حين كنت في الطريق إلى قرية «القليعة» (تصغير كلمة القلعة) التابعة إقليميا إلى ولاية برج بوعريريج في الجزائر، وتاريخيا إلى بلدتي العريقة زمورة، كنت أستحضر حين المرور بمقبرة القرية قصيدة بول فاليري المقبرة البحرية:
موصدة قدسية غاصة بنار لامادية
قطعة الأرض الموهوبة للضياء
يعجبني هذا المكان المرصود بالمشاعل
والمكون من الذهب والصخر والأشجار الدامسة
والذي فيه الكثير من المرمر يرجف فوق الكثير من الظلال
وهناك يغفو البحر الوفي فوق قبوري.
ولم يكن أمام هذه المقبرة بحر، ولكن تحتها الوادي السحيق تتناثر حوله أشجار الزيتون والتين والسنديان والبلوط، هنا ينام موتى قرية القليعة في سلام ويمرّ الأحياء عليهم مستحضرين حياتهم في هذا المكان الحصين، وكأن المرء ينتظر قيامهم من أجداثهم ليعيشوا حياتهم فكل شيء في القرية مازال في انتظارهم.. منازلهم، دروب قريتهم، زيتونهم..
تمتد من الوادي السحيق تلة تقع عليها القرية، وتحيط بها الجبال إحاطة الهالة بالقمر، تعصمها من كل أذية ومن خطر الغزو، مكان خبأته الطبيعة واكتشفه الإنسان لإنشاء قرية أسطورية لا مثيل لها في كامل المغرب العربي، أو شمال افريقيا، يكاد يستحيل أن تجد بلدة بهذه العراقة التاريخية، والهندسة الأصيلة مازالت محافظة على طابعها المعماري العريق، وتقاوم في عناد وبسالة مكر الزمن وعوادي الأيام. هي مهجورة لأن أهلها بحكم تطور الحياة ومصاعب العيش في هذه القرية، نزحوا إلى المدن، ولكنهم لم يسلموا في بيوتهم فكل واحد يحتفظ «بالمفتاح» رمز العودة ولو في نهاية الأسبوع.
ويحتفظ البيت بتفاصيله التاريخية، ويمنع على أي واحد مهما أوتي من غنى أن يهدم البيت ويبني بيتا حديثا، عليه فقط أن يرممه محتفظا بالطابع المعماري والتاريخي للبيت العتيق، هذا وعي إنساني وحضاري حقيق بالاحترام، في زمن استهوى الناس الجديد، حتى لو كان مخالفا لظروف البيئة وخصائص المكان. بلدة تفتح قلبها لكل زائر بحفاوة، تمنحه لحظات من السكينة الوقار، ترسله عابدا متبتلا في دروبها تشيعه النوافذ المحدقة كعيون متيمة والحيطان الباسطة حفاوتها العريقة لكل زائر ومتيم والدروب التي تصعد أو تنزل، في هذه التلة المفتوحة للسماء، كقبضة اليد في كبرياء وعنفوان، لم تقو الأيام على سحق هذه اليد المحفوفة بأشجار الزيتون والسنديان والبلوط والصمود معا.
الطريق المتعرج المرتفع إلى قرية القليعة هو طريق متعرج إلى سراديب الذاكرة، ينفحه عطر الذكرى وطراوة الحنين وخصوصيات المكان، هذه القرية الساكنة بين قلل الجبال كعش لطائر أسطوري هو الفينيق الأمازيغي العربي، يتأهب للطيران إذا ما داهمه خطر، خوفا من عاديات الأيام ونوائب الحدثان، وويلات الاستعمار الأجنبي، لم يجد غير هذا المكان الجامع بين الوحدة والفرادة، نسك خاص وتوحد فريد لم تقو حضارة العصر على محو هذه الخصوصية، وطمس هذا الألق المعطر بتاريخ المكان وخصوصيات الزمان، هنا على الحدود مع القبائل الصغرى وإلى الشمال من مدينة برج بوعريريج، التي تبعد عن العاصمة الجزائرية بـ220 كلم تقع هذه القرية الأعجوبة، أو الأسطورة، التي تفتح لك قلبها المعطر بالحنين، الحنين إلى البشر الذي سكنوا هنا على مرّ القرون واحتوت جثامينهم المقبرة الموجودة على حافة القرية.تحدق فيك المنازل بقرميدها العربي وحيطانها المصنوعة من الحجر والطين، ونوافذها المتيمة بالشمس والضوء والهواء، وأفنيتها التي تحتضن مرح الصغار وهمة الكبار من نساء ورجال القرية، وهي تعرف أنك غريب مثلما هي غريبة عن القرن الواحد وللعشرين وعمرانه وحضارته. بنوافذها العربية المتخمة حنينا ووحشة إلى ساكنيها إلى ظباها وفتيانها، إلى مرح أطفالها عربد الشوق في أفنية بيوتها، وسكن الصمت الرهيب في دروبها:
مطفأة هي النوافذ الكثار،
وباب جدي موصد وبيته انتظار،
وأطرق الباب فمن يجب، يفتح؟
تجيبني الطفولة، الشباب منذ صار،
تجيبني الجرار جف ماؤها فليس تنضح،
«بويب» غير أنها تذرذر الغبار
تسيرك الدروب إلى الجامع المنتصب كجندي يأخذ عدته من مصاحف القرآن وتلاوة طلبته، فالجامع هو زاوية لتحفيظ القرآن، حين كانت القرية عامرة كان تعليم القرآن فريضة على كل صبي وصبية، فلم يكن في القرية من لا يعرف القراءة حتى في زمن الاستعمار، وكم تحدث الرحالة الأوروبيون الذين مروا بالجزائر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عن استحالة وجود صبي أمي، بسبب انتساب الجميع إلى الكتاتيب لكن الاستعمار دمر كل شيء.ترسلك الدروب إلى العين العمومية، ماء ثجاج يتدفق من عبق القرون وكر الأيام بلا كلل أو شح، كانت القواعد الاجتماعية تمنح النساء الصباح للغسيل، فلم يكن للرجال فرصة التواجد في الصباح وبعد صلاة العصر تمنح الرجال الفترة المسائية، ولا أحد يستطيع انتهاك هذا القانون المقدس، كل الناس تجمعهم رابطة عائلية ومصاهرات فهم يعرفون بعضهم بعضا، ولا أحد إن شاخ أو هرم يلاقي العزلة فالتعاون والتكافل صفة لازمة، والخدمة العمومية كذلك ضرورة فكل حرفي يقدم في الأسبوع خدمة مجانية للقرية والقانون السائد هو قانون «الجماعة» لفض خصام، أو ميراث أو خلاف زوجي، أو عقاب لأحد ارتكب مخالفة، هنا الدولة هي شيوخ القرية وللإمام تعظيم وحرمة، وبهذه الأعراف والقوانين السارية والتكافل الاجتماعي استطاع الناس أن يحيوا حياتهم متغلبين على جبروت الطبيعة والعزلة ووحشة المكان. كثيرا ما كنت أتردد على القليعة نشدانا للراحة والسكينة، وتنسم عطر الذكرى، وأريج التاريخ أغسل نفسي من أكدار المدنية وشوائب القلق الوجودي، أتمثل بشعر السياب وأنا أسير في دروب القرية الخالية من سكانها، مستمعا إلى همس الحيطان ووشوشة النوافذ الصغيرة، وإلى الدروب وهي تصغي إلى خفق النعال، هذه القرية هي امتداد تاريخي وحضاري لبلدة زمورة العريقة،هذه القرية العربية التي تفتح قلبها للعراقة العربية والأصالة الأمازيغية ـ مع أن كل القاطنين فيها قديما عرب – في ود وتآلف ويحتفظ بنيانها بخصوصيات المكان وتقاليد الأسرة العربية وعراقة المكان الأمازيغي وتفاصيل حياته اليومية، فالشكل الهرمي للقرية، حيث تتناثر البيوت بنوافذها التي تطل على الأفنية مرتبة في نظام ليكون المسجد في أعلى نقطة، وهو ما يتيح سماع الأذان أو أي نداء، في زمن سحيق لم تكن هناك كهرباء ولا مكبر صوت، ولا تتلاصق البيوت بل تترك مسافة بين بيت وآخر، وذلك ما يسمى «ذراع الماء» حتى يتم تصريف مياه الأسقف فلا تأتي على البيت في زمن الشتاء والمطر، والسقيف الذي يستقبلك أول ما تلج إلى البيت تتقابل دكتان «صدارتان» للجلوس في زمن الحر، والسدة التي تصمم كغرفة لحفظ الطعام، خاصة الثمار، أي قرية مصممة بناء على خصائص المكان وثقافته ودينه وحاجات الناس، وهذه هي الحضارة القائمة على ابتكار وسائل الإنتاج وأدوات العيش، بدون الاعتماد على الغير. فالتصميم الهندسي لكل بيت يتيح له الاحتفاظ بالآداب المرعية، من حيث عدم اطلاع المارة على أهل البيت، وهم يمارسون أعمالهم المنزلية، فالفناء أو المراح ينحرف بزاوية ما يسمح لأهل البيت الاحتفاظ بخصوصياتهم، ظلت هذه القرية مقاومة على مرّ الزمن لكل عدوان أبية على الضيم عصية على الخسف، من الصعب الذي يقارب المستحيل أن تجد في الجزائر قرية محتفظة بكل عراقتها التاريخية بهذا البناء الحجري والقرميد العربي والدروب المتشابكة كما تتشابك العلائق وتتآلف القلوب، حقول الزيتون المتناثرة على التلال، وأشجار الصنوبر والسنديان تملأ هذه التلال إلى الوادي أسفل القرية، هنا عاش الإنسان تجربة الحياة منعزلا في هذا المكان بعيدا عن سطوة المستعمر، وهرج الحياة، يقولون إن ناسكا فرّ من ضوضاء المدنية وقرر أن يعبد الله وحيدا فعاش في مغارة هناك مازالت إلى اليوم تستقبل الزوار بتاريخها وسكونها وسرها الكبير، واتخذ أعلى نقطة في المكان، وبنى صومعة – وقد عثر أهل القرية على مخطوطة تعود إلى القرن الخامس الهجري – هي اليوم مكان الجامع الباذخ، الذي غدا معلما من معالم القرية، وافتتح في التسعينيات، ثم تتابع الناس زرافات ووحدانا على القرية واستوطنوها طلبا للأمن وفرارا من فتن ملوك المغرب وثورات البربر وظلم الأجنبي، فالعثمانيون كانوا جباة الضرائب أثقلوا كاهل الشعب بالمكوس والإتاوات، لتلبية حاجات جيشهم الانكشاري وبذخ سلاطينهم في الآستانة، ثم الاستعمار الفرنسي الذي لاقى منه الجزائريون أشكال القمع والإرهاب والاستنزاف كافة.
السكون، الدروب الصامتة، المتعرجة، الصاعدة النازلة، النوافذ المترقبة لطارق، لزائر أتعبته الطرق الحديثة والخراسانيات المسلحة، وكل أشكال الطنين الصناعي، لقلب سكنه الحنين لعين تنتظر حبيبا، أو تشيع زائرا، تودع صديقا:
مطفأة هي الشموس فيه والنجوم
الحقب الثلاث منذ خفقت للحياة
في بيت جدي ازدحمن فيه ـ كالغيوم
تختصر البحار في خدودهن والمياه
حين كانت الشمس تنزلق في الأفق الغربي، وترسل أشعتها المتثائبة على القرميد والمنكسرة غنجا ودلالا على سفوح القرية، كنا نستعد لتوديع القرية ومثل البداية كانت المقبرة فرصة أخرى لتأمل الأجداث، وتوديع ساكنيها والتفكير في معضلة الوجود وأنشوطة الحياة، وسر الموت ومعنى الحياة، وعن هؤلاء الموتى الذين لا نعرفهم بأسمائهم ولكننا عرفناهم بنمط حياتهم المتسم بالبساطة والتعاون والصمود، وهي صفات أهلتهم لمجابهة صعاب الحياة ومقاومة مصاعب الطبيعة وسطوة الاستعمار الأجنبي فبنوا هذه القرية وخبأوها بين الجبال حتى تفلت كذلك من سطوة الزمن وقبضته وتظل شاهدة على حياة بشر عاشوا في هذا المكان الساحر والصعب معا.
كاتب جزائري
وفيت وكفيت في مقالك ووصفك لقريتي القليعة فالف شكر واحترام وتقدير لك يا استاذ ابراهيم
أخذتني الحروفُ / و سحرني المَنْظَرُ / و “صدقَ الوصفُ” / قبلَ “أن يُصَادقَ النَّظَرُ” !
و سيصادق بإذنه في أوّل زيارة لجارتي الجزائر. هديّة لن أنسها لك. شكرا جزيلا
اخذتني الى القليعة العتيقة وكاءني امشيي في دروبها دون وعثاء ولا مشقة و لا عناء سفر رغم انف كورونا و الجوية الجزاءرية.
انها فعلا لوحة فنية متحركة عابرة للازمنة و كءاني بي اعيش في القرن الخامس هجري فالعهد العثماني و الفرنسي ثم مرحلة الطفولة اين كانت عامرة باهلها اللذين رحلوا عنها اماجغرافيا او ابديا الى دار الخلد. و تلك اليام نداولها.
مزيدا من التالق سي ابراهيم.