبنا لم يبق له سوى شهر على خروجه للتقاعد قانوناً، وهناك دعوة لثورة تستهدف الإطاحة بمرسي فقفز من المركب الغارقة، لكن جمال الشاعر لم يكن ممن تحملهم هذه المركب وهي تجري بهم في موج كالجبال.
الشاعر قال انه يتم إلزامنا بضيف اخواني في كل حلقة، وفي تقديري أن هذه ليست تعليمات خارج السياق، فالمطلوب أن يتم تمثيل الرأي الآخر، اللهم إلا إذا كان مطلوباً أن نستمر بعد الثورة في نفس منهج النظام البائد عندما كانت برامج تلفزيون الريادة الإعلامية تتحول إلى جلسات نميمة ضد الإخوان في غيبتهم!
لقد بدا جمال الشاعر مندهشاً لأن الكادر الإخواني الكبير الدكتور محمد البلتاجي رفض الظهور معه إلا منفرداً، فاته أن البلتاجي ليس اسماً فهو ‘حالة’، ومنذ نجاح الإخوان في البرلمان الذي تم حل احدى غرفتيه، والرجل تحول إلى كائن فضائي، ورفض الظهور في برامج معروفة، وفي قناة كبرى كالجزيرة مثلاً، لا منفرداً ولا في حضرة أحد، وهذا التنازل من هذه ‘الحالة’ هو انجاز عظيم!
ما علينا، فقد انتبهت إلى أنه ما دام الخطاب سيلقى من الرئاسة فالتلفزيون الرسمي سيكون هو المنوط به نقل البث المباشر، وقد قرأت في مذكرات عبد اللطيف المناوي رئيس قطاع الأخبار السابق، أن النقل المباشر من مسرح التلفزيون بالرئاسة، وفي مثل هذه المناسبات يتم بالضغط على زر في مكتبه وفي مكتب الوزير فيكون النقل من هناك، فلديهما شاشات تعرض كل ما يدور..
المتهرب من الضرائب
بعد قليل من الانتقال إلى احدى محطات التلفزيون سالف الذكر انتصب الدكتور محمد مرسي خطيباً، لم أكن أتوقع منه شيئاً، ونفيت أن يقيل الحكومة، فمثل هذا تنازل مغر للخصوم، فضلاً عن أن تمسك الرئيس بالدكتور هشام قنديل على ضعفه يذكرني بتمسك حسني مبارك بوزير داخليته حبيب العادلي على إجرامه، وقد استبعدت تماماً ما بثته احدى الفضائيات على لسان هماز مشاء بين الجيش ومؤسسة الرئاسة بنميم أن يقيل الرئيس وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي في هذا الخطاب!
هناك ثلاثة أشخاص في المشهد الإعلامي المصري يعملون على تحريض الجيش على الرئاسة، وبفبركة أخبارا تنسب لمصدر عسكري دائما ‘يستحي من ذكر اسمه’، وأحياناً يكون المستهدف هو دفع الناس للتظاهر لمنح الجيش الغطاء الشعبي للقيام بالانقلاب على السلطة، وأي مراقب للمشهد بموضوعية سيقف على أن قيادة الجيش ليست راغبة في العودة إلى ممارسة السياسة، وقيل هذا في بيانات واضحة، لكن من يبغونها عوجاً لا يفقدون الأمل.
عندما سئلت ماذا تتوقع من خطاب الرئيس؟ .. أجبت: لا أتوقع شيئاً، لكن عندما استمعت له قلت انه الخطاب الثاني بعد خطابه الأول بميدان التحرير من حيث الأهمية.
للرأي العام
الرئيس لم يتوجه بخطابه لخصومه، فقد كان خطاباً للرأي العام ليحاصرهم، ولهذا جاء بسيطاً وكاشفاً وذاكراً لأسماء بعينها ومن أول صاحب ‘سي بي سي’ المتهرب من الضرائب، بحسب كلام الرئيس، إلى من يقومون باستئجار بلطجية استعداداً ليوم 30 يونيه، مروراً بذكر اسم القاضي المتهم بتزوير الانتخابات في سنة 2005 الذي ينظر قضية مرتبطة بالفريق أحمد شفيق.
كان مرسي يقول إن هؤلاء هم خصومه، وهي رسالة لا تخطئ العين دلالتها، وتمثل خطوة ضرورية لوضع النقاط فوق الحروف، وقد رأينا من قبل كيف ذهب صاحب ‘اون تي في’ إلى باريس بصحبة أسرته، وصور الأمر كما لو كان هروباً من بطش النظام، وعلى قواعد النضال السياسي، وفي مداخلة تلفزيونية مزق أنياط القلوب بقصة ابنه الذي اشتاق لأن يأكل ملوخية، التي حُرم منها لبطش نظام أراد أن ينتقم من الأسرة كلها بسبب نضال الوالد!
ولم يتحرك أحد من أهل الحكم للرد على هذا الكلام، لنكتشف بعد أكثر من شهرين وبالمصادفة أن الأزمة كانت على مستحقات للضرائب، جرى الاختلاف في تقديرها بين صاحبنا والمصلحة، وان المبلغ يتفاوت بين (5) مليارات، و (11) ملياراً، فلما سويت عاد وأسرته ليسبح في بحور الملوخية!
ولأن المواقف معلبة سلفاً، فقد وجد البعض في ذكر الأسماء ما يسيء لمقام الرئاسة، وهي القضية التي شغلت خصوم الرئيس في التعليق، فلم يتطرقوا للموضوع، ولم يعقبوا على ما ذكره من أرقام عن انجازات اقتصادية في عهده.. البعض ممن عز عليهم ان يكون الرئيس بسيطاً فيذكر أسماء خصومه في خطابه، ربما حسنو النية، فعلى مدي ثلاثين عاماً لم نسمع سوى خطابات خشبية، يفسد مبارك بلاغتها أحيانا بقراءته الفاقدة للإحساس دائماً.
ولم يكن الرافضون للخطاب سواء، فهذه البساطة حاصرت الخصوم، بيد أن المشكلة في ان الأستاذ محمد حسنين هيكل أخذته الجلالة وهو يسعى ليرضي محاورته لميس الحديدي على ‘سي بي سي’، فقال ان ذكر شخصيات بالاسم أمر غير مسبوق في التاريخ!
وكأنه نسي السادات، وهو يصفه بأوصاف تغني عن ذكر اسمه: ‘الصحفي صديق الرؤساء.. دا حتى بيفطر في رمضان’.. وقلت له يا شنودة عيب.. و’الواد بتاع الجماعة الإسلامية أنا ح اربيه’ ومرة أخرى ‘سأفرمه’، وعمر التلمساني الذي ذهب ليتحالف مع الشيوعيين ضده.. ورجل الأعمال رشاد عثمان، والولد المجنون بتاع ليبيا.. والشيخ كشك الذي أثار الفتنة في دول الجوار.. والشيخ المحلاوي المرمي في السجن زي الكلب.
الغرض مرض يا قراء.
‘ صحافي من مصر
[email protected]
مقال رائع وربط ممتاز بين الأحداث ، ان الرفض هو سمة للأحداث التي تمر بها مصر ، لا احد يعجبة العجب ولا الصيام برجب ، لو كان الرئيس مثلا د. احمد شفيق او حمدين صباحي او عبد المنعم ابو الفتوح فلن يكون الوقف أحسن ، لم تتبلور الديمقراطية في مصر ، كان بود حمدين صباحي ان يفوز د. احمد شفيق لان إمكانية إزاحته ستكون أسهل او الدكتور البرادعي ، أقول لو ان النظام السابق كانت الانتخابات بها الأخيرة نزيهة وبدون الرئيس مبارك وبدون الكلام عن توريث أبنائه لكنا الآن بمصر ننعم بالاستقرار والأمن ولكان الحال عال ، الشعب المصري لم يعي الدروس ويغرق بشرب ماء والإعلام السئ وازلام النظام السابق وجبهة الإنقاذ التي تدعي حرصها على البلاد ستقع بنفس المطب لعدم احترامها لأصول الديمقراطية ، كان يجب المطالبة بانتخابات نيابية وشورى وسط هذا الحشد المؤيد للمعارضة وعندما يحصلون على الأغلبية وهذا ممكن ، يراجعون الدستور ويغيرون المعترض علية بطريقة ديمقراطية وعندها يطلبون من الرئيس مرسي بعمل انتخابات رئاسية مبكرة لان الوضع السياسي تغير ، ان فصيل المعارضة والأحزاب الإسلامية لا يمكن ان تكون في صراع وإلا فان حال البلاد لن يصلح مهما تغيرت الوجوه وتبدلت لان الرفض للآخر سيكون المطلب للمعارضة ، وأصحاب الاتجاه الإسلامي لن يصبحوا ليبراليين او اشتراكين او علمانيين ، لذا يجب القبول بالآخر والتعايش معه والقبول بإمكانية تداول السلطة ليأخذ الجميع فرصهم بالحكم او في صفوف المعارضة ويعمل الجميع لخير مصر وتقدمها والله الموفق ، انه نعم المولى ونعم النصير .
مبارك مشي بعد 30 سنة، ومرسي يمشي بعد سنة، و اللي بعده يمشي بعد شهر؛ معنى كده إن مصر ـ في أقرب فرصة ـ حتخلّي منصب الرئيس باليومية