خيمة الإصرار والأمل

حجم الخط
0

أنهى نوّاب القائمة المشتركة يوم الثلاثاء الفائت إضرابهم عن الطعام، وأزالوا خيمة الاعتصام التي نصبوها لمدة ثلاثة أيام كاملة أمام مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي.
زرت خيمتهم متضامنًا، أسوة بعشرات الوفود والشخصيات التي سافرت على طريق الندى، من شمال البلاد وجنوبها، لتعبّر عن موقفها ضد الجريمة والعنف المتفشّيين في القرى والمدن العربية، أو ربما لتسعف ضمائرها من عذابات الانتظار على «سين» اليأس ومن آهات التيه في دهاليز العجز.
أخطأ كل الذين هاجموا الخيمة وسكّانها؛ وأنا لا أعني من يحترفون التشهير محتمين برداء «وطنية» عذراء عارية وأبدية فحسب، بل أقصد أولئك الذين يدّعون أحقية القيادة ويحاولون اكتسابها عن طريق تقزيم كل خطوة، أو قرار يتخذه قادة القائمة المشتركة، حتى لو انضمت إليه، كما في هذه الحالة، لجنة متابعة شؤون الجماهير العربية في إسرائيل واللجنة القطرية لرؤساء المجالس المحلية والبلدية العربية في البلاد. أمضيت في الخيمة بضع ساعات ذكّرتني كيف كنا ونحن طلّاب جامعيون نتظاهر في ذلك الموقع، ونقطع الطرقات، على موكب رئيس الحكومة مرة، وعلى وزير المالية مرّات، محتجين على قرار حكومي عنصري بحقنا، نحن المواطنين العرب، أو ضد ضريبة مستحدثة كنا، نحن الطلاب وأهلنا الكادحين وإخوتنا فقراء الشعب، ضحاياها.
كل من دخل الخيمة شعر بدفء خفيف ومريح، وأحسّوا مثلي، بأنه ليس القلق وحده يجمعنا بل هنالك شيء ما جميل ينتظرنا على منحدرات الأمل المفقود، وأن هذا «الشيء» قد يقودنا نحو وجهة الخلاص التي ما زالت بعيدة.
كان المضربون عن الطعام يستقبلون الوافدين مثل أصحاب العرس؛ يتحركون بنشاط متثاقل وبطفولة بشوشة وصادقة؛ كان بعضهم يهزأ من جوعه ويستذكر القساوة في إغواء التفاح؛ ورغم قلة الخبرة في ممارسة طقوس النضال المختلط والموحد، حرصوا جميعًا على أن يعايشوا تاريخية اللحظة بعفوية طموحة وبحدس سليم، فأوحوا للضيوف بأنهم، رغم اختلاف منابع الهم والرؤى، يكوّنون رهطًا متجانسًا، وأنهم مصممون، رغم مشاكسات الماضي وحداثة التجربة، على المضيّ برويّة وحذر، في فج الضباب، والسير في طريق عساه يقودهم، رغم المشقة والظلمة، نحو تحقيق ذواتهم وايقاف نزيف الدم السائل من شرايين مجتمعنا.
لم تتحوّل الخيمة إلى مزار شعبي يضج بألوف الزائرين، لكنها أصبحت عنوانًا يصعب اغفاله أو غض النظر عن وجوده، ونجحت، بالتالي، في استقطاب عدد من رؤساء المجالس والبلديات العربية، وممثلين عن مؤسسات المجتمع المدني والى جانبهم، عدد من أعضاء الكنيست اليهود من أحزاب مختلفة، الذين جاءوا، في ما يشكل سابقة لافتة ومرضية، ليعبّروا عن تضامنهم ووقوفهم ضد سياسة الحكومة وفشلها في مواجهة عصابات الإجرام الناشطة داخل مجتمعنا العربي، وضد إهمالها في معالجة ظواهر العنف وملاحقة العابثين بالقانون وبالسلم الأهلي. كان حضور وسائل الإعلام المحلية والعبرية والدولية بارزًا ومهمًا؛ وشكّلت إشارات تضامن السائقين والعابرين اليهود من أمام الخيمة «لفتة» إيجابية مدّت الحاضرين بوجبة من التفاؤل، وعززت قناعتهم بأهمية خطوتهم ونجاحها النسبي في جذب عناصر جديدة من الرأي العام، وتجنيدهم لصالح قضايا المواطنين العرب، وضد السياسات العنصرية الحكومية بحقهم.
قد نسميها «خيمة الإصرار» على الحياة بكرامة وبدون خوف ووجع، وهي رغم صغر حجمها، توسطت وواجهت، بمجازية غير مقصودة، مكتب رئيس الحكومة، ومبنى المحكمة العليا الإسرائيلية، وهما السلطتان المسؤولتان، مع ثالثة الأثافي الكنيست، على تعاسة المواطنين العرب وعلى معاناتهم الطويلة والدائمة. كان مبنى المحكمة وراءنا، لكن أطياف قضاتها سكنت الخيمة فأشغلتنا مواقفهم المستفزة على الاغلب والملتبسة أحيانًا، خاصة عندما عبّر بعض الحاضرين عن ارتياحهم من قرار تلك المحكمة الصادر في أواخر أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، والقاضي بإلزام المستشار القانوني للحكومة بتقديم لائحة اتهام ضد الشرطي، الذي قتلت رصاصته الشاب خير الدين حمدان ابن قرية كفركنا الجليلية عام 2014.

«محكمة العدل العليا الإسرائيلية» لم تعد عنوانًا لتظلمات المواطنين العرب، بعد حشوها المتعمّد بقضاة يمينيين معروفين بمواقفهم السياسية المنحازة

لم يقرأ معظم الناس تفاصيل ذلك القرار، ولم يربطوا بينه وبين قرار المحكمة نفسها، الذي أجاز، قبل أيام، ترحيل الناشط الحقوقي عمر شاكر، بذريعة تأييده لمقاطعة جميع إفرازات الاحتلال الإسرائيلي وممارساته غير الشرعية. حاولتُ وبعض الحقوقيين الذين تواجدوا في الخيمة أن اشرح بأن الصدفة فقط أفضت إلى «انتصار» الدم العربي على رعونة السياف ومحكمته العليا، ونصحت السامعين بالانتظار لنرى كيف ومتى سيدفع ذلك الشرطي القاتل جزاءه، فالأمور، هكذا علمنا القهر، تحكمها خواتيمها وتبقى أماني المظلومين منابت للورد أو للخيبات أحيانًا.
«عندما يستعمل شرطي قوة قاتلة يتطلب الصالح العام تحقيقًا قضائيًا»، هكذا كتب قاضيان، أحدهما عربي، من أصل ثلاثة في تبرير قرارهما المذكور. لم يوافقهما القاضي الثالث، نوعم سولبرغ، وهو مستوطن في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ فلو ترك الأمر له لقضى بعدم وجود ضرورة لفتح ملف القضية، بعد أن أغلقها المستشار القانوني للحكومة. إنه قاض يميني وأيديولوجي لا يخفي مواقفه السياسية، بل يلجأ اليها، سرّاً وعلانية، في تبرير قراراته المسيّسة، مثلما فعل، مع زميليه، في قضية عمر شاكر الذي كان يمثل ويعمل من رام الله باسم منظمة «هيومان رايتس ووتش» وهي واحدة من أكبر المنظمات التي تدافع عن حقوق الإنسان في العالم. لقد كتبتُ وأكدتُ في الماضي على أن «محكمة العدل العليا الإسرائيلية» لم تعد عنوانًا لتظلماتنا، نحن المواطنين العرب، ولا ملجأ لضحايا قمع الاحتلال وممارساته الوحشية اليومية؛ فهذه المحكمة/المؤسسة فقدت مصداقيتها منذ سنوات لكنها تعرّت مؤخرًا بشكل سافر وذلك بعد حشوها المتعمّد بقضاة يمينيين معروفين بمواقفهم السياسية المنحازة.
لم تخفِ وزيرة القضاء السابقة اييلت شاكيد، ولا من سبقها، مخططاتها من أجل السيطرة على جهاز المحاكم الإسرائيلي وفي طليعته «المحكمة العليا»؛ فقد صرّحت، في أكثر من مناسبة وعلى الملأ، بأنها تسعى بإمعان لتغيير موازين القوى لصالح اليمين، عن طريق إدخال قضاة موالين، مثل نوعم سولبرغ وشريكته في قرار عمر شاكر، القاضية يعيل فيلنر، وهما ليسا الوحيدين. يسكن القاضي سولبرغ في إحدى مستوطنات «جوش عتصيون»، على ما تستدعيه وتعنيه هذه الحقيقة من تبعات ومفاهيم؛ ولا تسكن زميلته القاضية فيلنر في إحدى المستوطنات، لكنها بدأت حياتها العامة عام 1977 كناشطة في محاولة الاستيطان الأولى التي قادتها وبادرت إليها حركة «غوش ايمونيم» الدينية اليمينية الشهيرة، في منطقة سبسطية القريبة من مدينة نابلس.
أسوق هذه المعلومات كي أقنع من ما زالوا يؤمنون بأن المحكمة العليا الإسرائيلية لم تنه عملية انحرافها الكامل عن طريق العدل النسبي والمنقوص الذي طبقته في تعاملها مع قضايانا وقضايا إخوتنا الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967؛ وكي أوكد على أن القرار بقضية المرحوم خير الدين حمدان لم يكن إلا محض صدفة. كنت واضحًا أمام من سمعوني في الخيمة، فنحن نواجه ظواهر الإجرام والعنف في بلداتنا، لكننا نعيش في واقع دولة معظم مؤسساتها تستعدينا وتهملنا، فمعركتنا كبيرة ومتعددة الجبهات.
كانت الخيمة عنوانًا للأمل وبرقةً في عتمة تزداد فحمتها، إنها البداية، هكذا أجمع القادة المضربون، ودعوة لمن لا يدمنون مهنة اليأس والتيئيس لينضموا بخطى صغيرة وواثقة على درب طويل يجمعنا، فجميعنا يعرف كيف قد تكون نهايته.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية