خنادق بيروت الغميقة

حجم الخط
3

يحدث أن التقي مصادفة بالمفكر اللبناني الدكتور علي حرب، محملا بجرائد صباح اليوم التالي لانفجار بيروت، أسأله عن رأيه في ما حصل ببيروت، ليجيبني «إنه تأديب بيروت»، من دمّر الموصل وحلب يريد تدمير بيروت.
يرى المفكر علي حرب أن إيران وحلفاءها أرادوا معاقبة بيروت و»تأديبها» ويشير لدور سليماني، في المدن المعارضة للنفوذ الإيراني في سوريا والعراق، ويعتبر أن ما حصل في بيروت من تفجير، مرتبط بذلك السياق، لكنني لم أشأ أن أعكر صفو صباحه بنقاش حول مدى دقة هذا الإسقاط والربط بحادثة انفجار المرفأ، فرغم ميولي السياسية المناوئة لحلفاء إيران التي قد توحي لي بالإيمان بطرح علي حرب، إلا أنني لا أرى أي بصمة لإيران، أو حتى إسرائيل في انفجار بيروت، قناعتي أنه حادث عرضي. ولكن لو افترضنا جدلا أن هناك من يريد «تأديب» أو إخضاع بيروت، فهل بيروت اليوم خارجة عن سلطة «حزب الله» ليتم إخضاعها؟! هل تحررت بيروت من مرحلة ما بعد 7 مايو 2008؟
وكم عاصمة لدينا في بيروت؟ كم راية تتنازع سماء بيروت؟ بيروت الضاحية وزقاق البلاط، حيث ترفرف رايات «حزب الله» وتتصدر صور الخميني؟ أم بيروت طريق الجديدة السنية؟ أم بيروت الأشرفية لآل جعجع والجميل؟ أم بيروت الأحباش والمشاريع الخيرية الإسلامية، أم.. أم …

تظاهرات بدأت ممثلة لمطالب معيشية، يجمع عليها اللبنانيون لكنها كانت تخفي في داخلها تناقضات الطوائف نفسها

قد يسميه البعض فسيفساء، وقد يراه آخرون شظايا مبعثرة، لا تزال قابلة للانفجار، ولكنها فيما يتعلق بالحراك اللبناني، فإن هذه الكانتونات ظلت قادرة على دعم أو إعاقة مظاهرات تشرين، التي مثّلت جيلا شابا يؤمن بالدولة المدنية، لكنه غض التجربة السياسية، بلا برنامج ناضج ولا قيادة تجمع شتاته المختبئ خلف شعارات عريضة فضفاضة، ومحدود التأثير بمجتمعاته، مقارنة بالتنظيمات التقليدية، ومع أن هذه التظاهرات بدأت ممثلة لمطالب معيشية، يجمع عليها اللبنانيون، تتعلق بمحاربة الفساد الحكومي، ونبذ المنظومة الطائفية، لكنها كانت تخفي في داخلها تناقضات الطوائف نفسها، والكانتونات نفسها، وأعادت مع الوقت إنتاج التخندقات نفسها في أحياء وساحات بيروت، فتجد ساحة الشهداء مركزا لتجمع جمهور القوات اللبنانية وجنبلاط والحريري، ومعهم ناشطون مدنيون وشباب قادمون من طرابلس والبقاع، مشحونون سنيا ضد قوات حرس مجلس النواب بزعامة نبيه بري، وفي المقابل تجد جمهور القوى القابضة على السلطة (عون والثنائي الشيعي حزب الله وأمل) يشاغب من أحيائه السكنية ضد الأحياء التي تسكنها تلك القوى المعارضة، بحيث أنه مع كل موجة تظاهرات، تجد الجيش اللبناني قد أغلق عدة طرق رئيسية فاصلة بين تلك الأحياء، تجده يقطع منطقة قصقص بين طريق الجديدة والشياح، وأحيانا بين عين الرمانة والشياح، ويفصل بين مركز التظاهرات في ساحة الشهداء، عند جسر الرينغ، ليمنع تدفق أنصار حزب الله وأمل من أحياء زقاق البلاط والخندق الغميق، هذا الحي الذي تشعر بأنه هو أيضا، فيه دولة داخل دولة، فعناصر الحزب والحركة قد يوقفون أي شخص ويطلبون منه إبراز هويته، وكأنهم جهاز أمني، وتبلغ المفارقة مداها في «خندق بيروت»، إنه حتى إن شكوت الأمر لأحد عناصر الجيش المتواجدين في مداخل الحي، فإنه قد يأخذ هويتك ويعطيها هو بنفسه لعناصر الحزب، كما حصل مع كثيرين سابقا..
وشباب تلك الأحياء كانوا يشاركون في التظاهرات عند انطلاقتها، ولكن دوافعهم ومطالبهم المختلفة، جعلتهم يفترقون عن طريق ساحة الشهداء، ويقفون عند جسر الرينغ متأهبين لمهاجمتها، عند كل تظاهرة تنال من رمزية «السيد نصر الله»، وعندما التقيت بأحدهم، وهو المهندس محمد عليان ليتحدث عن أسباب هذا الانكفاء الشيعي ببيروت، عن المشاركة بالتظاهرات، ولعل اهمها قضية شتم «السيد حسن»، وطرح شعارات مثل نزع سلاح المقاومة، إذ يعتبر معظم جمهور الأحياء الشيعية ببيروت أن المساس بسلاح حزب الله، يمثل أمرا بالغ الحساسية بالنسبة لهم، فسكان أحياء زقاق البلاط والخندق الغميق وغيرها من أحياء بيروت الشيعية، تعود أصولهم لجنوب لبنان وبعلبك، ويرتبط هذا السلاح بالنسبة لهم بالعودة لبيوتهم بعد تحرير الجنوب، ومعظم عائلاتهم فيها شهداء من أيام تلك المواجهات مع إسرائيل، كما يشرح المهندس المقرب من «حزب الله».
وهناك أسباب أخرى دفعت شباب الأحياء الشيعية للاستجابة لخطاب حسن نصر الله، الذي دعاهم فيه إلى عدم المشاركة بالتظاهرات، بعد نحو شهر من انطلاقها في أكتوبر من العام الماضي، منها ما يسمونها «الاستفزازات» التي كانت تحدث لسكان تلك الأحياء، بإقفال طريق الجيه، الذي يربط سكان الضاحية الجنوبية بالطريق المؤدي لبلداتهم في جنوب لبنان، كما أن الكثير منهم لديه شعارات أخرى قد تتباين مع متظاهري ساحة الشهداء، مثل التركيز على «يسقط حكم المصرف» واستعادة الأموال المنهوبة، كما يدعمون مشروع قانون انتخابي جديد، يجعل من لبنان دائرة انتخابية واحدة، وهو ما يعارضه بشدة قادة آخرون كسمير جعجع.
المشهد المنقسم إذن في بيروت، حتى خلال التظاهرات المطلبية الوطنية، وهذه «الخنادق الغميقة» التي تقطع أوصالها وتربك انسجامها، حتى في أشد لحظات شعورها المشترك وتضامنها في حراك شعبي ضد سلطة فاسدة، قاد فشلها لانفجار بيروت، حوّلها لعوالم متنازعة بين مرحب بنفوذ «الأم الحنون فرنسا» وآخر موال لطهران، وآخر ينتظر الغوث من تركيا والسعودية، وهذا قد يجعل الرؤية ضبابية بالطريق المؤدي لضوء نهاية النفق اللبناني، ويضع علامات استفهام أمام بعض النخب الغارقة في خطابات إنشائية شاعرية، تتحاشى توصيف الواقع وأمراضه حتى لا تتعب نفسها في العمل الجاد والعلاج، هذه النخب التي تقول شيئا في العلن وتضمر عكسه في السر، وحينها تقفز للذهن تعليقات سائقي سيارات الأجرة الذين يعرفون جيدا أزقة بيروت و»كانتوناتها» و»خنادقها الغميقة»، ويتجولون فيها منذ سنوات صباحا ومساء، تجد بعضهم يقول: «إذا كان كل هالشعب ناقم على الطبقة السياسية فمن الذي انتخبهم لـ 35عاما؟ وراح يرجعوا ينتخبوهن كلن يعني كلن».
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربية»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول غضبان مهاجر:

    هل تستوحي عنوان المقالة من رواية سهيل ادريس ” الخندق الغميق ” ؟ .

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    في البلاد الطائفية يتم إنتخاب الفاسدين لأجل الطائفية!
    يقولون بان فاسد طائفتنا خير من شريف طائفة اخرى!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول أسامة كُليَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي وائل عصام. أعجبني شرح الواقع في بيروت. لكن لنفرض أن الإنفجار حادث عرضي كما جاء في المقال، هل تختلف النتائج؟ برأيي ليس كثيرًا لأن المشكلة ليس إذا كان التفجير عرضي أو بفعل مخابراتي إسرائيلي، وهناك حادث نطنز في إبران النشابه! المسألة أولًا وأخيرًا هذا الإنفجار حدث بفعل الأهمال والفساد والمسؤولية تقع بالدرجة الأولى على من يحمي ويحتضن هذا الفساد أي الرئيس عوم ومعه حزب الله الذين قرروا بحكومة دياب ضرب ثورة ١٧ تشربن اللبنانية رغم أن المأساة كانت أعمق مما يتصوره العاقلون. ماتبقى هو أن النظام لم يستفيق رغم المأساة من الكابوس، كما شاهدنا في الأيام الماضية، الذي يسببه للشعب اللبناني بالإضافة إلى استغلال بعض الدول له كفرنسا وأعتقد أن دول أخرى ستفعل نفس الشيء بحيث أن النظام الفاسذ سيحافظ على قوته. المتضرر هو الشعب اللبناني والشعوب العربية والأنظمة لاتريد أن تصحوا من هذا الكابوس. استمرار الثورة رغم وجود بعض السالبيات أفضل الطرق. ولنا الل ومالنا غيرك يالله.

إشترك في قائمتنا البريدية