“البشرى” القائلة بانتقال الجيش الإسرائيلي قريباً إلى المرحلة الثالثة من الحرب، والتي سيسحب فيها معظم قواته من القطاع واقتصار قواته على نشاطات ضد حماس تنفذ بطريقة الاقتحامات، بالتأكيد تقلق سكان القطاع ومنظمات الإغاثة والولايات المتحدة. “توقعوا سيناريو في غزة يشبه ما كان في العراق عندما كان تحت سيطرة القوات التحالف”، قال لـ “هآرتس” دبلوماسي أوروبي يعرف عن قرب نشاطات منظمات الإغاثة في القطاع، “بالأحرى عندما لا تكون في غزة قوات سوى قوات حماس، التي ستشرف على الأمن الداخلي، وعلى النظام العام وعلى ثروات المواطنين”، أضاف.
الأمثلة على ذلك كثيرة. في نيسان مثلاً، سرق من بنك فلسطين حوالي 120 مليون دولار كانت مودعة في خزائن فولاذية بفروع البنك في حي الرمال. عمل السارقون كما في فيلم جريمة مبتذل. تفجير قوي أدى إلى حريق في الفرع الرئيسي، فطارت مئات الأوراق النقدية من الدولارات والشواكل في الهواء، وفوراً دخل عشرات المسلحين إلى مبنى البنك وجمعوا ملايين كانت مودعة فيه، لم يكن هذا عملية السطو الوحيدة في هذا الشهر، فقد جرت عملية سطو أخرى للمقتحمين بحوالي 36 مليون دولار أخرى.
ثمة وثيقة داخلية وصلت لأيدي الـ “فايننشال تايمز”، تحدثت عن سرقة حوالي 7 مليون دولار أيضاً من الصرافات الآلية بأيدي سارقين مسلحين دخلوا مبنى البنك واقتلعوا الصرافات الآلية وأفرغوها. سارعت قيادة البنك وهو البنك الأكبر في القطاع، لتهدئة الناس وقالوا إن البنك لن ينهار بسبب هذا السطو، وأن في فروعه بالضفة عدة مليارات من الدولارات مودعة هناك، ولكنه بيان لم يهدئ سكان القطاع، لأن من استطاع الوصول للصرافات الآلية المنفردة المتبقية في القطاع -حسب التقدير، للسكان الآن 7 صرافات آلية عاملة في غزة فقط -يجد أن الصفوف الطويلة والاكتظاظ حول فروع البنوك حولت عملية سحب الأموال لأمر متعذر.
وقال مواطنون إنهم اضطروا لرشوة مسلحين كي يستطيعوا الحصول على مكان في الدور للصراف الآلي، أو يحظوا بحراسة بعد نجاح سحب المال. كمية الأوراق النقدية آخذة في النفاد، ليس بسبب عملية السطو فحسب، فإسرائيل أيضاً لا تسمح بإدخال شواكل إلى القطاع خوفاً من انتقالها لأيدي حماس؛ والصرافون في الواقع يحتفظون بدولارات وبدنانير أردنية، ولكنهم يجدون عمولات ضخمة عن كل عملية، ويقومون بعمليات خصم تبلغ 20-30 في المئة من الراتب الذي يدفعونه لموظفيهم نقداً، وهؤلاء يعتبرون محظوظين لأنهم يتلقون راتباً ما.
النقص في الأموال النقدية، والصعوبة الكبيرة في تنفيذ تحويلات بنكية بين فروع البنوك في الضفة إلى القطاع، ليست سوى جزء من المشكلة الاقتصادية الضخمة في قطاع غزة. والنتيجة أن اقتصاداً موازياً بدأ بالازدهار في الشهور الأخيرة، تدير فيه عصابات إجرامية محلية (وليس فقط رجال حماس) الأسواق وتجبي رسوم حماية وتسيطر على مخازن تخزين الأغذية وعلى باقي المنتجات، و”تنظم” كميات الطعام التي ستباع وتحدد الأسعار. وكل هذا بتهديد السلاح.
يتحدث المواطنون في الشبكات الاجتماعية عن حروب بين العصابات على السيطرة على الأحياء وعلى الشوارع، إضافة إلى عنف شديد وأعمال قتل بسبب كيس دقيق أو رزمة مساعدة، ونجح أحد الأشخاص بالحصول عليها وحاول نقلها إلى بيته أو خيمته، هذه حرب حقيقية، تشارك فيها عصابات مناطقية كانت موجودة حتى قبل الحرب. لقد انضم إليها مئات السجناء الجنائيين التي أطلقت حماس سراحهم مع بداية الحرب خوفاً من قصف السجون. هذه الظاهرة يعرفها كل من تابع التطورات في العراق، فوراً بعد أن احتلتها قوات التحالف في 2003. قبل وقت قصير من الحرب، أطلق صدام سراح حوالي 30 ألف سجين جنائي وأمني، وأسس هؤلاء عصابات شوارع، ولم ينجح الجيش الأمريكي بالسيطرة عليها.
بعد وقت قصير من ذلك، ظهرت أيضاً العبوات الجانبية وإطلاق النار من كمائن وتفجير سيارات ملغمة ومبان عامة، وهجمات كبيرة ضد الجيش الأمريكي، وفي غزة ظهرت العلامات القاتلة “للواقع العراقي” بصيغة قد تكون أكثر عنفاً.
مفهوم “مساعدة إنسانية” في غزة يبدو موضوعاً مضللاً، كميات ضخمة من السلع التي وصلت من الخارج، حسب التقديرات حوالي 6 آلاف طن موضوعة في مخازن منذ 9 حزيران ولا توزع نظراً لأنه لا يوجد أي تنظيم أو جسم متفق عليه مستعد لتوزيعها، وذلك خوفاً على حياة رجاله. برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، والذي من شأن أعضائه أن يشغلوا خطوط التوزيع للشحنات التي تأتي عبر الرصيف المؤقت الذي بناه الأمريكان، أعلن أنه “يوقف مؤقتاً” التوزيع بعد إصابة مخزنين له بالضرر جراء الصواريخ. منذ الأربعاء الماضي، يحاول ممثلون إسرائيليون وأمريكيون يديرون معاً “سلطة إدارة القوافل” – وهو جسم أقيم لفحص سبل آمنة لتوزيع المساعدة الإنسانية، ويقع في قاعدة عسكرية بالقرب من “أشكلون” [عسقلان]، لإيجاد حل ما يمكن من توزيع الطعام والأدوية.
حتى آذار، عملت في غزة “لجان شعبية” من متطوعين مسلحين رافقوا القوافل، وحاولوا حماية مراكز التوزيع، ولكن بعد أن قتل حوالي 70 من رجالها، أعلنت وقف عمليات المرافقة والحراسة. إحدى سكان غزة التي هربت من شمال القطاع إلى رفح، ومن هناك إلى منطقة المواصي، قالت لشبكة “الجزيرة” إن “بقاءنا مرهون الآن بالمساعدة المتبادلة ما بين السكان”، وثمة حدود للمساعدة المتبادلة هذه، فالسكان يتحدثون عن نزاعات عنيفة تندلع بسبب خلافات حول مكان الخيمة أو بسبب سلوك غير منضبط للأطفال، وأحياناً بسبب الحسد، نظراً لأن أحدهم نجح في الحصول على رزمة طعام، كما يقول أحد السكان الذي تحدثت معه شبكة “العربية”.
أمام هذا الواقع الذي تسيطر فيه منظمات الجريمة وخلايا إرهاب تابعة لحماس والتي انتقلت إلى حرب عصابات على صيغة العراق وسوريا، للسيطرة على مليونين وربع مليون مواطن يعيشون في ضائقة مخيفة من الجوع والتوتر وبدون أفق، لا تملك إسرائيل بعد أي استراتيجية أو خطة عمل. وفي أحسن الأحوال، ستضطر للتعاون مع عصابات عائلية مسلحة، وفي الواقع ستعود حماس لإدارة البنية التحتية للقطاع.
تسفي برئيل
هآرتس 2/7/2023