خلقت لكي أكون مجاهدا!

الجميع راغب في النجاح، التميُّز والتمتع بمقدار وافر من السعادة والهناء التي أساسها راحة البال، وتوافر الأموال، ولو بشكل معقول لتحقيق الحد الأدنى من الرفاهية. وبالتأكيد، كل فرد على تمام الثقة بأنه يستحق كل هذا؛ لأنه يتعب ويكد في تلك الحياة القاسية، التي لا توفر له إلا أقل القليل، وتقتّر عليه رزقه مهما ثابر وحاول. أضف إلى هذا، أن مسيرته في الحياة، والصعاب والعقبات التي واجهها بكل ثبات، أو درأها، أو تغلب عليها، أو حتى تجنب أذاها، تشهد بأنه شخص يستحق الثناء على مثابرته، وعزمه الذي لا يفتر، وذلك بالتأكيد يجعل منه إنسانا «متميِّزا» عن جدارة.
مما لا شك فيه، كل مخلوق في هذه الحياة يستحق أن يكون «عظيماً»، لكن مع التركيز على أهمية نيل مرتبة العظمة دون سواها، سوف ينزلق الفرد – بالتبعية – لمفهوم «العقلية الاستحقاقية» التي تفكر دوماً في ما لها من حقوق، وتغضب إذا لم تحصل على ما تفترض أنها تستحقه، ما يسبب لها العديد من المشكلات النفسية، وقد يتطور الأمر إلى توق أصحاب تلك العقليات لامتلاك كل ما يملكه الآخرون، ما يجعل شعور الحقد والضغينة يتفشى بين الأفراد، إلى أن ينتشر ذلك الشعور غير السوي ليعم المجتمع بأسره، فيزيد من حجم الفساد بين أفراد المجتمع الواحد. وهذا ما يحدث بالتأكيد في المجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية، جراء ثورات، أو انقلابات، أو حتى حالة حرب.
ومن ثم، يجب على المرء أن يحدد موطئ قدمه داخل المجتمع، وأولى أولوياته يجب أن تكون تحديد مجموع القيم التي على أساسها سوف يحدد منهاج حياته. فلو كان الطموح هو أسمى القيم للفرد، من الواجب معرفة أن الجميع لديهم طموحات تتخطى حدودها عنان السماء، ما يجعل كل البشر بطريقة أو بأخرى حبيسي عالم من الخيال منفصل تماماً عن الواقع.
وعلى هذا، من أصعب المهارات التي يمكن أن ينميها الفرد داخل نفسه، هي القدرة على تحقيق التوازن بين الطموحات الفردية، وما يمليه عليه الواقع. علماً بأنه ليس بمقدور الشخص المتشائم والمثالي تحقيق هذا التوازن. ولو تحتم علينا التفاؤل بشأن ما يخبئه لنا المستقبل، يجب في الوقت نفسه، معرفة أن الحياة ليست وردية. ولكم هو مزعج أن الجميع على دراية تامة بتلك الحقيقة، لكن يفضلون التغافل عنها؛ لأنه من الصعب مجابهتها؛ لأنها تسبب الشعور بالألم وعدم الراحة. ومن ثم فإن النجاح أو الفشل في الحياة على وجه العموم يتحدد من خلال القدرة على مواجهة تلك الحقائق بشجاعة، وانتقاء نوع الصعاب والتحديات التي ينبغي مجابهتها خلال رحلة الحياة. ولسوف يكون من الصعب جداً على من يفضلون الطرق الملتوية، تبرير مواقفهم أمام أنفسهم، ما يجعلهم يغرقون في خداع الذات، لدرجة أنهم قد يصيغون مبررات لمواقفهم الملتوية، واختياراتهم الشاذة. ولتفادي ذلك، يجب على المرء الاعتدال في كل ما يتخذه من مواقف وقرارات. وأن يعلم أنه ليس ذلك الشخص «المميز» الذي يجب أن يدور الكون في فلكه.

من الواضح أن نيتشه كان سعيداً عندما يحتار الآخرون في تفسير قوله؛ فالسعادة يتم حصادها عندما يحافظ الفرد على كونه «عاديا»، وذلك هو قمة الإبداع والثبات.

فهو مجرد شخص عادي، ويجب أن يتقبل ذلك، لأن الكون لن يكف عن الدوران، بسبب أي فرد، ولن يبرر أيضاً ما يحدث فيه من ظواهر لأي فرد مهما بلغ نفوذه وقوته. وعلى النقيض، يعد اعتراف أي فرد بأنه مجرد إنسان عادي، والإصرار على أنه ليس بذلك الشخص المتميز ـ مهما بلغت درجة إبداعه – من أصعب الأمور؛ لأنه من الصعب مجابهة الذات، لكن عند مجابهتها، يبدأ الفرد يخطو نحو النجاح خطوات واسعة.
ومن أشهر مفكري العصر الحديث الذين استطاعوا أن يكسروا الجدار الفاصل بين الحقيقة والخيال، كان الفيلسوف الألماني الشهير فريديريك نيتشه (1844- 1900) الذي عرف بين الجميع أنه عملاق الحياة والفلسفة، ذو الآراء النافذة. ومع ذلك كان يحاول أن يحافظ على رباطة جأشه وتميزه من خلال التوكيد على أنه مجرد فرد «عادي». ويعد إقناع الآخرين والذات بأننا مجرد بشر «طبيعيين» غير «متميزين» هو في حد ذاته فن يصل لدرجة الإبداع. ومن الجمل الشهيرة التي كان يرددها نيتشه بكل تواضع في مواقف كثيرة «عفواً، لقد نسيت مظلتي»؛ ليذكر الجميع بأنه مجرد فرد عادي يشرد، وينسى، وفي احتياج لمن حوله. لكن صارت هذه الجملة التي تجري أيضاً على ألسنة الكثير من الأفراد العاديين لغزاً احتار في تفسيره المفكرين والفلاسفة. فريدريك نيتشه عملاق الفكر، الذي أسس بكتاباته الفلسفية أسس وملامح فلسفة القرن العشرين، والواحد والعشرين، ولربما القرون المقبلة ـ استخدم مصطلحا بسيطا «عادي» ليفكك به أسس التفكير ويقلبها رأساً على عقب، مع الحفاظ على أنه فرد عادي، وكان ذلك سر إبداعه. فقد صارت هذه الجملة الملغزة، التي يرددها في مواقف عدة بشكل مفاجئ وقد لا يستدعي قول هذا بمثابة إبداع يتميز به نيتشه؛ فقد صارت تفكيكاً لجميع المفاهيم السائدة لتأويلها. ومن ثم، لجأ الفلاسفة لتفسيرها من خلال مقارنتها بالنصوص التي تحوي استخداما فعالا للمظلة، وتبين أن «المظلة « كأداة هي وسيلة لإثبات الشيء وعكسه. فالمظلة هي رمز للرجولة المتينة، ورمز الأنوثة الأنيقة. وهي الأداة المستخدمة للحماية من قطرات المطر، وكذلك هي السبيل لاستكشاف ما إذا كان الجو جافا أم مطيرا. أضف إلى كل هذا، تستخدم المظله كسلاح فتاك للنيل من الأعداء، أو ممن يحاولون تعكير صفو الحياة، من خلال شن هجمات لا يمكن تكهنها. فيذكر أنه خلال إقامة احتفالية استعمارية كولونيالية بريطانية على أرض الهند المحتلة، هجم نمر بري على هذا الحشد، لدرجة أن همّ الكثير من المدعوين إلى الانصراف مذعورين، خشية أن يأكلهم النمر، لكن فاجأت سيدة عجوز الجميع باستخدامها المظلة كسلاح؛ حيث فتحت المظلة في وجه النمر الذي بدوره فر مسرعاً، وبهذا أنقذت المظلة هذا الاحتفال البهيج، ولم ينصرف أو يتأذى أي من المدعوين.
من الواضح أن نيتشه كان سعيداً عندما يحتار الآخرون في تفسير قوله؛ فالسعادة يتم حصادها عندما يحافظ الفرد على كونه «عاديا»، وذلك هو قمة الإبداع والثبات. وبالتبعية، لن يحبس المبدع أو الذي تميز ولو قليلاً نفسه في شرنقة ليعزل نفسه بعيداً عن الآخرين، والواقع كما يحدث دوماً. على النقيض، لسوف يستمتع بحياته المملة، وبتفاهات المحيطين به. ولو سألت عن الجهاد الحقيقي لعرفت أنه الحفاظ على كوننا أفرادا «عاديين طبيعيين» في وسـط مجتمع يدفعنا دفعاً ألا نكون طبيعيين.

٭ كاتبة من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    حكمة العرب التي تقول (اعط الخبز لخبازه حتى لو كان ثمن ذلك نصف الخبز، لو أردت خبز بجودة وكفاءة عالية) هي أول ردة فعل لي على ما نشرته (د نعيمة عبد الجواد) تحت عنوان (خلقت لكي أكون مجاهدا!)، في جريدة القدس العربي، والأهم هو لماذا؟!

    لأن أس المشاكل في دولة الحداثة دولة خُمس آل البيت (ضرائب ورسوم وجمارك) دون تقديم خدمات مقابل ذلك،

    والحمدالله أخيراً الإنتاج الفني الغربي، بدأ يعترف بعبقرية التفسير الإسلامي، في سبب عدم الخوف من الموت،

    من أجل كسر دائرة الظلم بقوانين (التأميم/السرقة) لتمويل الحرب الدينية، عند صاحب أي سلطة في أي مجتمع/دولة، في الإنتاج الجديد لفيلم روبن هود 2019، سبحان الله،

    ولذلك هذا أحسن Business، لسرقة ميزانية أي دولة، تم تصميم بنودها، وفق (عقلية بندقية للإيجار) بعد 11/9/2001، أو قانون الوطنية (من ليس معنا فهو ضدنا)، لتوضيح كيف أن الذكاء الإنساني، يختصره مفهوم كيف تخلق مُنتَج، وفق حاجة السوق، ليكون تسويقه ذو عائد إقتصادي مربح للجميع،

    الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية وبالتالي الدولة من خلال الضرائب والرسوم والجمارك لتغطية ميزانية الخدمات التي يجب أن تقدمها الدولة، حتى تجلب في الإقامة فيها، من خبّازي العالم المهرة.??
    ??????

    1. يقول ماجد الخلف:

      خُمس آل البيت نسخ ولايعمل به وكان بعد غزوة بدر
      ومنع رسول الله عليه الصلاة والسلام من اخذ اموال الزكاه و هذا فيه تعليم لمن بعده لم يتولون مناصب
      فى الدوله الاسلاميه بان يبعدو اقاربهم من اخذ مال الدوله
      عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كخ كخ، ارم بها، أما علمتَ أنَّا لا نأكل الصدقة))؛ متفق عليه[1].

  2. يقول محمد العمرى المدينه:

    عندنا ما يكفى وزياده عن السعاده
    عندنا وحى منزل ونبى مرسل واتباع خطواته قولا وعملا ينتج عنه راحة البال وانشراح الصدر والرضى
    بالمقسوم والصبر على نوائب الدهر طهاره وصلوات تصلنا بالخالق وصيام نافع للبدن والروح وزكاة بسيطه تنفق للمحتاج وبر للوالدين وصلة الاقربين

    أالم نشرح لك صدرك (1) ووضعنا عنك وزرك (2) الذى انقض ظهرك(3)
    ورفعنا لك ذكرك (4) فان مع العسر يسر(5) ان مع العسر يسر
    فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴿٦
    فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴿٧﴾ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴿٨﴾ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴿٩﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴿١٠﴾ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴿١١﴾
    الاعمال الصالحه تجلب الرضى وخفة الموازين هى الاعمال السيئه تهوى بصاحبها الى امه هاويه اى دنيا بها ضيق صدر وهموم وفى الاخره عذاب
    و لست أرى السّعادة جمع مالٍ و لكنّ التقيّ هو السّعيدُ
    و تقوى الله خير الزّاد ذخراً و عند الله للأتقى مزيدُ
    وما لا بدّ أن يأتي قريب و لكنّ الذي يمضي بعيد
    ربى اشرح صدرى واغفر لى ولوالدى وللمؤمنين
    ربى زدنى علما والحقنى بالصالحين

إشترك في قائمتنا البريدية