من يستطيع أن ينكر تأثير قناة الجزيرة القطرية في الخطاب الإعلامي العربي ووعيه الجماعي داخل المنطقة العربية وخارجها منذ نشأتها حتى اليوم، وقد صاحبت ناقلة قارئة لحظاتٍ مفصلية فارقة في حاضر الأمة ومصيرها، فصارت بدون مبالغة أهم حدث يسِم العقل العربي وخطابه الإعلامي في العصر الحديث. وليست الحملة الشرسة التي تتعرض لها اليوم إلا العنوان الأبرز لحجمها ووظيفتها في قراءة المشهد ككل. ليس الإقرار السابق حكما مطلقا أو عزفا تمجيديا لما ترسخ قِدما في السلوك العربي، قبل الانفجار الكبير الذي صاحب ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 من عمق الريف التونسي الفقير، بل هو اعتراف بالجميل وحق على المحرر من الاستبداد لمن ساند حركة المهمشين والفقراء في ربوع الوطن الكبير، الوطن الغني جدا والمفقرِ أبدا. الآن وقد خفتت الحملة قليلا في تونس وغيرها من دول الربيع العربي، فهل يمكن أن نفسر العوامل الأساسية وراء الحملة الممنهجة على الجزيرة ودولة قطر؟ لِم التنكر لمن ساند حركة الفقراء والمهمشين؟ لم تأصل العداء العربي العربي، لم ظلم ذوي القربى، من وراء كل هذا؟ هل الإمبراطورية الأمريكية وإعلامها أقرب رحما وأوصل مددا لنخبنا العربية من إخوانهم في الوطن والأرض؟ إن تمكن ثقافة النقد قليلا والتجريحِ غالبا من الخطاب العربي المعاصر يجب ألا يمنع الإقرار، من دون مجاملة أو رياء، بوجود مناطق ضوء في حاضر الأمة وإن كانت خافتة، لأن طمس الخلايا الحية في الراهن اليومي على مرارته إيغال في جلد الذات هو أقرب إلى البكاء على الأطلال منه إلى بنائها. عرت الجزيرة إذن أو قل ساهمت بشكل وظيفي فعال وجريء وبحرفية تقنية ونوعية عالية في كشف الوجه القبيح لمنظومة الاستبداد العربي، وأربكت آليات اشتغال هياكله على امتداد سنوات. ركيزتان أساسيتان مكنتاها من تحريك الآسن القديم في الخطاب السياسي العربي، وهما الرأي والصورة. فقد استضافت منابر الجزيرة المرئية والمكتوبة والمسموعة كل الآراء والطروحات على اختلاف مشاربها، ووصل الأمر بها إلى منح المنبر أحيانا إلى غلاة الصهاينة في قلب الحدث، خلال حروب العصابات المهاجرة على أهلنا في فلسطين ولبنان. أمسك المصدح أحيانا أخرى أعداء الأرض العربية من العرب ذوي القربى وكتائب الطابور الخامس، فرأينا من يسب القناة وأهلها، وهو في ضيافتها، ثم يعود إلى موطنه سالما. وقد دأبت العادة العربية في مرتع الاستبداد على ألا يُنطق في البلد العربي بغير الحمد والثناء للقائد المغوار والزعيم الأوحد، حذر الاختفاء أحيانا والتبخر غالبا، فواجب الضيافة العربية حق المستبِد على ضيوفه. أما الصورة مكونا أساسيا للمشهد والخبر فصارت اللعنة الأعظم التي أحاطت بصرح الاستبداد، فمشهد محمد البوعزيزي متفحِما، وقبله محمد الدرة مغتالاً، وخالد سعيد معذباً حتى الموت وقوافل الشهداء، كلها كانت الحاضنة المرئية التي أقضت مضجع المحكوم قبل الحاكم، فلم يتعرض الضمير العربي الساكن في تاريخه إلى مثل ما تعرض له مع الجزيرة وصورها ومشاهدها من صعْق يومي وهزات متجددة تجرعه مرارة واقِعه وتدفعه لا واعيا إلى الحركة حتى كان الربيع. خطر الجزيرة المحدق بمنظومات الاستبداد وهياكله الثابتة والمتحركة ومنوالاته القديمة والمتجددة، برز جليا في ردة الفعل الخارجية على استقطاب القناة للوعي العربي والبدء بإعادة تشكيله، فكان أن تناسلت هنا وهناك منابر ناطقة بالعربية داخل المنطقة وخارجها، موجهة للعقل العربي تتفاوت موضوعية وحرفية. إثم الجزيرة أنها وطأت محرما وولجت مجالا كان إلى وقت قريب منطقة عصيةً على الاختراق. قد لا يتفق البعض مع القناة وخطها التحريري، وهو حق في الرأي بل وواجبٌ في الاختلاف ضامنٌ لمبدأ التنوع الكوني، لكن ألا يبرر الاختلاف وألا تقدم بدائله النوعية، فذلك يغدو إفكا صريحا يذكر بخطاب المعارضة العربية اليوم في دول الربيع، التي تكتفي من المعارضة بلعن الحاكِم والناخِب من دون أن تقدم مشروعا سياسيا بديلا ومقنعا، فغدت شيطنة الآخر مشروعا معرفيا تتفرد به النخب العربية المعارِضة. ليس من في السلطة منزها عن النقد، بل هو يرتكب اليوم في تونس ومصر أخطاء كثيرة قد تطيح به وبالثورة جملة، لكن أليس من الحكمة ومن الوطنية ومن الرشاد أن نصبر على المنتخب شرعيا مراعاة لحساسية المرحلة وأن نقدم بدائل قادرة وحدها على إقناع الناخب دون غيره. هل الدفع إلى إحراق البلاد مثلما يحدث اليوم في تونس ومصر بديل ثوري؟ لم يعد الوضع إذن ولن يعود ولم يعد المشهد ولن يعود مثلما كانا عليه قبل مولد الجزيرة، ولم تعد حرب الخليج الثانية مثل نظيرتها الأولى على شاشات التلفزة شبيهة بلعبة إلكترونية أو حفلة ألعاب نارية، بل صار الدم العربي نازفا على الهواء ولم تعد حروب العصابات المهاجرة على أهلنا في فلسطين صورا تزين أعمدة الصحف والمجلات، بل صارت خبزا يوميا يصاحب قهوة الصباح يعطيها طعمها الأخير ويلونها بلون الدم السوري القاني. لا ينكر إلا جاحد دور الجزيرة الريادي في تشكيل الوعي العربي، أو بالتحديد في إعادة تشكيل بقاياه، وهو ما ساعد بشكل كبير في تعجيل الانفجار العظيم الذي أحدثه هذا الوعي. ندرك جيدا خطورة الرأي الحر على منظومات الاستبداد عامة والعربية منها بشكل خاص، لأنه يجيز منطقا غير منطق الاستبداد ويسمح بآراء تناقض جوهر الرأي الواحد والحزب الواحد والزعيم الأوحد وهو ما أدركه الاستبداد العربي مبكرا وقد وعى خطورة الإعلام الحر في نسخته الأكثر حرفية واستقلالية، فحارب الجزيرة وأغلق مكاتبها وعنف مراسليها واغتال صحافييها. نتفهم جيدا أن يحاصر الاستبداد العربي الرأي الآخر وأن يصادر الإعلام الحر، كما صادر كل الفضاءات الافتراضية التي عجلت بسقوطه، لأن الصراع بينهما صراع وجود أساسا، لكن أن تحاصِر قوى ما بعد الثورة وإعلامها في كل من مصر وتونس خاصة، قناة الجزيرة وتتفنن في الإساءة إلى قطر قيادة وشعبا فهذا غير مبرر وغير بناء في هاته المرحلة الحاسمة وهو لا يفهم إلا من ثلاثة مكامن بحكم طبيعة القوى الكامنة فيها. تتنزل في الزاوية الأولى قوى الدولة العميقة في كل من مصر وتونس وليبيا، وهي تجمع فلول النظام القديم في هذه الدول، وكبار حيتان المال والعمل وأدواتهم الإعلامية الضاربة. لقد تمكنت هذه المجموعة الأولى بعد ثورتي 17 ديسمبر و24 كانون الثاني/يناير، من امتصاص الرجة الأولى للحركة الثورية بعد أن أمِنت المحاسبة والقصاص ورأت في ثورةٍ من دون قيادةٍ خطأ تاريخيا يمكن تصحيحه، وأن العودة إلى المشهد من جديد، بل وتصدره إمكانية كثيفة الورود، بل هي ترى -في أسوأ الحالات- أن خلخلة الوضع والإبقاء على حالة الفوضى الداخلية كفيل بإحلال شروط عودة النظام القديم في حلة ثورية جديدة. خذ مثلا هذا الحنين المفاجئ إلى االبورقيبيةب – النظام السياسي للرئيس بورقيبة – اليوم في تونس وهو خيار إستراتيجي لقوى الثورة المضادة على غاية الدهاء لأنه يحقق ثلاثة أهداف، أولها التنصل من مرحلة بن علي والقفز عليها ومن ثم الخروج بثوب الضحية ضحية الاستبداد في حين يعلم الجميع أن بن علي وحزب التجمع الدستوري الديمقراطي هو الوريث الشرعي والامتداد الطبيعي للبورقيبية. ثانيها العزف على وتر الاستقلال وخروج المستعمِر من أجل تحريك الحنين إلى مرحلة بناء الدولة ونحن نعلم أن الاستقلال لم يكن غير مرحلة جديدة من الوصاية وشكل من الاستعمار الجديد. أما ثالث الأهداف فيتمثل في التلويح ابالحداثةب وبالحريةب وبالعلمانيةب وبحقوق الإنسانب شكلا جديدا من أشكال تحرر الإنسان مقابل االظلاميةب وبالرجعيةب وبالتكفيرية’، وهي التهم التي يوجهها أعداء الإسلاميين لمشروعهم في الحكم. يشغل الزاوية الثانية ما يسمى توهما بالمعارضة العربية، التي تتوزع في تونس ومصر بين قوى ليبرالية ويسارية وعلمانية وقومية وحتي إسلامية… وهي في غالبيتها الكبيرة تجمع لانتهازيين سياسيين لا هم لهم إلا البحث عن نصيب من الكعكة الثورية التي حرموا منها طويلا زمن الاستبداد. نقول هذا لأن أغلب هذه القوى الاصطناعية المركبة وغير الطبيعية كانت حليفة الاستبداد مكنت له وشرعت لحكمه، فكانت عدوه الحميم الذي لا غنى له عنها ولها عنه. وهي قوى لا تحمل مشاريع تغيير حقيقية داخل المنطقة، وإنما تتفق فقط على شيطنة المنتخب إسلاميا كان أو غيره، كما تتفق في عدائها الصامت للمشروع العربي الإسلامي الأصيل بقيادة نخب متعطشة للسلطة والنفوذ. من هنا كانت معاداة الجزيرة وقطر الدولة المتضامنة مع مشروع تجدد الإنسان العربي أولويةً مركزية في حسابات هذه القوى، فحتى وإن سلمنا جدلا وذهبنا في التحليل إلى أبعد مداه مع القوى المتحاملة باتهام قطر بأن لها مشروعا في المنطقة، فهل يمكن أن توجد دولة من دون مشروع في إطارها الإقليمي، هل يمكن تصور كيان سياسي غير حامل لرؤية لمنطقته ولأهلها؟ هل كتب على العربي ألا يغادر محل المفعول به أو في أحسن الحالات محل نائب الفاعل؟ ثالث القوى المعادية للتغيير وأقلها تأثيرا حسب قراءتنا تتمثل في القوى الخارجية التي فاجأها الربيع العربي وأربك الكثير من حساباتها في المنطقة لأنه أزاح صروحا عانت الكثير في ترسيخها، فكانت تمدها بالمال والدعم من أجل الحفاظ على مصالحها. لنتصور حجم الخسارة الصهيونية والأمريكية والفرنسية في رحيل مبارك وبن علي والقذافي بشطحاته الثورية. إنها قوى لا تعمل إلا في مناخات تجعلها قابلة للعمل، لا تعمل إلا من خلال خلاياها النائمة والمستيقظة، فهي كما يقول أبو العلاء االمستطيعة بغيرها ا. هي على شراسة فعلها المعادي للتحرر تقف عاجزة أمام إرادة الشعوب لأنها تعلم أن إرادة الشعب من إرادة الله، وهكذا قال الربيع العربي لهذا لا بد لها من طابور خامس ينوبها في مظهر حزب سياسي هنا وجمعية حقوقية هناك وقناة إعلامية غير بعيد عنهما . مخطئ من يعتقد أن عِداء هؤلاء هو للإسلاميين رأسا، إنه عداء لكل مشروع يحمل أصالة العروبة وروح الإسلام، كل مشروع قادر على تجميع الخلايا الثقافية والمعرفية الحية وتكوين تصور جديد للذات وللعالم قادر على البناء والفعل، مشروع تكون أول أحجاره القضاء على شروطِ إمكانِ تجدد الاستبداد واستئصال كل الأبنية والأنساق المرتبطة بالفساد والنهب.