درس أسباني!
امجد ناصردرس أسباني!لم أطّلع علي كل الرسوم التي نشرتها الصحيفة الدنماركية اليمينية يولاندس بوستين إلاّ قبل يومين، وهي ليست، لرسام واحد، كما يظن معظم العرب والمسلمين، بل لرسامين عدة وضع كل واحد منهم تصوره للرسول والدين الاسلامي. بعض هذه الرسوم لا يَخفي طابعه الهازل، الساخر، مما تخيله الرسام عادة، اوطقساً، أو تشريعاً إسلامياً، والبعض الآخر لا تخفي خطوطه الحادة، العصبية التي تجاوزت حدود النقد الساخر الذي يخوض فيه الكاريكاتير، عادة، الي الاهانة المقصودة.أضرب مثلا علي القسم الأخير بتلك الرسمة التي تصوّر محمد بعمامة سوداء علي شكل قنبلة، وبعينين حادتين وحاجبين كثين شيطانيين، ولحية مرسلة، مشعثة، كأسوأ ما يظهر به مُلا طالباني من الدرجة الثالثة في ملصقات الدعاية الامريكية.لا شيء ساخرا في هذه الرسمة.بل، حتي لا كاريكاتير فيها.لا مسحة من المرح،ولا أجتهاد، أو إعمال خيال، يتركه الرسام لمتلقيه.انها بيان دعائي، مباشر، سهل، يقول، من دون لف أو دوران، ان محمداً ارهابي.الخطير في أمر عمل كهذا انه يربط، علي نحو ميكانيكي جهول، بين اعمال بعض المسلمين اليوم وبين الاسلام، حيث تنعدم المسافة، مثلاً، بين النبي واسامة بن لادن. فإذا كان هذا الرسام صوّر محمداً علي هذا النحو فماذا ترك، إذن، لأسامة بن لادن او لأبي مصعب الزرقاوي؟لا يعرف هذا الرسام ان الاسلام دين واسع دخلت به أمم وشعوب لم تكن بينها قواسم مشتركة تذكر، وتعرض، كما هو شأن المسيحية، الي انشقاقات وتفريعات يضرب بعضها جذوره في الافلاطونية والزردشتية والاحيائية أكثر مما ينهل من القرآن والسنة.فإذا كان اسامة بن لادن مسلماً، فإن اسامة بن منقذ، الذي حارب الصليبيين وهادنهم وأقام علاقات مع بعضهم، هو مسلم أيضاً، وإذا كان الظواهري مسلماً، فان ابن عربي صاحب مذهب وحدة الوجود مسلم أيضاً نادي بدين الحب والتسامح قبل قرون من ولادة شرعة حقوق الانسان.. وإذا كان سيد قطب مسلماً فان طه حسين التنويري الكبير مسلم أزهري، وإذا كان أبو مصعب الزرقاوي مسلماً فإن نصر حامد ابو زيد الذي توغّل في قراءات عميقة وجريئة في الاسلام مسلم كذلك.الخطر، دائماً، في الجهالة.ويصح القول علي أولئك الذين ظنوا أنهم بتصويرهم للنبي محمد ارهابياً وشيطاناً، ان المرء عدو ما يجهل. فلو كانوا علي معرفة حقيقية بسيرة الرسول وبالتنوع الكبير للاسلام والمسلمين لما فعلوا ما فعلوا. ويمكن لأي جاهل للمسيحية ان ينسب أسوأ حروب عرفتها البشرية (الحربان العالميتان الأولي والثانية) التي راح ضحيتها أكثر من مئة مليون انسان، الي المسيح باعتبار ان الذين قاموا بها يدينون بالمسيحية.. أو ولدوا لآباء مسيحيين.فما هو الرابط، والحال، بين المسيح نبي التسامح والمحبة وافتداء خطايا البشر وأدولف هتلر؟لا شيء بالتأكيد.. حتي وان كان هتلر مسيحياً، أو ينتمي إلي مجتمع يدين بالمسيحية.إذن للأمر علاقة بالجهل.وللأمر علاقة بالتنميط الذي هو مزيج محكم من الجهل والخبث.ويستمر الجهل، أو التجاهل، الأوروبي قائماً.فالاتحاد الأوروبي يظن ان بامكانه إيقاف كرة النار التي أطلقتها الرسوم بارسال خافيير سولانا إلي بعض العواصم العربية.صحيح أن بعض الغضب العربي والاسلامي اطلقته أنظمة عربية وإسلامية كي تظهر لجمهورها انها حريصة علي مقدساتها ولتعزيز أوراق مساومتها (… او مقاومتها) أمام الضغوط الغربية التي تمارس عليها من أجل مزيد من الانفتاح والديمقراطية، ولكن الصحيح، أيضاً، ان هذه الأنظمة جزء من أزمة الثقة بين الشعوب العربية والاسلامية والغرب.فهذه الشعوب التي وصلت حياتها، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، الي طريق مسدود تري، بحق، ان انظمتها القمعية، الفاسدة، الفاقدة لأي سيادة وطنية فعلية، موجودة، بكل جبروتها، بسبب الدعم الغربي لها.ألم يفهم الغرب أن التطرف الديني الذي يعرفه العالمان العربي والاسلامي عائد، بدرجة كبيرة، الي انسداد الآفاق امام أي تطور طبيعي لحياة تلك المجتمعات.أما آن الأوان لكي يعرف الغرب ان جذور الارهاب الذي اصاب بعض المدن الغربية، ويخطط لاصابة المزيد منها، تتغذي من تلك التربة الخصبة التي وفرتها لها أنظمة عائلية تربض، بعسكرها وسجونها وفسادها، علي صدور مجتمعاتها؟كل ما يفعله الاتحاد الاوروبي، وقبله الامريكيون، لا يشير الي تغيير في الفهم أو التعامل مع عالم مبتلٍ بالأنظمة الفاسدة والارهاب معاً.المطلوب لتصحيح هذا المسار الذي لن يؤدي الي أي نتيجة ايجابية طويلة المدي، هو الكف عن دعم هذه الأنظمة التي لا شرعية لها، والتوجه الي المجتمع المدني في العالمين العربي والاسلامي.اي حوار حقيقي، مثمر وطويل المدي بين الغرب و الشرق لن يتم من خلال حكومات، هي نفسها، عدوة لشعوبها، بل مع المكونات السياسية والثقافية (بمن في ذلك الاسلاميون)، للمجتمعات العربية والاسلامية.مطلوب، الآن، وأكثر من اي وقت مضي، اقامة حوار حقيقي، صريح، يسمي الأشياء بأسمائها، بين النخب الفكرية والثقافية والسياسية، العربية ـ الاسلامية والغربية، هذا أكثر أهمية، وجدوي، من زيارات خافيير سولانا، او غيره، من مسؤولي الاتحاد الاوروبي الي عواصم القمع والفساد العربية.هناك دائماً وجه آخر للأشياء.ففي الوقت الذي اطلقت فيه الصحيفة الدنماركية موجة من العداء والكراهية والعنف من خلال رسوماتها التي لا تتسم بأي قدر من الحساسية حيال معتقدات الآخرين (نتحدث هنا عن أكثر من مليار مسلم)، يجهز مثقفون اسبان لمعرض ضخم عن ابن خلدون يستعيدون، من خلاله، لحظة تشابك سعيدة بين ضفتي المتوسط. وباستعادة إرث الأندلس يستعاد زمن الفكر والشعر والعمارة والعطر.. والتسامح الذي طبع تلك اللحظة الذهبية في علاقات أوروبا مع العالم العربي.هذا درس بليغ من اسبانيا التي تنفض الآن، رغم تفجيرات مدريد الارهابية الاجرامية، الغبار عن تاريخها المشترك مع الضفة الاخري للمتوسط.. نأمل ان يكون نموذجاً يحتذي لغيرها من دول الاتحاد الاوروبي.. أقرب جار الي العالم العربي.0