خسرت إسرائيل الرهان على أن تصبح المركز الإقليمي للغاز في شرق البحر المتوسط، والمنفذ الرئيسي للغاز من تلك المنطقة إلى أوروبا. الولايات المتحدة، الراعي الرئيسي لمشروع أنابيب شرق البحر المتوسط، بعد أن كسبت حصة مهمة من سوق الغاز الأوروبية، قررت سحب تأييدها للمشروع، وكذلك فعل الاتحاد الأوروبي، لأسباب اقتصادية وبيئية وتقنية، وهو ما ترك المشروع-الحلم الإسرائيلي- يتيم الأم والأب. وبدلا من خط أنابيب الغاز طرحت أوروبا خطة لربط دول شرق المتوسط بمد كابل كهربائي بحري. هناك أيضا شكوك كثيرة حول قدرة إسرائيل على زيادة إنتاجها من الغاز، بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج من المياه العميقة، والاتجاه العالمي إلى التحول عن مصادر الطاقة التقليدية إلى مصادر متجددة مستدامة. عاموس هوتشستاين مستشار وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الطاقة قال أن المشروع كانت تحركه دوافع سياسية، وأن إدارة ترامب أيدته بدون اعتبار للشكوك القوية التي تحيط به. هذه هي الضربة الثانية التي يتعرض لها الحلم الإسرائيلي لإقامة مركز إقليمي لتجارة الطاقة بعد أن اعترضت وزارة البيئة الإسرائيلية على مشروع إقامة محطة لناقلات النفط في ميناء إيلات ومد خط أنابيب من هناك إلى البحر المتوسط في إطار مشروع مشترك مع دولة الإمارات العربية. الآن توقف مشروع نقل البترول الإماراتي عبر إسرائيل، كما توقف مشروع تصدير الغاز الإسرائيلي عبر خط أنابيب شرق المتوسط.
الآثار المباشرة لموت مشروع خط أنابيب شرق البحر المتوسط تصب في مصلحة مصر، التي أصبح أمامها فرصة أكبر لتصدير الغاز المسال من محطات الإسالة في إدكو ودمياط، إلى أسواق أوروبا والشرق الأقصى. كذلك فإن تركيا أصبحت في وضع أقوى كنقطة عبور للغاز الطبيعي من غرب آسيا إلى أوروبا.
قدرة إسرائيل
على التصدير محدودة
ويعتبر مشروع خط شرق المتوسط لأنابيب الغاز أحد المشروعات عالية التكلفة والمخاطر منذ تم طرحه عام 2016. وقد تم تقدير التكلفة الأولية للمشروع في ذلك الوقت حوالي 6.8 مليار دولار. لكن تقديرات الخبراء أن التكلفة ربما تكون قد زادت في الوقت الحالي إلى ضعف ذلك المبلغ، وهو ما يجعله مشروعا قليل الجدوى إضافة إلى مخاطره البيئية. ولهذا فإن إدارة بايدن عندما أبلغت حكومات إسرائيل وقبرص واليونان بقرار سحب تأييدها للمشروع في أوائل الشهر الماضي، فإنها أرفقت القرار بمخاوف اقتصادية وبيئية. كذلك فقد جاء القرار الأمريكي متسقا مع الموقف الأوروبي بشكل عام للتحول من مصادر الطاقة التقليدية إلى المصادر المتجددة غير الملوثة للبيئة. وترتبط المخاوف الاقتصادية بارتفاع تكلفة مد خط الأنابيب وصيانته على عمق كبير تحت سطح البحر، وكذلك ارتفاع تكلفة استخراج الغاز من المياه العميقة في شرق المتوسط، وعدم اليقين بشأن توفر الكميات الكافية من الغاز لتشغيل الخط، حيث لا يتجاوز الاحتياطي المؤكد من الغاز لدى إسرائيل في الوقت الحاضر حسب تقدير شركة بريتش بتروليوم عن 600 مليار متر مكعب، وهو ما يعادل 0.3 في المئة من الاحتياطي العالمي، مقابل ما يزيد عن 20 في المئة لروسيا و17 في المئة لإيران و13 في المئة لقطر. أما المخاوف البيئية فهي كثيرة جدا سواء للخط نفسه أو لاستخدام الغاز في توليد الكهرباء، وذلك على الرغم من التصنيف الأوروبي الأحدث لمصادر الطاقة، الذي يعتبر الغاز أحد المصادر المستدامة، إلى جانب الطاقة النووية وطاقة الشمس والرياح.
كذلك فإن قدرة إسرائيل على تصدير الغاز إلى أوروبا تظل محدودة جدا بالقياس إلى روسيا التي تمد أوروبا بحوالي 200 مليار متر مكعب من الغاز سنويا تعادل 40 في المئة من احتياجاتها، في حين لا تتجاوز كل صادرات إسرائيل 10 مليارات متر مكعب سنويا. ويتم تصدير الغاز إلى مصر والأردن من حقل ليفياثان، في حين ان إنتاج حقل تمار يستخدم حتى الآن في تغذية محطات توليد الكهرباء الإسرائيلية. ومع زيادة الطلب على الكهرباء في الضفة الغربية وغزة فإنه من المرجح ان تستخدم إسرائيل مزيدا من الغاز المحلي في إنتاج الكهرباء لتغطية الزيادة في الطلب المحلي وزيادة الإمدادات إلى الضفة وغزة.
ويتوقع سايمون هندرسون مدير برنامج الطاقة في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط أن الغاز الإسرائيلي سيفقد قدرته التنافسية لارتفاع تكلفة الإنتاج من مناطق المياه العميقة، وهو ما ينطبق أيضا على حقول الغاز المشابهة في منطقة امتياز «شروق» في مصر التي يوجد فيها حقل «ظهر». وبالنظر إلى التطورات السريعة في تخفيض أسعار الطاقة المتجددة، فإن مستقبل غاز شرق المتوسط يصبح محل شكوك كبيرة مع مرور الوقت بسبب ارتفاع أسعاره. لكنه سيظل محتفظا بمكانته إذا استمرت أسعار النفط مرتفعة أو في حالات الأزمات الطارئة، أو استمرار عدم اليقين بشأن تشغيل خط نوردستريم -2 من روسيا إلى أوروبا.
الرئيس التركي رجب طيب اردوغان انتهز فرصة القرار الأمريكي بتأكيد أن الطريق الوحيد لمرور الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا هو عبر تركيا، ودعا إسرائيل بشكل غير مباشر إلى الجلوس لمناقشة إمكانية وشروط عبور الغاز إلى أوروبا من خلال تركيا. ومن المرجح ان يكون ذلك هو أحد موضوعات محادثاته مع الرئيس الإسرائيلي خلال زيارته المتوقعة لتركيا في الشهر المقبل.
تعثر خط الأنابيب القبرصي
وفي الوقت نفسه يتعثر مشروع خط الأنابيب في قبرص لنقل الغاز من حقل أفروديت إلى الجزيرة واستخدامه في تغذية محطة لتوليد الكهرباء، على أمل تخفيض أسعار الكهرباء في قبرص بنسبة 25 في المئة. وقد حصلت على ترخيص إنشاء الخط ومرافق نقل واستقبال الغاز شركة الصين لأنابيب البترول، بقيمة 290 مليون يورو وبدأت العمل فيه في كانون الأول/ديسمبر 2019 لكنه تعثر مع ظهور وباء كورونا، ولم تتمكن الشركة الصينية من إحراز تقدم يذكر في عمليات الإنشاء، خصوصا في إنشاء رصيف لميناء الغاز ومحطة للتغييز. وكان من المقرر الانتهاء من أعمال المشروع بالكامل في نهاية العام الماضي، لكن الشكوك المحيطة بأعمال الإنشاءات حتى الآن، تشير إلى أنه من الصعب تحقيق ذلك حتى نهاية عام 2024 وهو ما قد يتسبب في ارتفاع تكلفة المشروع إلى ما يقرب من 400 مليون يورو بسبب ارتفاع أسعار المواد الخام والمعدات وتكاليف النقل والأجور. هذا الارتفاع في التكاليف يعني من الناحية التجارية عدم جدوى تخفيض أسعار الكهرباء للمستهلكين بنسبة 25 في المئة، كما يكرس وضع قبرص كحلقة شديدة الضعف في صناعة الطاقة الأوروبية.
كابل كهربائي
بدلا من أنابيب الغاز
من المعروف أن الغاز يمكن تصديره في شكله الأولى «غاز طبيعي» كما تفعل روسيا، وهو ما يحتاج إلى خطوط أنابيب ومحطات للضخ والتقوية والقياس والاستقبال. كما يمكن تصديره في صورة مكثفة مبردة «غاز مسال» وهو ما يحتاج إلى محطات للإسالة وأرصفة خاصة للتحميل وناقلات مبردة مجهزة لنقل الغاز، ثم يحتاج أيضا إلى محطات للاستقبال وإعادة الغاز إلى صورته الأولية أو ما يسمى بعملية «التغييز» وهذه كلها تصاحبها تكاليف تضاف إلى سعر الغاز وترفع تكلفة استيراده إلى أكثر من ضعف تكلفة الإنتاج. لكن هناك طريقة أخرى لتصدير الغاز، وذلك عن طريق تحويله إلى كهرباء، بدلا من تحويله إلى غاز مسال، ثم تصدير الكهرباء عبر الكابلات وخطوط الضغط العالي إلى أسواق الاستهلاك. لكن ذلك يحتاج إلى استثمارات ضخمة لغقامة محطات الكهرباء وخطوط الجهد العالي أو الكابلات.
ونظرا للقيود البيئية والاقتصادية على خط أنابيب غاز شرق المتوسط، وكذلك للحاجة الضرورية إلى إنهاء عزلة الطاقة التي تعاني منها قبرص وفقر مصادر الطاقة في كل من اليونان وقبرص، فإن دول الاتحاد الأوروبي اعتمدت أخيرا مشروعا بديلا لأنابيب الغاز يتمثل في مد كابل بحري للكهرباء بطول حوالي 900 كيلو متر بين قبرص واليونان بتكلفة تبلغ 730 مليون دولار. هذا الكابل يمثل المرحلة الأولى لمد كابل كهرباء قاري تحت سطح البحر، على عمق يصل إلى ثلاثة كم، يربط غرب آسيا وأوروبا.
وطبقا للمخطط الرئيسي لمشروع الربط بين غرب آسيا وأوروبا الذي تبلغ طاقته 2 غيغا وات، ويصل طوله إلى 1210 كم تقريبا هو ربط شبكات الكهرباء في إسرائيل وقبرص واليونان بالشبكة الأوروبية. وعلى التوازي مع مد الكابل البحري من المتوقع أن يتم تعزيز البنية الأساسية لإنتاج الكهرباء من الغاز الطبيعي والمصادر المتجددة في البلدان الثلاثة. وطبقا لذلك المخطط ، فإنه من المقرر أن يبدأ العمل في مد الكابل البحري هذا العام، على أن يتم الانتهاء منه في عام 2025 ويبدأ تشغيله في العام التالي. وقد اعتمدت اللجنة الأوروبية مخصصات تمويل مد الكابل البحري بالفعل في إطار حزمة من مشروعات البنية الأساسية الأوروبية تتجاوز قيمتها مليار يورو. كذلك يحظى المشروع بدعم الإدارة الأمريكية الحالية وذلك على العكس من مشروع خط شرق المتوسط لأنابيب الغاز.
لكن مشروع الكابل البحري بين أوروبا وشرق المتوسط من المتوقع أن يواجه عقبات قانونية بسبب مروره عبر المنطقة الاقتصادية الخالصة لتركيا. وما لم يتم تسوية هذا النزاع القانوني المحتمل فإنه قد لا يرى النور. ومن هنا تبدو أهمية تركيا في أي ترتيبات لربط شبكات الطاقة الأوروبية بمناطق الإنتاج الوفير من الطاقة التقليدية أو المتجددة في الشرق الأوسط.