يمكن للشعر أن يشكل أفُقُا للتعايش، فيه نَنفتِح على بعضنا باختلافاتنا الممكنة.. أفقا يَجمعُنا ويُوحّدُنا على وطنيةٍ ذاتِ جِذعٍ جمالي مُشترَك.. لأنه يمنحنا إمكانية الحوار والتشارُكَ في بناء كينونة متحررة من كل الحدود والنعرات الشوفينية المعيقة للعيش فوق أرض، عليها ما يستحق الحياة. فليس من شك في أن الشعر في إمكانه أن يلعب أدوارا توحِيديةً عالمية، هادِفةً لما فيه سلامُ الإنسانية، تحت لواء قيم الجمال.
ومن هذه المساعي الجميلة، تجربة المغربي عادل لطفي والجزائري عبد الرزاق بوكبة، من خلال عمل شعري زجلي بهي بعنوان «الثلجنار» وهو يزخر بقيم جمالية مختلفة تماما عما درجت عليه عادة الشعر العامي في الوطن العربي، بحثا عن كينونة أخرى، تفي بوعدها.
والحق أتصور أن القصيدة الزجلية الجزائرية وشقيقتها المغربية صنوان مع قوة التمايز والاختلاف الشعري كحق تقتضيه الحداثة وترتهن إليه. الحداثة في توثبها غير المنقطع، وتشخصنها الرؤياوي عند هذا الشاعر أو ذاك، ضدا من كل ميتافيزيقا شعرية أو دوكسا جمالي.
العنونة والقلب وبداية السياحة
لا شك في أن العنوان في النظريات الأدبية الحديثة أصبح على قدر كبير من الأهمية. فهو بمثابة الرأس للجسد كما يقول محمد مفتاح. والمتأمل لعنوان هذا العمل بوصفه أفقا لشعر مختلف، في إمكانه أن يلاحظ، بالبداهة، كثيرا من الغرابة المؤسَّسة على القلب (أقصد قلْب ونقض القيم والمفاهيم) إيذانا بشعرية جديدة، آثرتُ نعتها بشعرية المفارقة. هي مفارقة ليست صُدفوية، ولا حتى اعتباطية، وإنما هي متلبّسة بقصدية ظاهراتية باشلارية تحديدا، في بناء وتشييد صرح كينونتها المتعاكسة، وفق ما يمكن تسميته بـ»الصورة الفارغة» تلك الصورة التي يمحوها بعضها، إيذانا بميثاق جديد بين الشاعرين والقارئ، منذ العتبة الأولى. فإن تجمع بين الثلج والنار في عبارة واحدة، بين الشيء وضده، فإنك لا محالة تسعى جاهدا للمجاوزة بها ولها. المجاوزة ها هنا باعتبارها أحد أهم اشتراطات الحداثة. إن جمعا من هذا النوع، هو تشوف حاذق لأفق مبتهج، وسعيٌ دؤوبٌ من طرف الشاعرين نحو تخلّق كينونة مضاعفة وشيكة، ومتفتحة على صيرورتها بكل احتمالاتها حتى إن كانت مربكة لهما ولقناعاتهما الخاصة. تلكم هي المفارقة الكبرى في هذا العمل.
أعود إلى عبارة «الثلجنار» وهذه المرة انطلاقا من مبدأ المقايسة مع الخلفية الإبستيمية للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار. فالثلج عند بوكبة هو الماء عند باشلار. والنار لهب. وهما معا عنصران من ضمن العناصر الأربعة المكونة لكوسمولوجية الكون: الماء، النار، الهواء والتراب.
أصل الثلج ماء، ومآله التحول إلى ماء كامتداد أفقي، عند باشلار. أما النار فهي لهبٌ ذاتُ ألسنة عمودية. وفي كل «كائن عمودي تسود شعلة، بشكل خاص الشعلة هي العنصر الدينامي للحياة المستقيمة» (غاستون باشلار). والشاعر باعتباره كائنا عموديا، هو كذلك شعلة، ويدُهُ شعلة لأن مسار خط اليد عمودي. فهي شعلة يستضيء ويحترق بها. والوعي بهذه الدلالة لا تتحقق إلا لشاعر يُنصتُ جيدا لهسيس اليد الملبد بالضوء دائما. فهل التقاء العمودي بالأفقي في مسارٍ هو من بين الأغراض المستدعية للحلم في هذا العمل؟ من هذه الخلفية الإبستيمية، ينطلق الشاعر عادل لطفي في بناء عوالمه المتخيلة، إذ يُصرّح بذلك، غمزا ولمزا، في توطئته لـ»كتاب النار» التي تضمنت قولة لغاستون باشلار. فالنار شمس وروح وقصيدة.. يقول:
النار
طرف من الشمس
…طرف يتيم.
القصيدة جمرة كادية
بغى يطفيها السكات
ما قدرش
أما الشاعر عبد الرزاق بوكبة فيقول في مفارقة ضاجّة بالغرابة المستقوية بالجمع بين ما لا يُجمع، بين الثلج والنار، منتصرا للنار كباعث على الحياة:
– رميت شوقي ليك
في الثلج
زاد شعل.
يقول أيضا:
جداتي..
تحكيلي في ليل الثلج
وأنا نفكر
فريقك
حطت جمرة في فمي
قلتل(ها)ك: هذا عشاي.
لقد تحول الثلج، في لعبة القلب، إلى نار، والنار صارت طعاما، وتأسيسا على ذلك يمكن اعتبار النار، عند الشاعرين معا، عاملا محرضا على الحب والكتابة والحياة في أرقى وأبهى تجلياتها. أنبه هنا إلى أن الشاعر بوكبة لم يقتصر فقط على هندمة كينونة جديدة للأشياء، بل تعداها إلى ابتداع كلمة جديدة من خلال الجمع بين ضميرين في عبارة واحدة « قلتل(ها)ك» ما أجج المعنى وجعله مضاعفا، لتُصبح الكلمة حمالة أوجه.
شعرية المفارقة والكتابة الماكرة
من ضمن ما ينهض عليه فعل الكتابة في هذه الإضمامة الرائقة، هو المكر والشيطنة. يدان لا تكتبان إلا لتمحوا. وما أقسى أن تقول الشيء وتمحوه، محتفظا فقط بما لا ينقال، بالطروس والأثر (أفكر في دريدا هنا) وأحيانا بأثر الأثر. كثيرة هي التوصيفات التي يمكن نعت بها هذه التجربة المشتركة كالعماء، والانقطاع، والتوتر، في وعاء كارثي يذكرنا بنظرية روني توم. دعونا نتوغل أكثر في تجاويف هذه الإضمامة، وستكون الفاتحة عبارة عن اقتباس شعري للشاعر بوكبة يعرف فيه الثلج تعريفا بدائيا، غير أني أرى فيه مكرا وخداعا، لأن تعريفا آخر يتخفّى وراءه بخصوص مفهوم الشاعر للكتابة. يقول:
الثلج ورقة كبيرة
فتتها جوع الشتا
لمّيتها
وهديتها
للصيف باش يكتب.
وإذن بداية المكر في هذا المقتبس، هو بيان الكتابة المُضمر في التجاويف الباطنية للومضة. فالكتابة عند الشاعر لا تستقيم إلا على ورقة من ثلج منذورة للذوبان، للمحو، ومهداة للصيف لكي يكتب عليها.. لكي يحرقها ربما. يا لها من قسوة. أيكون الشاعرُ قاصدا بذلك الكتابة المضادة مقرنا إياها بالحرق، أسوة بمأساة أبي حيان التوحيدي، أو أسوة بفراشة تحترق في مدار شعلة قنديل؟ وإذا صحّ الأمرُ، هل يمكن اعتبار الشاعر، وهو يؤسس لوعي بويطيقي جديد، قد تخطى الوعي الشعري الرؤياوي، ذاك الذي اعتبر الشعر قبسا من نار حكمة انتزعها بروميثيوس من سماء ضالة؟ يجيبنا عادل لطفي قائلا:
ملي صرت نار
حرقت وردة
ندمت
مالقيتش الدموع…
باش نبكي
جيت لهاذ الكسدة
نسد باب الرجوع..
من يد بروميثيوس
لقنديل ديوجين
لشمعة باشلار
…
…
ومازال شاعل
كتاب النار .
توحي الومضتان الأخيرتان، بخداع قشيب مضمونه أن الشاعر عبد الرزاق بوكبة سيُهدي الورقة للصيف، للتدقيق قل إنه سيسلمها لشاعر النار عادل لطفي. هي إذن كتابة بالتناوب. يد تكتب وأخرى تمحو. لقد أصبحت الكتابة، عند الشاعرين، ثلجا ونارا، ما جعلها تتوشح بوشاح تطهيري. وبذلك أزعم أن الكتابة، في هذا المقام، ثلاثية الأبعاد.
ثمة إذن رغبة ملحة من قبل الشاعرين في فتح جرح في مفهوم الكتابة الزجلية. جرح تعرض للنسيان والثني بلغة هيدغر. وإن بسط هذا الثني لن يتم، في نظرهما، إلا بوضع اليد الكاتبة في مواجهة نفسها، والكلام في مواجهة الصمت، والنار في مواجهة الثلج. إن الكتابة في هذا العمل، يُغاير نفسه باستمرار، مبشرا بشعرية جديدة ننعتها بشعرية «القلب والمفارقة». فالثلج نار، والكتابة محو، والجمرة قبلة، والقبلة طعام. ليس من شك أن ذلك يشكل أوج مفارقة تؤجج دوال الكتابة، بحثا عن كينونة مضاعفة، وعن تخلق ميتا- زمني لكتابة ضدية وصدامية.
شاعر وناقد مغربي
جميل
نعم للتعايش بين الشعبين الجارين المغربي والصحراوي.
و القبايلي ربما .. ما رأيك .. و التارقي .. و سأقف هنا .. ?
.
اتسائل .. لماذا تعكير اجواء جميلة … ؟
جميل أن تجمع القصيدة بين الإخوة الشعبين المغربي والجزائري وتلاقي بين الشيء وضده في بوتقة “ثلجنار” ..وهذا من طبيعة النظام المغربي الذي سعى دائما إلى تذويب ثلج الخلافات بنار هادئة ..ومد يد العون والأخوة إلى جارته الجزائرية ..لكن هناك للأسف الشديد من يريد أن يعزف على وتر قصائد أخرى ..قصائد التفرقة ..ويبني لنفسه قصيدة بعنوان “عداجار” ..أي العداء للجار.
لكن ..مع ذلك هناك بصيص أمل ما دام المغرب البلد العريق بتاريخه يحكمه حكماء ويسعى دائما للوحدة العربية والإسلامية.. وبناء قصائد وجسور الأخوة.
ابن الوليد- ألمانيا
الأجواء الجميلة لا يعكر صفوها تعليق مالم يكن القلب نفسه قبيحا..
ومتى كان الإسلام يدعو للإنفصال ..؟!