خير الدين باشا وتوابيت الإقتراع

حجم الخط
0

في أوّل اجتماع جماهيريّ له بعد اعلانه الترشّح لرئاسة الجمهوريّة، وصف الباجي قائد السبسي حزبه، «نداء تونس»، بأنّه يشكّل استمرارية لـ»الحركات الاصلاحية التونسية التي تمتد من خير الدين باشا الى الحبيب بورقيبة».
لا عجب أمام هذه الإحالة المتكرّرة إلى صاحب كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» في تونس. يتشارك الجميع في ذلك، ولكلّ فيها «خيرُ دينه».
تجوز المقارنة بطبيعة الحال، مع ما يكنّه المصريّون لرفاعة رافع الطهطاوي عند المصريين، غير درجة تسييس خير الدين في تونس أعلى بكثير. هذا مع أنه، وهو المكنّى بالتونسيّ، لم يكن تونسيّ المولد، بل استقدم يافعاً الى قصر الباي فيها عبداً مملوكاً، وهو من أصل شركسي أباظي، اشتراه طفلاً يتيماً مالكه التركيّ الأوّل في مسقط رأسه سوخومي بأبخازيا ببلاد الكرج.
وهو إذا وضع كتابه «أقوم المسالك» بالعربية، إلا أنّه استطاب الكتابة بالفرنسية التي وضع فيها مذكراته.
ولئن احتلّ مواقع عسكرية وديبلوماسية ووزارية بارزة في الولاية التونسية من الدولة العثمانية، الا أنه، بعد خلافه مع الباي والنافذين فيها انتقل الى الأستانة، وعيّنه السلطان عبد الحميد الثاني في منصب الصدر الأعظم للسلطنة عام 1878، مباشرة بعد تعليق السلطان العمل بأحكام الدستور المقرّ قبل ذلك بسنتين، وحلّه لمجلس «المبعوثان». عندما يتحدّث خير الدين في «أقوم المسالك» عن «الوطن» فهو يعني به، على غرار نامق كمال والعثمانيين الاصلاحيين في ذلك القرن، وطن الدولة العثمانية.
الليبراليّون والعلمانيّون في تونس يحيلون منابتهم الفكرية والسياسية الى خير الدين باشا. الاسلاميّون أيضاً يفعلون ذلك، بل أنّ مرشدهم، راشد الغنوشي، في كتابه «من تجربة الحركة الاسلامية في تونس» (2001) أقام المفاصلة أساساً بين تحديثية خير الدين وتحديثية بورقيبة، وقال: «لقد كان خير الدين اسلامياً شديد الغيرة على الإسلام مؤمناً بصلاحية وعظمة شرائعه، وكانت حركة التحديث التي قادها تستهدف الدفاع عن الاسلام واستيعاب الثقافة الحديثة ولكن في اطار اسلامي». هذا مع أن الغنوشي نفسه أقرّ بأن المادة الدينية لكتاب «أقوم المسالك» استعان بها خير الدين بمشايخ من جامع الزيتونة «لأن الرجل لم تكن له ثقافة دينية».
في المقابل، وصف الغنوشي تحديثية بورقيبة التغريبية الأوليغارشية، التأليهية للحاكم، بالمغشوشة، ورفض مساواتها بتحديثية مصطفى كمال الجمهورية القومية في تركيا، وقارنها بـ»حداثة تشاوشيسكو»، كما جعلها «أقرب انتماء لملوك وسلاطين عصر ما قبل الحداثة».
مؤسس الجمهورية التونسية نفسه، الحبيب بورقيبة، لم يكتف بتوظيف خير الدين كأسطورة من جملة الأساطير المؤسسة التي تعمد اليها أي دولة وطنية مستقلّة حديثاً. أكثر من ذلك: بما أنّ خير الدين باشا ظلّ مقيماً في الأستانة ودفن فيها حين مماته عام 1890، بما يليق به كأحد الصدور العظام للدولة العليّة، راح الحبيب بورقيبة يطالب بـ»استعادة» جثمانه من تركيا، خصوصاً بعد أن استعادت الجزائر عام 1965 جثمان الأمير عبد القادر من دمشق.
في زيارته لأنقره فاوض بورقيبة على ذلك المسؤولين الأتراك، وكانت سابقة عندهم، وبعد أخذ وردّ جرى عام 1968 نقل رفات خير الدين من اسطنبول الى تونس على أن يدفن فيها بما يليق بمقامه العثمانيّ، وشكر بورقيبة تركيا على مبادرتها تلك، وعظّم لخير الدين قدره وصنيعه، في كلمة بعيد الشهداء في نيسان من ذلك العام، وفي حضور حفيدتي المصلح العائد. ثم، ثم… ضاع الجثمان!
الإهمال، البيروقراطيّة، نزوات الدولة الوطنية التحديثية، العلمانيّة القائمة على نهج «بلا كَيْف». انتظرت الرفات في غرفة الأرشيف الوطنيّ بانتظار قرار بناء الضريح، وتأخر صدور القرار، وتبيّن بعد المراجعة التركية لاحقاً أنّّ الرفات تاهت في ديوان ما، أو في مقبرة ما. ورغم استصدار أوراق عمله تحمل رسماً له، لم يجرؤ أحد في دواوين الدولة على البوح بهذا الإهمال الخطير، واستطال الأمر كذلك لعقود. وعادت خلال تلك المدّة تركيا للتصالح مع ماضيها العثماني شيئاً فشيئاً وراحت تسأل مجدّداً أين خير الدين.
في الوقت الذي ضاع فيه جثمان خير الدين باشا بين المحفوظات والوزارات والمقابر، كان الباجي قائد السبسي، البالغ من العمر 87عاماً اليوم، وزيراً للدفاع، وكان قبل ذلك وزيراً للداخلية. طبعاً، ستبرز مشكلته مع الطابع المطلق لحكم بورقيبة وزوجته لاحقاً، وسيتقلّب بين تولّي المناصب وبين اعتزالها، وسيكون له سيل من الانتقادات حول غياب الديموقراطية ومساوئ الحكم الفردي والقبضة الأمنية واستشراء الفساد. لكنه ما فتئ ابن لهذه المدرسة، لهذه التركيبة، يلخّصها بالجمع بين خير الدين باشا وبين الحبيب بورقيبة، بالسهولة نفسها الذي تجعل منه رمزاً للربيع العربيّ اليوم.. ربيع على حافة التسعين في وقت يقود «داعش» خليفة شاب!
بعد أربعين عاماً من اختفاء الرفات، وهي طبعاً مرحلة من عُمْر بن علي والسبسي وسائر «الدستوريين»، ومع تجدّد وتيرة المطالبة التركية النوستالجية، ثم انقلاب الأوضاع في تونس، وسقوط زين العابدين بن علي، وفوز الاسلاميين بالانتخابات، ستعود الهمّة البحثية فتتحرّك، لتعلن وزارة الثقافة 2012، انها تمكنت، بعد الاستعانة بوزارة الدفاع، من تحديد الموقع الذي دفن فيه خير الدين على غفلة، على أن يُصار العمل لإعادة دفنه في مكان مهيب. وكان للمؤرخ عبد الجليل التميمي موقف يومها حمّل فيه الشاذلي القليبي مسؤولية التعتيم على الموضوع، واستطرد بأن خشية أعوان بورقيبة، من الأنا المتضخّمة للمجاهد الأكبر، هي التي كانت «فاعلة وحاسمة جداً في هذا الاهمال الخطير لرموزنا الوطنية.»
بين مقولة «من خير الدين باشا الى الحبيب بورقيبة» العلمانية السبسيّة، وبين تخيير الغنوشي «اما بورقيبة واما خير الدين»، ستظلّ الحاجة الى صناعة أسطورة مؤسسة لها رمز معرّف، في وقت يلجم كلّ فريق أسطورة الآخر. الحَسن في التجربة التونسية اتفاق الفريقين فيها، الجمهوريّ والاسلامي، على «اسم مشترك» يتقاطعان عنده، مع رفض كل منهما اعتباره جذراً مشتركاً يجمع بينهما. أما المُحبِط في التجربة، والمتسبب بعدم اقرار المشترك الوطني التحديثيّ بين فريقيها على ما هو عليه، وعلى ما يمكن أن يوفّره من خلفية ثقافية متينة للتداول السلمي على السلطة، فهو من ناحية المكابرة على ارجاع خير الدين الى سياقه المتجاوز للدولة الوطنية الحديثة، للدولة التونسية المعاصرة، أي الى سياقه العثمانيّ الذي يتشكّل الوطن السلطاني فيه من مجموعة منافي.
خير الدين من أعلام «التنظيمات» و»الجامعة الاسلامية». لا «التنظيمات» كانت ديموقراطية ليبرالية، ولا «الجامعة الاسلامية»، بمفهوم القرن التاسع عشر، الكوزموبوليتيّ، كانت أسلامويّة حركيّة.
في «أقوم المسالك» كان خير الدين باشا رياديّاً بقوله عن منعطف الثورة الفرنسية أنه «قد وضع هذا الانقلاب الفرنساوي مبدأ تاريخ جديد للاجتماع الانساني حيث غير حال الناس الى طور جديد بالانتقال من ربقة العبودية الى تمام الحرية كما كانت ثورة انكلترة مبدأ تاريخ لدولة منظمة ، هذا ليس خطاب الاسلاميين والاخوان.
لكن خير الدين، حين أراد تأصيل التنظيمات السياسية المقوية لأسباب التمدّن بمقاصد الشريعة، استعان بإبن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية ومكمّله، وحديث ابن القيم عن «امارات العدل اذا ظهرت وأسفر وجهها بأي طريق كان هناك شرع الله ودينه». ليس الاستشهاد بابن قيم وبابن رجب الحنبليين من عنديّات الليبراليين والعلمانيين، ناهيك عن تأصيل خير الدين لفكرة التغيير السياسي بـ»تغيير المنكرات»، وسلبيّته تجاه «أهل الذمّة» في السلطنة المستقوين بالأجانب. فهو حين اعتنى بمفهوم الحرية، ربط «تساوي الرعايا في سائر الحقوق» بـ»تواطؤ جميع الرعايا على مصلحة المملكة وتقوية شوكة دولتها». أما رفضه للاستبداد، وذكره الدولة البابوية في عداده، فتكامل مع تسويغه، الحذر، للديكتاتورية. فحين تعصف الأزمات بالمملكة «يشتهر فيها المشار اليه بمزيد الدراية والحزم فينصب نفسه منصب الدكتتور»، والأخير اما ان «يغتنم الفرصة لاستمرار استبداده» واما انه «بحسن التدبير وقع من الأهالي موقع الاعجاب حتى اكتسب بذلك مزيد احترام عندهم اسس عليه سلطنته» . مع ما يحتمله اذاً تنصيب ديكتاتور من «المضار الاستبدادية»، لا ينكر خير الدين «ان المصير اليه واجب عند قيام سببه لاستيفاء راحة المملكة»، ويرى «ان الحال قد يقتضي ارخاء الستر على الحرية ارخاء وقتياً».
اذا كان مونتسكيو يرى تقييد السلطة بالسلطة، واضعاً الأسس للفصل الدستوري بين السلطات، فان التقييد عند خير الدين كان يتشكّل منظومة أوسع وأشمل انطلاقاً من تركة السلطان سليمان القانوني، وثنائية الشريعة السلطانة و»القانون الخادم لها»، وثلاثية «العلماء والوزراء والجند» الذي يمنعون السلطان عن الحكم المطلق، مستندين الى مرجعية الوحي من ناحية، والضرورة الاجتماعية من ناحية ثانية. قد يكون أثر خير الدين «التونسي» (لكن أيضاً الشركسي، والأبخازي، والمملوكي، والعثماني، والفرنكوفوني والعربوفوني) هو الأعظم على الاطلاق في تاريخ الفكر السياسي بما يوصف «عصر النهضة» عربياً، أي عصر التنظيمات الاصلاحية العثمانية في الولايات العربية. وقد يكون توظيفه كأسطورة تأسيسية في غاية النفع لتونس، بشرط التفريق بين الأسطورة وبين الأثر، وبشرط «تحييد» خير الدين عن التنازع الاسلامي – الجمهوريّ عليه، لأنه في الواقع، يشكّل الجذر التحديثي المشترك للاسلاميين والجمهوريين. هو ينتمي للنقطة التي حدث بعدها الانشطار في المشاريع التحديثية للنخب العثمانية. استعادة الجثمان بعد تسعين عاماً، ثم اختفاءه اربعين عاماً، ثم العثور عليه بعد تغيّر تركيا والتغيير في تونس، كل ذلك له دلالاته. كل ذلك لحظات اضافية للأسطورة المؤسسة.
وإلى أنْ يتم الفصل بين سيرة خير الدين وفكره وبين خير الدين كأسطورة مؤسسة، والى أين يصير من الممكن، على قاعدة هذا الفصل، تحويل هذه الأسطورة الى جامع، متين، بين المتزاحمين سياسياً، بما يوفّر لهم الغطاء الرمزيّ المناسب لتراكم تداوليّ يعيد ربط التداول على السلطة بالتداول بين الأجيال، سيبقى في كل صندوق اقتراع تونسي تابوت جديد لخير الدين، ذلك أن الاقتراع يتمّ في تابوته حتى الآن.

٭ كاتب لبناني

وسام سعادة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية