إسطنبول – “القدس العربي”:
عقب أسابيع من مشاركته في قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي تمثل أعلى هيئة في “المعسكر الغربي” المناوئ لروسيا والصين، شارك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي تجمع بدرجة أساسية كبار “المعسكر الشرقي” قبل أن يغادر إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في مشهد يضم في طياته الكثير من المتناقضات وهي السمة التي باتت تتمتع بها الدبلوماسية التركية في السنوات الأخيرة.
وبينما ينتقد معارضون أتراك وحلفاء غربيون سياسات أردوغان بهذا الشأن، يبدي كثيرون حول العالم إعجابهم بقدرة الرئيس التركي على بناء تحالفات متنوعة حول العالم وهو ما يعتبره مؤيدون “قدرة كبيرة على إثبات استقلالية الدبلوماسية والقرار التركي” واستغلالا إيجابيا لموقع تركيا الجيوسياسي الاستراتيجي لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
ونهاية شهر يونيو/حزيران الماضي، شارك أردوغان في قمة الناتو التي انعقدت في مدريد وناقشت بدرجة أساسية الرد على الغزو الروسي لأوكرانيا وتعزيز دفاعات الحلف وخطط توسعه في محيط روسيا، حيث تعتبر تركيا من أوائل الدول التي انضمت إلى الحلف قبل عقود ولا زالت تلعب دوراً محورياً في مهامه وخططه الاستراتيجية حول العالم، على الرغم من أنها على خلاف كبير مع الكثير من كبار دول الحلف وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية مختلفة.
وقبل أيام، شارك الرئيس التركي في قمة شنغهاي للتعاون التي انعقدت في أوزباكستان حيث تتمتع تركيا بصفة “شريك حوار” في المنظومة التي تضم روسيا والصين وإيران والهند وباكستان ودولا آسيوية مختلفة ويعتبرها البعض تحالفا شرقيا مناوئا للمعسكر الغربي الذي تعتبر تركيا “شريكاً استراتيجياً” فيه.
وظهر أردوغان في القمة الأخيرة وهو يسير ممسكاً بيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حيث انخرط الزعيمان في حوار ثنائي، كما ظهر وهو يتصدر جلسة ضمت روسيا والصين وإيران وغيرهم وقد خاض حواراً مقرباً مع زعماء يعتبرون من كبار المناوئين للمعسكر الغربي في مشهد فتح الباب أمام نقاشات واسعة في تركيا والصحافة العالمية حول موقع تركيا الحقيقي بين المعسكرين الغربي والشرقي.
ولأول مرة أكد أردوغان بشكل صريح أن هدف بلاده هو نيل عضوية منظمة شنغهاي للتعاون وهو ما يبقى مزعجاً لحلفائه الغربيين على الرغم من أن المنظمة لا تحمل أي صيغة لتحالف عسكري وهدف تركيا منها اقتصادي بالدرجة الأولى حيث لفت أردوغان إلى أن “الدور الحاسم الذي تلعبه القارة الآسيوية في الاقتصاد العالمي جلي للعيان، حيث تغطي دول المنظمة 60 بالمئة من منطقة آوراسيا، بعدد سكان يقدر بـ 3.2 مليارات، وبحجم اقتصادي يبلغ 20 تريليون دولار”.
وعقب قمة شنغهاي، توجه الرئيس التركي إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة وهي المناسبة السنوية التي باتت منصة لأردوغان لتجديد دعوته لإصلاح النظام الدولي وخاصة نظام الجمعية العامة ومجلس الأمن منطلقاً من عبارته التي بات يكررها في كافة المحافل “العالم أكبر من خمسة” في إشارة إلى الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي ومطالبته بضرورة وجود مقاعد لدول أخرى كالدول الإسلامية والدول الإفريقية.
واستبق أردوغان وصوله إلى الأمم المتحدة بإصدار رئاسة الاتصال في الرئاسة التركية كتاباً يتضمن أطروحات تركيا بشأن “إصلاح الأمم المتحدة”، حيث من المتوقع أن يحرص أردوغان على توزيع الكتاب لقادة العالم حيث يركز على “أطروحة تركيا لإنشاء نظام عالمي أكثر عدلاً”، وينتقد نظام مجلس الأمن الذي يعتبر بحسب الكتاب نظاماً يجعل من “القوي محقاً” وليس من “المحق قوياً”.
وقبيل الحرب في أوكرانيا، دعت تركيا الغرب لأخذ المخاوف الأمنية الروسية على محمل الجد، وعقب الحرب أدانت أنقرة الهجوم الروسي وأكدت دعمها لوحدة أراضي أوكرانيا التي دعمتها بالطائرات المسيرة المسلحة “بيرقدار” التي فتكت بإمدادات الجيش الروسي، قبل أن يعود أردوغان لتحذير الغرب من استفزاز روسيا.
وفي الوقت ذاته الذي وقف فيه أردوغان إلى جانب أوكرانيا ومدها بالمسيرات، حافظ على اتصالاته وحواره مع روسيا حول الملف الأوكراني بشكل خاص، ونجح في التوقيع على اتفاقية الحبوب التي يقول إنها أنقذت العالم من خطر المجاعة، وهو ما اعتبر بمثابة نجاح دبلوماسي كبير لتركيا، كما يواصل مساعيه لرعاية مباحثات سياسية بين البلدين يأمل أن تقود لإنهاء الحرب المتواصلة منذ أشهر.
وسبق ذلك حصول تركيا على منظومة إس 400 الدفاعية من روسيا وهو ما اعتبر خروجاً عن النظام الدفاعي للناتو وجلب لأنقرة الكثير من المشاكل مع واشنطن، وحالياً يلوح أردوغان بالحصول على طائرات مقاتلة من روسيا في حال رفض الكونغرس الأمريكي بيع تركيا مقاتلات إف 16 المحدثة والتي جاءت في إطار محاولة لإنهاء الخلاف العالق عقب إخراج تركيا من برنامج طائرات إف 35.
ورغم خلافاتها العميقة وتنافسها الكبير دولياً وإقليمياً مع روسيا وإيران، إلا أن أردوغان حافظ على علاقات معقدة مع بوتين وروحاني في السنوات الأخيرة، ورغم الخلافات الجوهرية حول الملف السوري يجتمع الثلاثي كـ”حلفاء” في إطار أستانة في مشهد معقد يعجز المحللون عن تقديم تصور واضح حوله.
يضاف إلى ذلك المسار الدبلوماسي التركي الأخير الذي يسعى من خلاله أردوغان للعودة إلى سياسة “صفر مشاكل” بإنهاء الخلافات السابقة مع كافة دول العالم وهو ما جرى مع السعودية والإمارات وإسرائيل ويجري مع مصر وأرمينيا وأخيراً الحديث المتزايد عن مسار محتمل لإعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري للمساهمة في حل أزمة اللاجئين قبيل موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية الحاسمة التي تشهدها تركيا منصف العام المقبل والتي باتت تلعب دوراً محورياً في توجهات الدبلوماسية التركية.