التقينا صدفةً بعد وجبة العشاء في بهو السفينة التي كانت تقلنا من مدينة «رودسهايم» الألمانية الرابضة على حافة نهر الراين، إلى مدينة «شباير». «هل أنت معهم؟» سألني مصوّبًا عينيه نحو مجموعة من الإسرائيليين الذين كانوا معنا على ظهر السفينة وشكّلوا بعشراتهم أكثرية مسافريها. كان رجل أعمال هولنديا وسيما، تخطى عامه السبعين، كما وشت حروف السنين على كفيه، وبجانبه جلست زوجته الهوكنغية التي أبدت بدورها اهتمامًا بالمحادثة بيننا وبدت أصغر منه بكثير.
لا أعرف ماذا دفعه «للتحرش» بنا، أنا ورفيقي؛ فقد كنّا نتحدث حول البار بصوت خفيض، وكما يليق بمسافريْن يركبان الراين ويقصدان مدنه الجميلة التي تستعد لاستقبال عيد الميلاد بحفاوة لم يعرفها الشرق إلا مؤخرًا، وبشكل محدود وفي بعض المواقع الرائدة أو «المتمردة». قد تكون لغتنا هي سبب توجهه إليّ، خاصة وقد أفهمنا، لاحقا، أنه زار إسرائيل والمنطقة في الماضي لغرض أعماله. حاولت أن أتجنب الدخول معه في التفاصيل؛ فقد علّمتني التجربة أن ما يبدو لمعظم مواطني العالم طبيعيًا وبسيطًا سيصبح، مع أول استفهام، بالنسبة لنا، نحن العرب الفلسطينيين المسيحيين المواطنين في إسرائيل، ورطةً قد تفسد علينا متعة الرحلة وتطيّر «الكيف» من رؤوسنا. يأتي سؤالهم عفويًا وبسيطًا، ولكن كيف سيستوعب أصحاب العيون الزرقاء وأهل النعمة تعقيدات وجودنا في تلك البلاد، التي «يختلف فيها الرواة على كلام الضوء في حجر؟» وكيف سيتفهمون «طباقات» هويتنا والارتعاشات الدائمة في انتماءاتنا؟
فنحن، يا صديقي الهولندي الوسيم، لسنا «معهم» حتى لو حملنا جواز سفرهم؛ ولسنا «منكم» حتى إذا جئنا لنرشف من مباهج «كريسمسكم» لأنه كان «ميلادنا» قبل أن يصير لكم؛ ونعم نحن عرب، ولكننا لسنا من هؤلاء العرب الذين فجّروا الأمل في الشوارع وفي سوق «شتراسبورغ»، حيث سنرسو بعد يومين؛ ونحن، الفلسطينيين الأقحاح، ولكننا لسنا من جماعة غزة ولا من جماعة رام الله، بل نحن ممن بقوا على أرضهم وسيبقون «يغنون ويناضلون» كما علّمنا الفجر ووعود العاصفة. حاولت أن أوجز له الإجابة، فهز رأسه وطمأنني بأنه يعرف معظم هذه التفاصيل، ربما ليس بحذافيرها لكنه أكد على أنه زار بلادنا عدة مرات وتعامل فيها مع فلسطينيين ومع إسرائيليين وتعرّف إليهم. ثم نظر إليّ وأضاف بصوت حزين وقال: أعرف.. أعرف ولكن، مع هذا فأنا مازلت لا أفهم كيف. لم أدعه يكمل جملته التي بدت لي «طُعمًا» لمحادثة قد لا تنتهي، فرفعت كأسي وواجهته ببسمة صارمة فأدرك معناها وسكت.
يأتي فرح الفلسطيني في الغربة بغتة كالرعد ويختفي مثله مع التنهيدة الأولى. نسافر، نطير، نبحر، ونحاول أن نضم في الغيم البعيد وسادة من ورد فتوقظنا مسامير أحلامنا. همونا في صدورنا لا تنام، وحياتنا كما وصفها «لاعب النرد» كانت وستبقى ضربة أو ضربتين على خاصرة العدم. أدرت رأسي نحو رفيقي الذي كان يجلس على يساري فتبسم وقال: يجب أن تجيبه فالرجل كان لطيفًا وعلى ما يبدو فهو متعاطف معنا كفلسطينيين. ماذا سأقول له وأنا أعرف أنه محق، فنحن، الفلسطينيين، نملك أعدل قضية لكننا لم ننجح في انصافها وفي إنقاذها من الخيبات، والآتي أمامها، كما تنذر جميع أبراج السياسة، سيكون أوخم وأقسى وأخطر. وحالنا ، نحن العرب في إسرائيل قد لا يكون أفضل، لأننا ننام في فوهة البركان. لقد جئنا إلى هنا لنمارس بعضًا من النسيان وكثيرًا من لذة الوحدة. مررنا ، أنا ورفيقي، كما يليق في هذه الليالي، على مسلسل النكسات في عصرنا الحديث فأحسسنا بالعطش وبوجع يشبه وجع «المارّين بين العتبات». لقد تمنينا، على طريقة المتفائلين البسطاء، أن تنتهي العشرة الأخيرة الباقية بسرعة ، مع أننا لم ندر كيف ولماذا سيكون العام المقبل أفضل لنا؟
كانت سنة 2018 رمادية على جميع العرب وكسابقاتها كانت سنة عجفاء، عزّزت فيها أنظمة الحكم «طبائع استبدادها» ضد مواطنيها، في حين أخفض الحكام وبطاناتهم رقباتهم أمام الغطرسة الأمريكية غير المسبوقة والعنجهية «النتنياهيه» السافرة؛ وكانت كذلك قاسية على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، الذين ما زالوا يواجهون أعتى صنوف الغطرسة الاحتلالية الإسرائيلية العسكرية ومقارف سوائب المستوطنين الفالتة وهم يعيثون في الأرض فسادًا وإرهابًا وبطشًا، ويعيشون كذبة الأوهام الكبيرة؛ فرغم وعود «الإخوة الأعداء» بالمصالحة، ما زال الشعب يدفع فاتورة أخطر الانقسامات في تاريخ فلسطين الحديث، ما أصبح يشكل تهديدًا حقيقيًا لمستقبل مشروع التحرر الوطني ووسيلة للقضاء على مكاسب نضالاتهم التي أحرزوها، لا سيما في العقود الستة الأخيرة. لم يقتصر حديثنا على شؤون الغم والهم، فبيننا، نحن العرب في إسرائيل، ورغم اسوداد النهار، بزغت شموس صغيرة قد تعيد لسمائنا زرقتها الواعدة ورقصة السنونوات القديمة، وقد يكون هذا «الميلاد» علامةً فارقة على طريق تمتين الهوية الاجتماعية بين بعض التجمعات السكانية التي سئمت لعنة الفرقة وغضب المنابر التي تدعو إلى البغضاء.
نحن، الفلسطينيين، نملك أعدل قضية لكننا لم ننجح في إنصافها وفي إنقاذها من الخيبات
كنت أسرد لرفيقي حكاية قريتي الجليلية، كفرياسيف، التي أهملها البناؤون فكادت تغرق تحت غبار العجز وتضيع بين دخان الرصاص، لكنها استفاقت، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقامت كما في الأناشيد والكتب. أحيت قيادات القرية الجديدة وشبابها ثلاث ليال تحت عنوان «الكريسماس ماركت» فكادت قلوب الناس في الجليل وغيره أن تنفطر من هول الفرح. «لكنهم هاجموكم» قال رفيقي، وأخبرني أنه قرأ عمّن وصف هذه السعادة بالفسق وتمنى لمن شاركوا فيها عظيم البلاء وأشد العذاب. رفع الهولندي كأسه وطلب أن نشرب نخب الصدفة الجميلة، وتمنى لشعبنا السلامة والحياة، لم نكن لوحدنا فلقد انضم إلينا رجل وزوجته كانا قد أخبرانا أنهما يسكنان في مدينة نهاريا القريبة من قريتنا. مهما تحاول في هذه الرحلات أن تحافظ على مسافة من باقي المشاركين فيها، خاصة إذا أحسست، ربما عن خطأ، بأنهم لا يستطيبون جانبك، لن تنجح، فللغربة قوانينها وللسفر لزومياته. شربنا النخب وتبادلنا مشاعرنا حول أجواء المدن الألمانية، فالناس تتصرف فيها، رغم البرد وغياب الشمس، بهدوء ويلعب الأطفال بطمأنينة، ونحن، رغم كوننا أغرابًا، أصبحنا جزءًا من المشهد وأصحابًا للعيد. شرحت «لصديقي» الهولندي لماذا نحترف نحن في الشرق، برأيي، طقوس الخسارة، ونتراجع من بؤس إلى أسوأ، وأفهمته، أنهم رغم قناعتنا بأن «سوسنا من عودنا»، يبقون هم ، أهل الغرب سادة لهذا الشقاء وحماته البارعين. لم يُبدِ جارنا اليهودي اهتمامه بما دار بيني وبين الهولندي من حديث ، فهو لم يواكب بدايته؛ لكنني سألته، وقد أدهشني تعامله اللطيف مع الألمان، كيف نجح، بعد سبعين عاما فقط، أن ينسى ما فعله الألمان لهم وللشعوب الأخرى، بينما يقسمون، في بلادنا، على ألا ينسوا ما فعلناه، نحن الفلسطينيين بهم؟ فأي شرع يجيز لكم أن تحتلوا أرضًا لأكثر من خمسين عامًا وتضطهدونا، نحن المواطنين في دولة الاحتلال؟ هز الهولندي رأسه متعاطفًا مع نبرة صوتي وصمت الإسرائيلي وقال متعذّرًا: لقد جئنا إلى هنا كي نفرح فدعنا لا ننكأ تلك الجراح.
عدت إلى رفيقي إلياس وأكدت له أن من هاجم ليالي كفرياسيف البيضاء لن ينجح في تعطيل مسيرة شعب لا ييأس، لأن الحياة، في فلسطين، ستبقى الأدوم من الدمار، والحب فيها أقوى من الموت؛ فكفرياسيف التي أحبها «شعراء المقاومة» ودلّلوها في أشعارهم أرادت مجددًا لقاءهم «فتوافد للقائها الأحبة والشعراء» وجاؤوها، كما أنشد الراشد، من الجليل ومن المثلث محمّلين «همًا له في خواطرهم ضوضاء» .
رفعنا النخب الأخير وتواعدنا أن نلتقي في مواسم العز المقبلة في بلادنا، فالجليل قام من بين الغبار وسيبقى في حضن الحناجر أغنية للسعادة ودعاء لمستقبل «سيناته» معمدة بعطر النراجس و»لاماته» بيضاء يققةً كالفل البلدي. نمنا كي نفيق في محطتنا المقبلة، مدينة شتراسبوغ المصابة ومقر محكمة العدل الأوروبية.
كاتب فلسطيني