كانت الأخبار منتصف العام الماضي مليئة بالتحريض الدولي والإقليمي على النيجر، وفق مسوّغ أن القيادة العسكرية فيها قامت بانقلاب. أخذت التطورات المتسارعة آنذاك مناحي خطيرة، فدقت طبول الحرب، وامتد الحصار ليشمل خدمات وسلعا أساسية بهدف الضغط على السلطة القائمة وزيادة الغضب الشعبي. بدا الأمر وكأن النيجر هي البلد الافريقي الوحيد، الذي حدث فيه انقلاب.
في مقال كتبته حينها، أطلقت على الحدث اسم «التغيير الدستوري» في النيجر. لم يكن قصدي التخفيف من أثر الانقلاب، أو الدفاع عن التغول العسكري على السلطة، بقدر ما كان السخرية من المنطق، الذي يستهدف بالعقوبات، بسبب مزاعم الانقلاب، دولة تقع في الأساس ضمن ما اصطلح على تسميته بـ»حزام الانقلابات». أحداث النيجر شرحت أن أي انقلاب هو مجرد تغيير دستوري يمكن قبوله، إذا تم وفق المصلحة العامة، وهي مصلحة يقدرها الفاعلون الدوليون، على العكس من ذلك، فإن أي طريقة للوصول إلى الحكم تأتي بمن هم ليسوا على هوى أولئك الفاعلين غير مقبولة.
التلاعب بالمصطلحات في العلاقات الدولية له أشكال مختلفة، فما الذي يجعل، وهذه مجرد أمثلة، هجمات أوكرانيا على مناطق روسية خارج دائرة الصراع، فعلاً من أفعال المقاومة، التي يشرعنها الغرب، وهجمات الفلسطينيين على مستوطنات الاحتلال إرهاباً؟ أو ما الذي يجعل التوغل الروسي داخل الأراضي الأوكرانية احتلالاً، فيما يتحول الاحتلال الأمريكي المباشر للعراق وأفغانستان لعملية تحرير؟ الحقيقة، التي لا يمكن الفرار منها، هي أن المجتمع الدولي (دول الشمال) هو من يحدد المصطلحات، وهو من يمنح الشرعية، فيجعل من هذا مصلحاً مقبولاً ومن ذلك انقلابياً ومن ثالث معتدلاً أو متطرفاً. الذي يحدث هو أن هذا التحديد والتعريف للمصطلحات لا تحتفظ به هذه الدول الفاعلة لنفسها، بل تعمل على أن يتبناه الجميع، إما بالترغيب أو الترهيب. أنتج هذا الكثير من القيادات السياسية والعسكرية، التي لا تؤمن بشعبها، بل تؤمن بأن الطريق الأقصر للبقاء في الحكم، إنما يمر برضا سادة العالم، الذين يوزعون صكوك الشرعية لبعض الأنظمة، التي لا يجهل أحد حجم انتهاكاتها. في الوقت الذي كان فيه المعسكر الغربي، الذي كانت تمثله فرنسا، يحدثنا عن مغبة انتهاك الشرعية في النيجر، كان الجميع يعلم أن باريس ظلت على مدى قرن من الزمان ترعى القيادات الفاسدة في مقابل حلب خيرات الشعوب. أحداث الساحل كانت مهمة، لأنها كانت المرة الأولى، التي تخرج فيها المستعمرات السابقة عن سيطرة الإليزيه. لم ينته الأمر هنا، فلسوء الحظ، لم يلبث أن حدث انقلاب آخر في الغابون، لتنكشف عورة المدافعين عن الديمقراطية، تصدر التحفظ على الرئيس علي بونغو وتنحيته على يد طغمة عسكرية لم تعترف بنتيجة الانتخابات عناوين الأخبار. التشابه مع ما حدث في النيجر، بل ما حدث في بوركينا فاسو ومالي، كان محرجاً، فالوقائع تكاد تكون متطابقة، عدا فارق واحد وهو إعلان القيادة الجديدة احترامها للمعاهدات السابقة، وحرصها على العلاقة مع فرنسا، التي تمتلك مع ذلك البلد شراكة تاريخية في عدة مجالات على رأسها النفط.
المجتمع الدولي (دول الشمال) هو من يحدد المصطلحات، وهو من يمنح الشرعية، فيجعل من هذا مصلحاً مقبولاً ومن ذلك انقلابياً ومن ثالث معتدلاً أو متطرفاً
غيّر ذلك كل شيء، فرنسا، التي تملك قوات عسكرية والآلاف من الرعايا تناست إدانتها الباردة الأولية ومطالبتها بإنهاء الانقلاب، أما الإعلام العالمي فلم يعد ينتقد ما يحدث في الغابون، على العكس كادت الصحافة أن تصف الانقلابيين بالبطولة، وهي تعدد تجاوزات الرئيس المعزول في ما يتعلق بالخلط بين السلطات ومحاولات السيطرة على المجال العام عبر التحكم في القضاء. استفاض «الإعلام الحر» كذلك في الحديث عن تدني شعبية الرجل، الذي ظل في الحكم منذ عام 2009 خلفاً لوالده. كانت استماتة كتاب غربيين في الدفاع عن «الانقلاب» مثيرة للسخرية، خاصة أولئك، الذين كانوا يدينون قبل أيام معدودة ما حدث في النيجر. لجأ البعض لاستعادة مصطلح «الانقلاب الديمقراطي» أي الانقلاب الإيجابي، الذي يمكن أن يقود لانتخابات حرة ولحكومة مدنية، كما تكررت على ألسنة محللين عبارات من قبيل قولهم، إن التغيير بالصندوق الانتخابي في الحالة الغابونية لم يكن ممكناً، لأن وضعها معقد، حينها كان المرء لا يملك إلا أن يتساءل: وماذا لو كان قائد الانقلاب الغابوني قد أعلن، كما رصيفه النيجري، منذ أول يوم القطيعة مع فرنسا، وأوقف معاهدات الاستغلال المجاني للموارد الوطنية، هل كانت فرنسا ورصفاؤها سوف يحتفظون بهذا الموقف التبريري، الذي كان يجعلهم يقومون بما يشبه حملة العلاقات العامة لصالح النظام الجديد؟
مفارقة أخرى لا بد من ذكرها هنا وهي، أن فرنسا وحلفاءها، الذين فتحوا الملف الحقوقي للرئيس بونغو، وكيف أنه كان يلجأ لتصفية خصومه السياسيين وللتلاعب بالقوانين، بما يخدم بقاءه لأطول وقت على سدة الحكم، إن أولئك كانوا من أقرب أصدقائه على مدى فترة حكمه، من دون أن تعكر كل هذه التجاوزات صفو علاقتهم. أكثر من ذلك، فإن الرئيس ماكرون نفسه كان في زيارة للغابون قبل أشهر من انعقاد الانتخابات الأخيرة، وهو ما رأت فيه المعارضة آنذاك رسالة دعم وتأييد. من دروس الغابون أن شهادة «الديمقراطية» التي يوزعها الغربيون على من يشاؤون هي مجرد وهم شبيه بصكوك الغفران الكنسية القديمة، كما أن من الدروس المهمة أيضاً أنه لا ضمان نهائيا في عالم السياسة، فعلي بونغو ليس سوى اسم واحد ضمن قائمة طويلة، ظنت لوهلة أنها ضمنت الخلود السياسي، وأن الدول الراعية، التي حصلت على الكثير من الفوائد والخدمات عن طريقهم، لن تتخلى عنهم. الخبر السيئ للطغاة، مهما كان حجم «تعاونهم» هو أن تخلي الرعاة عنهم ليس أمراً مستبعداً وهذا يحدث، إما لأن الطاغية أصبح حملاً ثقيلاً عليهم بما ارتكبه من مفاسد وجرائم، وإما لأنهم استطاعوا إيجاد من يمكنه أن يقدم أكثر. من المشاهد الدرامية، التي ارتبطت بعزل الرئيس الغابوني، إطلاقه رسالة استغاثة عبر مقطع فيديو يطالب فيها «جميع الأصدقاء حول العالم» بأن يهبوا لاستعادة حكمه. الغرابة كانت أن تلك الرسالة لم يتم تقديمها بلغة محلية، بل باللغة الإنكليزية، فالمقصود بها ليس أبناء الشعب في الداخل، بل الحلفاء الخارجيون وهو ما يشبه الرسالة التي أطلقها محمد بازوم رئيس النيجر المعزول، والتي لم تغنِ عنه في آخر المطاف شيئاً.
أسرة بونغو هي إحدى أهم ثمار سياسة «فرانس أفريك». عمر بونغو الأب تم تنصيبه برعاية الرئيس الفرنسي شارل ديغول وظل حكمه، ثم حكم ابنه مستمراً حتى الانقلاب الأخير. يكفي أن نتذكر أن العلاقات بين فرنسا والغابون كانت وطيدة، لدرجة أن ليبرفيل كانت من أولى المحطات، التي يدشن بها الرؤساء الفرنسيون زياراتهم الخارجية. لأن القضاء في فرنسا «مستقل» فقد سمح في عام 2007 برفع قضية للتحقيق بشأن ثروة وممتلكات عائلة بونغو في فرنسا، وهو التحقيق، الذي ظل مفتوحاً، كغيره، من دون الوصول إلى نتيجة. وفق كل ذلك، فقد كان بقاء حكم الأسرة لفترة أطول صعباً ومحرجاً، وكان لا بد من حدوث انتقال «متحكم فيه». انتقال يمكن له أن يحدث تغييرات ظاهرية، لكن من دون أن يعرض مصالح «الآخر» للخطر، وهو ما يذكّر بأحداث مشابهة حدثت في بلدان كثيرة.
كاتب سوداني