تونس – “القدس العربي”: بعد ساعات من الخطاب “التفسيري” الذي وجه به الرئيس قيس سعيد للتونسيين لحثهم على التصويت لدستوره الجديد، أصدرت أغلب القوى السياسية والمدنية في تونس بيانات متزامنة تحذر فيها من خطورة التصويت للمشروع الجديد الذي اعتبرت أنه يهدد كيان الدولة ويمهد لعودة دولة الخلافة.
وكان سعيد التونسيين للتصويت بالموافقة على الدستور الجديد الذي قال إنه يمثل “روح الثورة”، معتبرا أنه سيحقق أهداف الثورة ويحمي الدولة من الهرم “فلا بؤس ولا إرهاب ولا تجويع ولا ظلم ولا ألم”، وفق ما نشرته صفحة الرئاسة على فيسبوك.
العودة للحكم الفردي
وفي بيان أصدرته الثلاثاء، اعتبرت جبهة الخلاص الوطني، التي تضم أبرز أطراف المعارضة، أن مسار الإعداد لدستور سعيد “جاء في سياقُ الانقلاب على الشرعية الدستورية والانفرادِ بالقرار واحتكار كلّ السّلطات. كما صيغ هذا المشروع في كنفِ إقصاء الأحزاب ومنظّمات المُجتمع المدني والشخصيات الوطنية المستقلة من كلّ حوار أو تشاور حول مُستقبل البلاد وما تقتضِيه من إصلاحات، وأُحيطت صياغته بجوّ من التكتّم والسرية دفع بالكثير من المشاركين في الاستشارة إلى الانسحاب منها حتى بلغ الأمر برئيس اللجنة الاستشارية ذاته إلى التبرؤ من المشروع الذي نشره قيس سعيد بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية”.
كما اعتبرت أن “مشروع الدستور المقترح يمثل رِدّةً تهدد بالعودة بالبلاد إلى الحكم الفردي المطلق الذي عانت منه لمدة تزيد عن خمس عقود حتى جاءت ثورة 17 ديسمبر-14 جانفي لترسيَ حكما قائما على الفصل بين السلطات أشاع الحريات وضمن الحقوق عبر مختلف الأجيال”.
وأشارت إلى أن المشروع الجديد “يسند كامل السلطة التنفيذية لرئيس الجمهورية ويمنحهُ صلاحيات واسعة في الميدان التشريعي ويجرد المجلس النيابي من كل سلطة رقابية على الحكومة وعلى أعمال السلطة التنفيذية برمتها. كما أنه يضعف السلطة القضائية، إذ ألغى المجلس الأعلى للقضاء المنتخب وعوّضه بثلاث هيئات يُعين أعضاؤها بالأقدمية كما عوض التركيبة المتعددة والمنتخبة للمحكمة الدستورية بأخرى معينة على أساس الأقدمية أيضا”.
وأكدت أنها ستقاطع الاستفتاء على هذا المشروع المبني على “انقلاب على الشرعية الدستورية ولما يُمثله من عودة للنّظام الرئاسوي المقيت، وتعلن تمسكها بدستور 2014 وتعتبر أن إصلاحه يكون نتيجة حوار وطني شامل يحافظ على مبادئ الفصل بين السلطات والتوازن والرقابة المتبادلة بينها شرطا لضمان الحقوق والحريات وسيادة القانون”.
كما توجهت بنداء لكافّة القوى الوطنية “بأن تتعالى عن خلافاتها وأن توحد كلمتها استجابةً لنداء الوطن فتتحرّك بصوتٍ واحد لإفشال الاستِفتاء واسقاطِ الانقلاب والعودة إلى الشرعية الديمقراطية وإنقاذ تونس من التفكّك والفوضى التي تُهدّدها”.
تبديد أموال الشعب
وفي مؤتمر صحافي عقدته، الثلاثاء، في العاصمة، اتهمت الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء (تضم خمسة أحزاب) الرئيس قيس سعيد بتبديد المال عبر تخصيص 5 ملايين دينار (1.5 مليون دولار) من أموال التونسيين للحملة الانتخابية لدستوره، مؤكدة أن الشعب التونسي لم يفوَض سعيد بصياغة دستور يعود بالبلاد إلى الدّكتاتوريّة ونظام الفرد الواحد كما كان عليه الأمر خلال حكم بن علي.
وقالت إنها ستقدم بشكاوى قضائية ضد رئيسة الحكومة بتهمة تبديد المال العام، كما ستقاضي أعضاء هيئة الانتخابات “لمشاركتهم في جريمة تغيير هيئة الدّولة”.
وأصدر حزب التيار الديمقراطي (عضو في الحملة) بيانا ندد فيه بـ”تجاهل السلطة القائمة للوضع الاقتصادي والاجتماعي والصحي المتأزم في البلاد وانكباب كل مؤسساتها على تمرير المشروع الشخصي لرئيسها”، مستنكرا “الإقصاء المتعمد للمقاطعين للاستفتاء وحرمانهم من المشاركة والتعبير عن رفضهم للمسار والتشكيك في نزاهته وفضح خطورة مشروعه”.
واعتبر أن مشروع الدستور المقترح يساهم في “طمس تاريخ تونس الحديث والتنكر لنضالات شعبنا في مراحل تاريخية مختلفة أهمها الحركة الوطنية ودستور ما بعد الاستقلال ودستور الثورة. وطمس الهوية التونسية بالتأكيد على جعلها جزءا من كل دون ذكر خصوصيتها واستقلاليتها وتمايزها في محيطها الدولي”.
كما اعتبر أن مشروع الدستور الجديد هو “خطر داهم يهدد كيان الدولة ووحدة الوطن والسلم الاجتماعي وأن الإصرار عليه ودعمه خيانة للوطن وأن التصدي له واجب وطني”.
التراجع عن حرية الصحافة
وأكد نقابة الصحافيين التونسيين أن مشروع دستور سعيد “يتضمن دسترة لحرية الصحافة والتعبير مع فتح المجال أمام التراجع عن جوهر هذه الحرية بمقتضى عبارات فضفاضة مثل الآداب العامة والأمن القومي والصحة العمومية، علاوة على حذف مبدأي التناسب واحترام الدولة المدنية الديمقراطية عند وضع ضوابط للحقوق والحريات مثلما نص عليه الفصل 49 من دستور 2014، وهو ما يمثل تراجعا خطيرا عن المكاسب التي حققتها الثورة التونسية في هذا المجال”.
وأشارت إلى أن المشروع “يلغي باب الهيئات الدستورية ومنها هيئة الاتصال السمعي البصري بما يفتح المجال أمام السلطة التنفيذية بالتدخل المباشر في قطاع الإعلام عبر منح إجازات البث وسحبها وتسليط العقوبات، وهو ما يتعارض مع مكاسب الثورة و المعايير الدولية وتعديل الإعلام بطريقة تشاركية وعبر هيئات دستورية مستقلة وفاعلة ويرجعه إلى مربع هيمنة السلطة ومحاولة توظيفه وضرب استقلاليته”.
كما أشارت إلى أنه “لم يتضمن أي ضمانات للفصل بين السلطات، مع منح رئيس الجمهورية صلاحيات مطلقة دون تقييد أو رقابة من أي جهة أخرى. إذ في مقابل اختصاص رئيس الجمهورية، طبقا للفصلين 109 و116 من المشروع المقترح، حل مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم أو أحدهما، فإنه لا يمكن للسلط التشريعية ولا للمحكمة الدستورية إثارة المسؤولية السياسية لرئيس الجمهورية بالرغم من تمتعه بكامل السلطة التنفيذية، مما يفتح المجال أمام نظام رئاسوي مطلق غير ديمقراطي ويكرس الحكم الفردي”.
وأكدت أنها “ترفض مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء وتنبه من خطورته لعدم استجابته لمبادئ حرية الصحافة والتعبير والحقوق والحريات واستقلالية القضاء والفصل بين السلطات والتوازن فيما بينها، ولتنكره لنضالات أجيال من المناضلات والمناضلين من أجل دولة مدنية ديمقراطية اجتماعية تحترم كرامة الإنسان وتدعم تطلعات المواطنات والمواطنين في العدالة والمساواة والبيئة والتنمية والقضاء على كافة أشكال التمييز ومناهضة الإفلات من العقاب”.
إقامة دولة دينية
واستنكر المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة “تنكّر هذا النص (مشروع الدستور) لمبدأ مدنية الدولة الذي هو مكسب أساسي للأمة التونسية، ناضلت أجيال من أجله منذ الاستقلال وضحت إلى أن أقرّه دستور 2014 في فصله الثاني تحصينا ضدّ الدولة الدينية، وتنكّره أيضا للمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان واستبدالها بمقاصد الإسلام التي أصبح تحقيقها من مهام الدولة، مما يقود ضرورة إلى إقامة دولة دينية على هيئة دولة الخلافة حيث تتقاطع “الأمة الإسلامية” مع منهج دعاة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في فصول مُختلفة من النص المُقترح مُنبئة بمرجعية لا علاقة لها بالدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وفي عبارات فضفاضة تفتح الأبواب على مصراعيها للتأويلات المتطرفة وللتجاوزات الخطيرة”.
كما اعتبر أن “التخلي عن مدنية الدولة التونسية نسفًا لمكتسبات الشعب التونسي، وهو هدية ثمينة من رئيس الدولة إلى الإسلام السياسي الذي خلنا أننا قطعنا معه يوم 25 جويلية 2021، وإلى مُمثّليه في تونس من أحزاب مُتطرّفة وتنظيمات عنيفة وجمعيّات مشبوهة”.
وعبّر أيضا عن “استغرابه الشديد من توطئة هذا الدستور وبما جاء فيها من خلط يحطّ من هيبة الدول، وبما اتّسمت به من نزعة ذاتيّة نرجسية هيمنت فيها رؤى شخصية وقراءة غريبة لتاريخ بلادنا تضخّم بعض الأحداث الجزئية وتتجاهل أو تنكر أخرى أكثر أهميّة! هذا علاوة على الأسلوب الضعيف والأخطاء اللغويّة”.
ودعا الرئيس سعيد إلى “التراجع حالّا عن هذا النص الضحل والهجين والخطير، وهو، في حال عدم التراجع، يدعو القوى الديمقراطية المدنية إلى التكاتف من أجل أن يكون لتونسنا العزيزة دستور يليق بها وبمستقبلها وبتطلّعات شعبها”.