الكيان الاستيطاني الاستعماري ذو النوازع التوسعية والعدائية لا يمكن أن يصبح «دولة يهودية» من الشرق الأوسط. وبإصرارها على مشروع الضم ستعمق إسرائيل من افتقارها للشرعية، وهي تكشف عن وجهها القبيح مجددا، باعتبارها مجرد امتداد لمشروع الهيمنة الغربية في المنطقة، وتحديدا النفوذ الأمريكي، وطموحات الإمبراطورية في التحكم بعالم أحادي القطب.
والذي يغيب تماما عن هذه العقلية الإسرائيلية الكئيبة هو، أي تفهم للدور الذي قاموا هم أنفسهم به في تغذية كل هذه العداوة حولهم، ولا يخفى على أحد أن ارتباط الولايات المتحدة الدائم بإسرائيل، وتقديمها الدعم اللامتناهي لهذا الكيان يُعد من أهم أسباب التوتر في منطقة الشرق الأوسط، خاصة أن هذا الفعل هو الدافع الرئيس لاستفزاز العرب والمسلمين، الذين يؤمنون بالقضية الفلسطينية، ويرفضون زرع كيان غاصب يقتلُ ويُشرد ويحاصر بأسلحة أمريكية، ويتلقى الدعم السياسي والدبلوماسي من المؤسسات الأممية التابعة، وهو يجتهد من خلال لوبي الأيباك وغيره في جعل الدعم الأمريكي اللامشروط لإسرائيل مصلحة قومية أمريكية، مع أنه ليس كذلك في حقيقة الأمر.
طرق التأثير في عملية السياسة والتخطيط للولايات المتحدة واردة، نظرا للإدارة الموزعة داخلها، ودونالد ترامب ظاهرة صوتية ينحني لمطالب نتنياهو، لعله يحظى بالدعم اللازم في الانتخابات الرئاسية المقبلة من قبل أنصار إسرائيل ومؤسساتها المتنفذة هناك، واللوبي الإسرائيلي داخل أمريكا يمتلك قدرة استثنائية على أداء لعبة «سياسات جماعات المصالح»، الأمر الذي انتهى إلى جر السياسة الأمريكية باتجاه تل أبيب، في واقع ضعف جماعات المصالح الموالية للعرب، أو غيابها تماما. وإلى الآن فإن هدف اللوبي الإسرائيلي الأساسي هو، الحيلولة دون تمكين أي تعليقات منتقدة للكيان الصهيوني من امتلاك الحظوظ للانتشار في الساحة السياسية. وعندما يكون أغلب أعضاء الكونغرس صهاينة مسيحيين ويهودا، فإن الأولوية رقم واحد في السياسة الخارجية هي حماية إسرائيل. وبالفعل فإن أسوأ وسائل الإرشاد لما يمكن فعله في أوقات غير مستقرة، قد تكون «الأقوال الطنانة»، في الإعلام، في مراكز الفكر، وفي الكونغرس، لأن النقاش العام لجميع قضايا السياسة اليوم تقريبا محلية وأجنبية، لا تزيد مثلما أكد وليم كوانت على كونها «مماحكات حزبية» وجميعها ألاعيب للمنافسة الفئوية. وخير دليل على ذلك أن الأيباك يمثل أداة عميلة لحكومة أجنبية ومع ذلك يمسك «بعصب حياة الكونغرس الأمريكي»، ولا نقاش مفتوح حول إسرائيل، لكي لا ينتبه دافعو الضرائب من الأمريكيين ويتسائلون عن مستويات الدعم التي توفرها واشنطن لتل أبيب. وقد نجح اللوبي في إقناع القادة الأمريكيين بضرورة تأييد اضطهاد إسرائيل المتواصل للفلسطينيين، ودفعوا الإدارة الأمريكية لاستهداف خصوم إسرائيل الإقليميين الرئيسيين وهم العراق وسوريا وإيران. وقد عبّر كبار المسؤولين في مجلس الأمن القومي منذ إدارة بيل كلينتون عن أهمية بقاء إسرائيل قوية في الشرق الأوسط، مقابل دول عربية وإسلامية ضعيفة. وألقوا خطبا أمام معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط، داعين إلى سياسة «الاحتواء المزدوج»، وجاهر أمثال مارتين أنديك بأنها تنبع في ذلك الحين من إدراك أن كلا النظامين في العراق وإيران معادٍ للمصالح الأمريكية في المنطقة، وبناء على ذلك فإن الولايات المتحدة لا تقبل بالفرضية القائلة إنها يجب أن تستمر في الحفاظ على التوازن القديم للعبة القوى، من خلال مساندة إحداها لكي تتوازن مع الأخرى. وهو ما حدث فعلا إبان الحرب العراقية الإيرانية، فقدرة أمريكا في الاعتماد على حلفائها الإقليميين، وهم بالأساس مصر وإسرائيل والسعودية وتركيا، هو السند الأهم بالنسبة إليها للحفاظ على توازن القوى لصالحها في إقليم الشرق الأوسط.
أغلب العرب يحكمون على أمريكا من خلال مواقفها من القضية الفلسطينية، حتى عندما ربط صدام حسين بين صراع الخليج والصراع العربي الإسرائيلي، واشترط خروجه من الكويت، بخروج الاحتلال الإسرائيلي من فلسطين، وُضِعت الولايات المتحدة في عهد بوش في إحراج، فقد أصبحت فجأة مهتمة «بالأراضي المحتلة» لدرجة حشد 400 ألف جندي لتحرير الكويت. ولم يكن تعهد الإدارة الأمريكية وقتها بالسعي لحل المشكلة الفلسطينية، بعد حل مشكلة الكويت سوى «مناورة استراتيجية» كاذبة يدفعها عدم استعدادها أن يحقق صدام أي مكسب يرفق انسحابه من الكويت، وكل ما قامت به أمريكا منذ حرب «عاصفة الصحراء» ليس حبا في عائلة الصباح أو غيرهم، وإنما الهدف كان على الدوام تأمين وصولهم إلى البترول الخليجي بشكل آمن ومستقر.
مازلنا أمام قوة احتلال تضم الأراضي وتُقيم في مناطق ليست لها، والجميع يشاهد والفلسطينيون وحدهم يقاومون
مازلنا أمام قوة احتلال تضم الأراضي وتُقيم في مناطق ليست لها، والجميع يشاهد ذلك ويساهم في إطالة أمد هذا الاستعمار الكولونيالي، الذي يقاومه الفلسطينيون لوحدهم، وهو واقع ساهم في إبقاء المأساة الفلسطينية أزمة تُدار دبلوماسيا لتبرير القوة والعسكرة والإخضاع، في غياب تام للعدالة الأخلاقية، وتجاهل لحق الشعوب في تقرير مصيرها، واسترجاع أوطانها وبناء دولها. وفي الوقت الذي تصر فيه إسرائيل على بناء المستوطنات، بطريقة غير شرعية في الضفة الغربية المحتلة، وتحظى بدعم أمريكي معززة ريبة العرب بشأن مقاربة الغرب المبنية على مصالح تل أبيب في المنطقة، لا تزال الحالة العربية تشهد انقساما وصراعات بينية، لا مبرر لها سوى غياب الرؤية الاستراتيجية، ووهن السياسات وخيبة الحكام، ومعظمهم يعانون كما كبيرا من التقوقع الدفاعي القُطْري، وإحساس مفرط بالاضطهاد والسخط، منتظرين أي رئيس أمريكي يفوز، وهل سيكون رحيما بالعرب ويغير من سياسة أمريكا تجاه فلسطين؟
كاتب تونسي