قد تبدو أهمية الدراسات المستقبلية نابعة من طبيعة الأسئلة الثقافية التي تثيرها هذه الدراسات وتسعى للإجابة عنها ومن ثم تأشير حجم الأنظمة الثقافية التي تتطلع لإقامتها ومديات الاختراق والمقامرة التي ستجازف بها من أجل انبعاثات جديدة ترسم عبرها سمات المشروع الثقافي المستقبلي، وأهمها ألا يكون نخبوياً وأن يتسم بالضبط والدقة، ويجمع الشعبي بالرسمي، ولا يقر بنموذج سائد ومألوف يحتذي خطاه وإنما يتطلع لصهر النموذجي بالتجريبي في بوتقة معرفية تنتج الثقافة التي ستغدو ديمقراطية شعبية مفتوحة بلا بيروقراطية. والسؤال المطروح هنا هو كيف نجعل الراهن الثقافي مشروعاً لثقافة مستقبلية؟
إن الإجابة العملية عن هذا السؤال رهنٌ بما نتخذه كمثقفين عموميين أو نخبويين من مفاهيم تتعلق بكيفيات تأمل القادم وأطره ومستوياته، ولو تساءلنا ما حال الثقافة بعد عقدين أو أكثر من الآن؟ وما نوع التغيرات التي ستطرأ على المشهد الثقافي؟ هل ستكون التغيرات عددية أو نوعية؟ وأي الفئات العمرية ستعطيها هذه الثقافة اهتمامها؟ كيف ستلبي الثقافة متطلبات الواقع بطريقة ايجابية؟ من سيكون حامل لواء الثقافة في المستقبل؟ هل هم الأكاديميون أم غيرهم أم الشعراء والكتّاب أم هم الفلاسفة والمفكرون أم النقاد والباحثون أم الطلبة والشباب؟ وما لون اللبوس التي ستتمظهر بها ثقافة الغد؟ وإلى أي منحى ستميل كفة الفعل الثقافي مستقبلاً إلى اليسار أم إلى اليمين أم إلى اصطفاف جديد؟ وهل ستكون ثقافة الغد مسالمة متصالحة أم ستكون هجومية كاسحة؟
وأسئلة أخرى كثيرة لن يجيب عنها إلا باب الدراسات المستقبلية كعلم قائم بذاته يستكشف الراهن بغية استشراف القادم، وهو ما يجعلنا متمكنين من رؤية أفكارنا على حقيقتها بواقعيها وخياليها وصحيحها وباطلها وممكنها ومستحيلها على وفق اعتبارات تسمح لنا بالفحص والتدقيق، ميسرة الطريق أمام البرهنة على صحة مشروع ثقافي معين يراد له الناجزية مستقبلاً.
وقد دخل علم المستقبليات منذ أمد ليس بالقليل في مختلف ميادين الحياة المعرفية ومرافقها التنموية، لكنه لم يطرق باب الثقافة بالقوة نفسها التي طرق بها أبواب الاقتصاد المتروبولي ومركزيات البحث الجيوبوليتيكي واستراتيجيات التعليم والتربية وتوجهاتهما الفلسفية إلى غير ذلك من الأطر الحياتية.
ليس الحديث عن رؤى مستقبلية للظواهر والوقائع والأزمات ضرباً من التخمين ونمطاً من الأحلام والتطلعات أو نوعاً من الرهان والركون إلى الحظ والنصيب، كما أنه ليس خيالاً علمياً أو فانتازيا تشطح بنا بعيداً، وإنما هو فرع من فروع المعرفة العلمية التي تقوم على المنطق وحديث عن معرفة يتم بلوغها بأسس علمية وضوابط منهجية، وقد عرفه القدماء الإغريق والرومان، كما كانت للعرب ميادين فكرية ومسارات منهجية تصب في هذا الباب، محاولة رسم صورة لآفاق معرفية معينة اعتماداً على معطيات راسخة في الحاضر.
واليوم تعد مراكز البحث العالمية المتخصصة في الدراسات المستقبلية بمثابة منابر لها استراتيجياتها ومضاميرها التي يهتم بها باحثون ضليعون في فهم ظواهر الحياة المعاصرة ليستنبطوا من خلالها تصورات معرفية قادمة، واضعين لها استراتيجيات يفيد منها دهاقنة السياسة الدولية وأرباب رؤوس الاموال والشركات وصناع القرارات العالمية.
ولا تكاد تخلو جامعة من الجامعات العريقة من مثل هذه المراكز البحثية التي تكترث بما هو قادم بقصد الاستعداد له والتهيؤ عبر حسابات علمية دقيقة، تتوفر في سبيلها شتى المعلومات وتتاح لها مختلف الإيرادات والإمكانيات لتقوم تلك المراكز بدورها الطليعي في استقصاء الظواهر وتمحيص معطياتها، تبصراً في القضايا ومعالجةً للأزمات، ووصولاً إلى رؤى حصيفة تعطي صورة مقربة للمآل الذي ستكون عليه ظواهر المعرفة الإنسانية ومعطياتها وقضاياها في القادم من الحقب، وبالشكل الذي يضع الحلول ويحدد الكيفيات التي بها توضع الخطط الناجعة لفك الإشكاليات وحل المشكلات بفض المعوقات.
ومما لا شك فيه أنّ وعينا رهين اللحظة الحاضرة بينما يمتد لا وعينا خارج هذه اللحظة بما يفتح كل الاحتمالات حول جدلية علاقة الزمن بذهن الانسان. وليس حبل البحث في ميدان الدراسات المستقبلية متروك على الغارب أو هو مندرج في خانة التحزير والظن والحدس، وكأن هناك عصا سحرية نستخدمها متى ما شئنا لنغير بها ما نريد، بل هي دراسات أساسها التفكير العقلاني المستند إلى العلم والمرتكن إلى المنطق وحيادية النظر وموضوعيته.
وإذ نقول إن الدراسات المستقبلية ميدان بحثي لا مجال للاستغناء عنه وأنه ليس طارئاً أو فائضاً فلأننا سنتمكن من معاينة الأمور من كل الزوايا معاينة ثلاثية الأبعاد لا تهتم ببعد على حساب بعد آخر، بل ستلم شتات الصورة المبحوثة أيا كانت تلك الصورة مادية أو معنوية أو مدنية أو عسكرية أو تعليمية أو ترفيهية.
وفي جعبتنا أمثلة لمراكز بحثية احتضنتها أروقة الجامعات العالمية ووفرت لها الدعمين العلمي والمادي مما مكنها من أداء مهامها في رصد الحاضر وبناء تصورات للمستقبل على وفق خطط منهجية وبرامج بحثية رصينة وهو ما تحتاجه جامعاتنا العربية التي فيها مراكز بحثية لكنها على قلتها أما متحجرة في منهجيات عملها أو منحازة في تصوراتها ومقيدة بعقلية من يدير أمورها على وفق توجهات لا تخلو من مصالح ضيقة أو تكون معنية بمناحٍ هي في حقيقتها جزء ضئيل مما ينبغي أن تعنى به أصلا من ذلك مثلا عنايتها بمسائل ليس هدفها سوى الاعلام والترويج والدعاية.
والأسوأ منها عنايتها بمسائل لا تمت بصلة للتفكر والتمرس فيه كالتحريض والتحشيد والتفرقة من دون الاهتمام بالارتفاع منها تاريخيا إلى المستقبل.
ومع قلة المراكز البحثية في جامعاتنا فإنه ليس فيها لدراسة المستقبل أي حضور واضح. والمراكز البحثية التابعة لها على قلتها تشكو من نقص الدعم الذي يحول دون أدائها المهام المنوطة بها من عقد الحلقات الدراسية والتحضير لمؤتمرات دولية إلى استقدام باحثين عالميين أو استضافة شخصيات بحثية عربية وما إلى ذلك من أنشطة تدعم الرصد المستقبلي للظواهر والقضايا الملحة والاساسية التي تحتاج إلى دراسات معمقة وكثيفة.
ومن بين تلك القضايا الدراسات النسوية والمآل المستقبلي لهذه الدراسات التي تعنى بها الجامعات الغربية بينما هي غائبة عن استراتيجيات جامعاتنا العربية والعراقية.
وإذا ما وضعنا أمام إحدى جامعاتنا الرئيسة فكرة تأسيس مركز بحثي خاص للدراسات النسوية راح بال أصحاب القرار إلى مسألة الحقوق الاجتماعية كمسألة الدفاع عن المرأة ضد الرجل، مضيقين الحال بما هو معهود في طبيعة عمل المنظمات غير الحكومية التي لا تتعدى مطالبها في تغيير واقع المرأة الجانب الاعلامي، وهو ما يزيد الطين بلة.
ويقاس على هذا التقوقع أو التحجر في الفهم المستقبلي للمرأة قضايا وظواهر مماثلة تتعلق بحيوات أخرى مهمشة كالطفل والعاطل عن العمل وكبار السن والنازح والمهجر وفاقد الهوية وغير ذلك مما ينبغي أن يعطى له دور ليسهم في رسم خارطة لمستقبل الغد الذي ينبغي أن نهيئ له الممكنات التي توجهه بالصورة التي نبغيها ونسعى إلى بلوغها.
*كاتبة عراقية