دانيال ستيل: العمر مجرد رواية جديدة

حجم الخط
0

كنت وما أزال أتعجّب وأعجب من مبدعين بلغوا من العمر سنّا متقدمة، ولكنهم لم يتخلوا عن الكتابة، ويحضرني دائما مثالان حيّان معاصران لنا، أولهما الشاعر محمد مهدي الجواهري أستحضره وهو يحيي أمسية شعرية في مهرجان «الجنادرية» الثقافي عام 1995، وله من العمر قرن كامل إلا أربع سنوات، يقرأ شعره من ذاكرة عجيبة دون الاستعانة بورقة، ولم يقتصر الأمر على الإلقاء من قديمه فقط، بل له قصائد كتبها وقد تجاوز التسعين، وهي مثبتة في ديوانه. والمثال الآخر أدونيس فلا يزال وهو في الرابعة والتسعين من عمره يطرح أفكارا إشكالية ويرمي حجارة الجدل في بركة الجمود، وليس ما أثارته ندوتاه في الرباط والرياض هذه السنة من ردود ومناقشات منّا ببعيد، بل أصدر وهو في هذه العمر المتقدمة كتابا شعريا قبل أربعة أشهر بعنوان «اللوفر فضاء للأبجدية الآتية» وأقيمت له أمسية في متحف اللوفر في باريس قرأ فيها من أشعار الديوان.
ولكن ما يثير عجبي وإعجابي أكثر أن نجد في هذه الأعمار المتقدمة من يكتب رواية، والرواية عمل يومي منهك يحتاج تركيزا عاليا وقدرة عقلية وحتى جسدية، فالجلوس لساعات من العمل المتواصل، لأجل بناء عالم من التخييل مترابط مقنع ومشوّق، يستدعي استعدادا نفسيا وبدنيا، لذلك تثير إعجابنا الروائية الشيلية إيزابيل أليندي، حين نشرت قبل سنتين روايتها «فيوليتا» وهي في الثمانين من عمرها، وقبل أشهر فقط في نهاية السنة الماضية صدرت رواية جديدة بعنوان «أهديك صمتي» لحامل نوبل الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا. والنموذج الأكثر إثارة للإعجاب والاستغراب ما فعله الكاتب الأمريكي كورماك مكارثي الحائز جائزة البوليتزر حين كتب روايتين قبل عامين أيضا وهو في التاسعة والثمانين من عمره.
أثار هذه الأفكار في ذهني ما قرأته قبل أيام عن صدور رواية جديدة في فرنسا للروائية الظاهرة دانيال ستيل بعنوان «الفرصة الأخيرة» منذ شهر فقط. علما أنها ستطفئ شمعتها السابعة والسبعين بعد ستة عشرا يوما (ولدت في 14/8/1947). وأجدها فرصة للكتابة عن روائية، رغم شعبيتها الجارفة أعتقد أنها مظلومة حين تصنف رواياتها وكأنها روايات ملحقة بسلسلتي عبير وأحلام. ومن يبحث عن دراسات نقدية جادة عنها بالعربية أو حتى مقالات مخصصة لأدبها (ولا أتحدث هنا عن عرض كتبها) لا يخرج بطائل، وإن وجد مقالا فمن قبيل ما ينطوي تحت هذا العنوان «هل سمعت عن دانيال ستيل؟ معها 375 مليون دولار من الكتابة». وأعترف بأن رواياتها في هذه المرحلة من عمري لم تعد تدخل في دائرة اهتمامي بعد أن تغير ذوقي القرائي، وهذا أمر طبيعي فكل جمود موت، ولكني قرأت لها كثيرا، خاصة في مرحلة الشباب فأعجبت ببعض رواياتها وخاب ظني في بعضها الآخر. ولكن هل هذا ينفي أنها الروائية الأكثر شعبية ومقروئية في العالم ـ نعم في العالم ـ منذ أربعة عقود، متفوقة على غول الروايات ستيفن كينغ. وإذا عدنا إلى لغة الأرقام سنفتح أفواهنا دهشة، حين نقرأ أن إجمالي مبيعات رواياتها تجاوز المليار نسخة لأكثر من 180 رواية تضاف إليها سلسلة من 57 كتابا مصورا للفتيان، وتُرجمت كتبها إلى ثلاث وأربعين لغة، كما أنتج أكثر من عشرين فيلما مقتبسا عن رواياتها، هذا ما أهّلها لتكون ضمن قائمة الروائيين الأكثر إنتاجا مثل، الروائي البلجيكي جورج سيمينون صاحب الأربعمئة رواية والظاهرة البريطانية باربارا كارتلند صاحبة السبعمئة رواية.
ولكن كيف استطاعت امرأة لها تسعة أولاد تزوجت خمس مرات، وتعيش بين باريس، حيث درست وتربت، وسان فرانسيسكو، ولم تكن متفرغة للكتابة طوال حياتها، فقد عملت في وظائف مختلفة، كيف استطاعت أن تجد الوقت الكافي لتكتب روايات بعضها مسجل في موسوعة غينيس للأرقام القياسية، حيث تربعت على قائمة «نيويورك تايمز» للكتب الأكثر مبيعا لـ390 أسبوعا متتابعا؟ تجيبنا على هذا التساؤل المحيّر لوحة وضعتها دانيال ستيل في مكتبها كتب عليها: «لا توجد معجزات، هناك فقط الانضباط». وهو ما أكدته دائما في لقاءاتها الصحافية وبررت به سر غزارتها في الكتابة حين قالت مرة: «العمل الجاد هو مفتاح أي نوع من النجاح، في جميع المجالات وجميع جوانب الحياة. العمل الجاد والمثابرة، لا يوجد لغز في هذا، العمل الجاد هو الجواب دائما». وتكاد أيامها لسنوات طويلة أن تكون صورا مستنسخة من بعضها، تجلس على مكتبها في بيتها الباريسي أو الأمريكي لا فرق، على الثامنة والنصف صباحا بعد أن تناولت قطعة من الخبز المحمص وقهوة مثلّجة منزوعة الكافيين، مرتدية قميص نوم مريحا مصنوعا من الكشمير أمامها شيئان: لوح من الشوكولاته السوداء المرة تقضم منه حين تحس بالجوع، وآلة كاتبة من نوع أوليمبيا صُنعت سنة 1946 اشترتها بعشرين دولارا تقول عنها «أنا عاشقة ومخلصة تماما لآلتي الكاتبة» وتسافر في رحلة كتابة مذهلة وصفتها قائلة «أكتب لأربع وعشرين ساعة، وأحيانا لست وثلاثين ساعة متواصلة، حية أو ميتة، سواء كان الطقس ممطرا أو مشمسا، أجلس إلى مكتبي وأشرع في الكتابة قد أنهي كتابا في الصباح، وفي نهاية اليوم أبدأ مشروعا آخر». وحتى حينما كان أولادها صغارا يعيشون معها في البيت كانت تستغل فترة قيلولتهم أو حينما يكونون في المدرسة لتكتب ولم يكن هذا بالطبع يرضي أزواجها، فمن يتقبل أن يعيش مع آلة كتابة لا تتوقف؟ هذه القدرة المذهلة على الكتابة أغرت ناشرها أن يرفع عدد الروايات التي يطلبها منها سنويا من أربع روايات إلى خمس ثم إلى سبع روايات. فحينما كانت في عز عطائها كانت تشتغل على خمس روايات في السنة دفعة واحدة واستمر هذا لسنوات طويلة من عمرها الأدبي الذي امتد على مساحة ستين سنة ولا يزال مستمرا.
ولكن ما الذي يجعل روائية رومانسية غزيرة الإنتاج الأكثرَ مقروئية وتُفتن برواياتها الأجيال المتعاقبة، فمن قرأ رواياتها الأولى هو في السبعين من عمره الآن وأحفاده هم من يشترون رواياتها الأخيرة؟ رأيي أن عوامل عدة صنعت هذه الظاهرة الستيلية، وعلى رأسها أسلوبها البسيط المشوق الخالي من التعقيد، فلغتها واضحة مباشرة، وظيفية تحكي بها قصة إنسانية رومانسية غالبا أبطالها يمتلكون بيوتا جميلة وسيارات فخمة وقد عرفت دانيال ستيل هذا المجتمع جيدا، فهي ابنة رجل ألماني ورث ماركة شهيرة للبيرة وأمها برتغالية ابنة دبلوماسي. تتناول ستيل إجمالا في رواياتها موضوعات إنسانية مثل الصداقة والحب والمشاكل العائلية مركزة على قضايا المرأة كثيرا، وحين انتحر ابنها التفتت إلى الكتابة عن الأمراض النفسية والإدمان، تبني روايتها بإحكام فتظهر المشاكل مع توالي الصفحات لتنتهي بحلها في ختام الرواية. وهي نفسها تعزو شعبيتها إلى هذه العوامل فقد صرحت مرة: «لقد عشت حياة مليئة بالأحداث، وواجهت الكثير من التجارب: الطلاق، وفقدان الابن ـ وأنا أكتب من أعماق قلبي عن الأشياء التي تحدث لنا جميعاً، ويتفاعل الناس مع هذا. والأمر الآخر هو أنني أشعر بمسؤولية حقيقية عن منح الناس شعوراً بالأمل وتشجيعهم على الصمود». لذلك بسبب حضورها الدائم في المشهد الروائي منذ عقود ومحافظتها على مستوى معين من الجودة، فيما تكتب ضمنت لها قراء أوفياء وشعبية مؤكدة، وهذا ما يُتوقَّع أن يقابل به القراء روايتها الأخيرة، التي فيها ملامح من حياتها فهي عن أم في الـ58 من عمرها تربي ثلاثة أطفال وحدها وتعمل مصورة مشهورة في نيويورك، ناجحة في عملها يمنعها حادث عن الحركة فتبدأ في طرح السؤال الوجودي الكبير «هل كانت مخطئة حين فضّلت حياتها المهنية على حياتها العاطفية؟» أو ليس هذا هو السؤال نفسه الذي تطرحه دانيال ستيل كثيرا على نفسها؟ ولكنها تجيب عنه بكل يقين قائلة «التقيت أغاثا كريستي مرة واحدة كان عمري 19 سنة، أما هي فكانت في الثمانين، أتذكر أنها قالت لي: (أريد أن أموت ووجهي على آلة الكتابة) وهذا ما أحسُّه، أريد أن أواصل الكتابة إلى الأبد».

شاعرة وإعلامية من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية