داقوق العراقية مدينة التركمان والأساطير العريقة

صادق الطائي
حجم الخط
0

تعتبر مدينة داقوق أحدى أقدم المدن العراقية التي بقيت مأهولة بالسكان عبر مئات السنين من تاريخ المنطقة، وهي اليوم تمثل إداريا قضاءً تابعا لمحافظة كركوك شمال شرق العاصمة بغداد. مساحة مدينة داقوق حوالي 120كيلومتر مربع ويسكنها حوالي 100 ألف نسمة بحسب تقدير السكان لعام 2017 وتتبعها إداريا ناحية الرشاد، وأكثر من مئة قرية تحيط بالمدينة، يمكن تقسيمها إلى حوالي 60 قرية ذات أغلبية عربية و40 قرية ذات أغلبية كردية، بينما مدينة داقوق مركز القضاء ذات أغلبية تركمانية، ومن ضمن القرى التابعة لمدينة داقوق: زنقر، طوبزاوة، وعلي سراي، ومنصور، ودارا، وعطشانة، وينكجة.
وتبعد مدينة داقوق 210 كم شمال بغداد على الطريق الذي يربط العاصمة بمحافظة كركوك، وتبعد حوالي 40 كم جنوب مدينة كركوك، ومن أهم العوائل والعشائر التركمانية في مدينة داقوق: شيخلر، دامرجي، الكهية، أغالر، الجليلي، الصالحي، البياتي، الايلخانلي، النعلجي، الصفوي، سيدلر، البوياغجي، القوشجي، الاماملي، وقد ارتبطت أسماء محلات المدينة القديمة باسماء العديد من هذه العوائل.

الجسر الحجري العثماني

تقع مدينة داقوق على الضفة اليمنى لنهر جاي داقوق والذي يسمى بالتركمانية طاووق صو، وهو أحد فروع نهر العظيم، وينبع من مرتفعات قرة حسن، ويعبر جبال حمرين، ثم يلتقي بمجرى نهر العظيم الرئيسي، ويربط بين ضفتي النهر واحد من أطول الجسور في العراق المعروف بالجسر الحجري العثماني الموجود في قرية افتخار التابعة لداقوق.
إن الجسر العثماني الذي يمثل أحد المعالم التاريخية في مدينة داقوق بُني قبل 138 سنة، إذ دخل الخدمة عام 1883. ويقع هذا الجسر على بعد 3 كم شمال قرية الإمام زين العابدين، وعلى طريق القوافل التجارية. ويذكر المختصون بالتاريخ العثماني أن الوالي العثماني مدحت باشا أمر ببناء هذا الجسر أبان توليه ولاية بغداد، إلا أن الانتهاء من تشييد الجسر تم بعد انتقال مدحت باشا من ولاية بغداد بعشر سنوات تقريبا، وقد نفذ العمل مهندسون أتراك قدموا من إسطنبول، ويتكون الجسر العثماني في داقوق من 12 فتحة لمرور المياه من أسفله، ويصل طوله إلى 365 متراً، وعرضه سبعة أمتار، وقد بني هيكل الجسر بالحجر الأحمر القرميد، وقد تعرض جزء من هذا الجسر للتدمير أثناء معارك الجيش العثماني والجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى، ثم أعيد ترميمه في العهد الملكي عام 1926م.
حياة سكان داقوق مرتبطة بالزراعة، إذ يمتهن الكثيرون منهم الزراعة وتربية الحيوانات، وتعتبر بساتين الكروم والفواكه في داقوق من أفضل بساتين محافظة كركوك إنتاحاً، كما يهتم مزارعو المدينة بتربية الحيوانات، وقد تزايد اهتمامهم بتربية المواشي مؤخراً، وتعتبر صناعة النسيج والسجاد اليدوي من أهم الحرف اليدوية في داقوق.
وللمدينة أهمية اقتصادية نظراً لوجود حقول جمبور النفطية شمال مدينة داقوق والتي بدأ الإنتاج النفطي فيها عام 1959 وقد وضعت حالياً خطط لرفع إنتاج حقل جمبور إلى 245 ألف برميل يوميا، ويصل أنبوب للنفط بين حقول النفط ومصافي شركة نفط الشمال، كما يضخ النفط من حقل جمبور إلى ميناء جيهان في تركيا ليصدر إلى الأسواق العالمية.

الروايات الأسطورية

ورد أقدم ذكر لمدينة داقوق بصيغة «ديقوقينا Diquqina» في نصين مسماريين من العصر الآشوري الحديث (612-911 ق.م) وكعادة المؤرخين والبلدانيين القدماء الذين كتبوا عن أسباب تسمية المدن، نجدهم يربطون صيغة اللفظ ببعض القصص أو الأحداث أو الشخصيات الدينية أو الأسطورية دون تحري الدقة أو البحث في المصادر التاريخية الدقيقة. وكان لمدينة داقوق نصيب من ذلك، فقد ذكرها العديد من المؤرخين الإسلاميين، وذكروا بعض الروايات الأسطورية عنها مثال ذلك ما أورده ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان عندما قال؛ «إن داقوقاء أو داقوقا، مدينة تقع بين مدينتي أربل وبغداد، معروفة ولها ذكر في الأخبار» وعن أصل اسمها يذكر؛ «يقال إن قابيل قتل هنا أخاه هابيل بدق رأسه بالحجر دقا، فسميت داقوقاء».
ذكرت داقوق في بعض المراجع العربية القديمة بصيغة «دقوقاء» وقد حور هذا الاسم في المصادر والمراجع العربية المتأخرة إلى لفظة دقوقا. ثم تغير اللفظ في المصادر الفارسية المتأخرة إلى داقوقا. كما أطلقت عليها أسماء أخرى مثل داقوق وطاووق، والتسمية الأخيرة من التسميات التركمانية للمدينة. ويذكر المؤرخ مبارك بن أحمد شرف الدين اللخمي المعروف بابن المستوفي الذي كان مؤرخا ووزيرا في أربيل في حقبة السلطان مظفر الدين كوكبري (المتوفي سنة 1239) في الجزء الثاني من كتابه «تاريخ أربل» أن ذكر المدينة جاء بعدة صور كداقوق، طاووق وطاوق. كما أشار إلى مدينة داقوق البلداني ياقوت الحموي في كتابه «تاريخ البلدان» فقال؛ «دقوقاء بفتح أوله وضم ثانيه وبعد الواو قاف أخرى وألف ممدودة، مدينة بين أربل وبغداد معروفة ولها ذكر في الأخبار والفتوح، وكان بها وقعة للخوارج» .

ويذكر المؤرخ ابن الأثير في ج2 من تاريخه مدينة داقوق، ويعد أقدم ذكر للمدينة باسم دقوقا، الذي ورد في المصادر العربية هو ما ورد في حوادث سنة 76هـ إبان خلافة عبدالملك بن مروان، ففي ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي على العراق تم القضاء على ثورة المختار الثقفي، وعلى حركة مصعب بن الزبير، كما انتصر الحجاج على الخوارج في معركة حاسمة في مدينة داقوق.
كما يروي المؤرخ ابن الفوطي حادثة طريفة في كتابه «الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المئة السابعة» ففي حوادث عام 644هـ /1246م يذكر؛ «وفيها توفي الأمير محمد بن سنقر صاحب دقوقا، كان ابوه سنقرا من خواص الخليفة الناصر لدين الله، صب يوما على يده ماء فسقطت الصابونة منه، فناوله غيرها وقال دقوق وهي بلغة الترك دجاجة، فأقطعه دقوقا ظنا منه أنه طلبها، فلم تزل في يده إلى أن توفي، فتسلمها ابنه محمد، فلما توفي عادت إلى نواب الخليفة».
وجاء ذكر اسم داقوق بألفاظ مختلفة في كتب الرحالة الأوربيين الذين مروا بالمنطقة، وقد أطلقوا عليها عدة تسميات متقاربة مثل طاووق، داكوك، داقوق، داقوقا ودقوقا، وإلى غير ذلك من الألفاظ المتشابهة، ويعد العالم والرحالة الألماني كارستن نيبور، أول من أشار إلى التشابه الموجود بين لفظة طاووق ولفظة دقوقاء العربية، وذكر المدينة في كتابه «رحلة نيبور».

آثار ومزارات

تعرف داقوق بكثرة المقامات والمزارات الدينية التي تشكل عنصرا يجتذب الآلاف من الزائرين للتبرك والاستشفاء وطلب الشفاعات، ومن بين أبرز مقامات المدينة مقام الإمام زين العابدين، علي بن الحسين (ع) والذي يرتبط اسمه في العراق بمدينة داقوق، ولهذا المقام موعد زيارة سنوية هي تاريخ وفاة الإمام زين العابدين (ع) يوم 25 محرم، إذ يزور الآلاف من المسلمين من مختلف مدن العراق ومن البلدان المجاورة مقام علي بن الحسين في داقوق.
ويقع هذا المقام على تلة أثرية في قرية زين العابدين بأطراف قضاء داقوق، ويقصده بشكل خاص على مدار السنة مرضى العيون وضعاف النظر، وذوو أمراض الرأس، طلبا للاستشفاء عبر قناعة الزائرين ببركات صاحب المقام. وبالرغم من إشارة بعض المؤرخين إلى أن لا علاقة للإمام الثالث عند الشيعة علي بن الحسين(ع) بهذا المكان، إلا إن البعض يشير إلى إن الإمام زين العابدين مر بهذه المدينة وارتاح في هذا المقام في طريق مرور سبايا معركة الطف من كربلاء إلى الشام.
أما المزار الثاني الشهير من مزارات المدينة فهو المعروف بإمام الهوا، والذي يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى بغداد، وهو مزار يضم ضريحي السيد الهادي بن المهدي من اولاد الإمام موسى الكاظم (ع) وابنته العلوية مريم المدفونة بجواره، والمشهور عنهما بحسب الروايات أنهما عاشا في الفترة العباسية المتأخرة. إن أقدم ظهور لهذا المزار كان في العهد العثماني حيث شيدت قبة من الطين فوق المرقد الذي بقي كما هو حتى خمسينيات القرن الماضي، فتوسع المرقد وأصبح غرفة صغيرة أيضا من الطين، وفي نهاية الثمانينيات شيدت وزارة الأوقاف هذا المزار من مادة البلوك بشكل بناء بسيط وكانت مساحته 800م تقريباً، وفي 2005م جاء متبرع من محافظة بغداد هو الحاج علي العزاوي فهدم المزار بعد موافقات من الجهات الرسمية وشيده بالشكل الفاخر والمساحة الكبيرة الحالية.
ويقصد هذا المزار مرضى عرق النسا والمفاصل و»الهوا الشرجي» أو التهاب العصب السابع الذي يشوه الوجه، واسم المزار باللغة التركمانية «ييل إمامي» ويعني إمام الهوا. وسبب التسمية هو أن المصابين بعرق النسا والمفاصل والمصابين بالشرجي أو تشوه الوجه يزورون المرقدين الشريفين طلبا للشفاء، والمصاب بالمفاصل يوصف مرضه بالتركمانية بأن مفاصله أصابها الهوا.
كما يضم قضاء داقوق نحو 336 معلماً أثرياً تاريخياً لم تصلها يد الإعمار أو حتى محاولة الحفاظ عليها، ومن ضمنها منارة داقوق التي ترتفع بقاياها 23 مترا، وتقع بالقرب من طريق بغداد على أحد التلال الأثرية، وتتميز بنقوش البناء المماثلة لمآذن عدة في المواقع الأثرية العراقية، إذ تتكون من جزء مضلع عريض يلف متنها المدور باللون الترابي الفاتح والذي ما زال يحتفظ بالنقوش التراثية المميزة للحقبة التاريخية التي بنيت بها، إذ يعتقد انها تعود تاريخياً إلى الحقبة الاتابيكية، وهناك روايات تشير إلى أن تاريخها يعود إلى فترة الدولة السلجوقية عهد قائدها طغرل بك (447هـ ـ 1055م) ولكن نوعية الآجر المستخدم في بنائها وزخارفها يجعلها شبيهة بالمنارة المظفرية في مدينة أربيل التي شيدها السلطان مظفر الدين الاتابكي حين كان حاكما لمدينة أربيل (1190-1224م) والمنارتان داقوق والمظفرية تشبهان في عمارتهما ومواد البناء المستخدمة والزخارف، المنارة الحدباء في الجامع النوري في مدينة الموصل التي شيدها السلطان الاتابكي نور الدين زنكي (1118-1174م).

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية