دعوة للتأمل

ما كان ينقص العالم التوقف الإجباري، أن ينكفئ كل على نفسه معيدا النظر عما عميت عنه بصيرته. التشويش الذي تحدثه الحركة الدائمة فجأة توقف، فهل اقتنصنا الفرصة للتأمل؟
ما الذي يعنيه هذا التوقف لي ولك، ولدول الخليج، وللشرق الأوسط، و للعالم أجمع؟
هل يعني أن نعيد حساباتنا في أولوياتنا التنموية؟، هل يعني مزيدا من التعاون بين دول الخليج؟ هل يعني نهاية لحرب اليمن؟ فلربما استنزاف حرب أسعار النفط، والكساد الاقتصادي كفيلان بمحاولة إحياء الحل السياسي، أو حلول تنموية لليمن تختلف عن المساعدات الخليجية السابقة في طريقتها وطرق مراقبتها.
دروس ودروس تفتحت لأعيننا بشكل جبري، وكما هو الحال في كل أزمة فإن طبيعتها المشتركة هو قياس قدراتنا السياسية والاقتصادية والأخلاقية، والاجتماعية، والفكرية على التصدي لها والخروج بأقل الخسائر وبأعظم تعلم. تدور دول الخليج حول نفسها محاولة الخروج من إدمان الريع النفطي عبر إطلاق خطط التنويع الاقتصادي، بينما غفلت أن لب ذلك كله هو فضيلة الاعتماد على النفس. الدول تضعف بضعف قدراتها البشرية لا بضعف إمكاناتها المادية. فاليوم ليست الكمامات وأجهزة التنفس سلعا استراتيجية، انما القدرة على التصنيع من يجعل للدول قوة استراتيجية. القدرة على الزراعة أهم من القدرة على توفر الإمكانيات لتأمين الأمن الغذائي.
رأت دول الخليج إن إمكانيات اطبائها أكبر من قدرات نظامها الصحي. كيف ذلك؟. إذ استثمرت بعض من هذه الدول في تأهيل اطبائها في أفضل الجامعات العالمية إلا أن ذلك لا يكفي لإيجاد منظومة صحية كفؤة. بمعنى ان الاستثمار في تأهيل الأطباء كان أكبر من الاستثمار في النظم الإدارية، مما حد من القدرات الممكنة لهذه الكفاءات طبية كانت او مختبرية. فإذا لم تتمحور خطط الدول حول الإيمان بالقدرات المحلية وتوفير المناخ المناسب للبحث والتطوير ستظل أولويات الدول تتركز على محاولة رفع مستوى الدخل، وليس مستوى الفكر. حين يكون للتعليم قداسته المستحقة، وللمعلم مكانته المبجلة في المجتمع، وتغرس القيم والأخلاق قبل الأحكام الفقهية، وعمق الإيمان قبل المناسك فعندها نكون بدأنا بالسير نحو طريق التقدم. نحن بحاجة الى فسلفة تعليمية جديدة تصنع إنسانا قادرا على مواجهة الحياة، له من القيم، و المعرفة، والمهارات ما يجعله مستعدا وفاعلا.

إذا لم تتمحور خطط الدول حول الإيمان بالقدرات المحلية وتوفير المناخ المناسب للبحث والتطوير ستظل أولويات الدول تتركز على محاولة رفع مستوى الدخل، وليس مستوى الفكر

لا شك أن هناك من سيتعلم الدرس جيدا، ويقوي من نقاط الضعف التي تكشفت له عنوة، كما سيكون هناك من يحاول تجميل الحقائق والعودة الى ما كان فيقول لنفسه ما مررنا به كان استثنائيا ولربما لن يعود. وهناك من يرصد أوجه الخلل ويصحح المسار، كما سيكون هناك من يترصد الأخطاء لمكاسب ومناصب وظيفية. هنا يأتي وعي الشعوب، وحكمة القيادات بالمقدرة على الاعتراف بالقصور، والعمل على التغيير مهما كان مؤلما. كل بلد، وكل قارة اخذت من الدروس الكثير إن أرادت أن تكون أقوى لكن طبيعة هذه الدروس تختلف باختلاف السياق. فالضعف الأوروبي يختلف عن الأمريكي، ويختلف عن الآسيوي، وبطبيعة الحال لدينا نحن في الخليج دروس مختلفة تختلف من دولة الى أخرى وتشترك في كثير منها. الكساد الاقتصادي، والجائحة، واختلاف موازين القوى الكبرى الأطر الثلاثة لخطط التعامل المستقبلية.
من حسنات الأزمات أنها ستجعلنا نعلو بطموحاتنا نحو الطاقة البديلة، والأمن الغذائي، والتصنيع، والبحث والتطوير لتطبيقات الثورة الصناعية الرابعة. الأهم أن يتعدى شبابنا مرحلة استنزاف طاقاتهم في محاولة إثبات الذات الى مرحلة التمكين، وافساح الطريق لهم من قبل جيل يحاول تحقيق مكاسب سياسية بلعبه دور الراعي والوصي مستمرا بالتسلق لتعويض نقصه المعرفي والقيادي حسب ما سمح له السياق الاجتماعي القائم-.
من تعلم الدرس جيدا هذه المرة فلا شك أنه فهم أهمية الحفاظ على البيئة، والمساهمة في تخفيض الاحتباس الحراري. من سيجعل الحفاظ على البيئة اشتراطا أساسيا في خططه التنموية لبلده، لن يكون قد أدى دوره العالمي فحسب انما حقق مقاييس عالية لجودة الحياة. من تعلم الدرس هذه المرة سيعرف أهمية التخطيط العمراني المحاكي للطبيعة لا مدمرا لها تماما كما فعل أجدادنا قبلنا. من تعلم الدرس سيعمل على نموذج تنموي جديد بأولويات مختلفة، فحين توضع الأولويات التنموية الصحيحة يضع المجتمع أولوياته الحياتية بما يصب في الاتجاه العام كنتيجة متتالية تبدأ من الأعلى لتصل للمجتمع. عندها لن نرى الصرف الخيري على دور العبادة أولى من توفير مسكن لمحتاج.
كان شبح نضوب النفط يطاردنا، واليوم أدركنا أن ثروات النفط لن تشتري لنا كمامة. وفي الختام، كل حرب على سعر النفط ونحن أقوى، وكل جائحة ونحن أقرب الى إنسانيتا، وكل كساد ونحن أكثر اعتمادا على أنفسنا.

كاتبة من سلطنة عمان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عثمان سعدي من الجزائر:

    مقال رائع أيتها الكاتبة ، لكن ما يصبو إليه المقال بتحقق كاملا من خلال عمل عربي شامل

  2. يقول خالد مصطفى الجزائر:

    تحليل جيد لكن للأن لا ندري لما مازلنا متخلفين هل هو طبيعة شعوبنا اللتي تتبع غريزتها الفطرية للإستهلاك والتكاثر ففي جامعاتنا الهدف هو الوظيفة والشقة والزواج نفس طموح الحيوانات البرية لايدري أن هذه ليست أهداف بل حقوق فالأستاذ الجامعي هدفه العيش والطالب هدفه التخرج وكسب العيش وبعقلية كهذه لايمكن إنتاج أفراد ترفع تحدي البحث العلمي وتطوير أمتنا هذا الفرد مثلا لايمكن صبرأغوار العلوم الصعبة اللتي هي جوهر التطور شخص كهذا لا يستطيع أن يضيع سنوات من عمره وهويكافح لدراسة الميكانيك الكمي علم العصر اللذي هو مفتاح العلوم والتطور لأنه ببساطة هدفه في الحياة محدد أولا وأول عائق سيغير مساره ,حالة الإحباط شاملة وهي نفسها في كل بلداننا العربية تطل علينا وسائل إعلامنا من هنا وهناك بمخترع أو مكتشف لا ندري لمحاربة الإحباط أو للتفائل وتطل علينا إيران بإخترع لطائرة إيرانية مئة بالمئة وهم لا يعلمون أوربما يعلمون ويكذبون أن أصغر رقاقة الكترونية لكي تصنعها من مواد أولية تجلب من المنجم يلزمك مئات الفزيائيين والمهندسين الإلكترونيين و الاعلام ناهيك عن التقنيين و هذا بشرط أن تكون نخبتك واعية أما إذا كانوا على شاكلة بوناطيرو ,صعب صعب أن نقول كلام عن التطور بدون الإلمام بخفايا الأمور وحقيقتها .

  3. يقول خالد مصطفى الجزائر:

    تتمة: المهم حالة الاحباط هذه مقصودةفهم نصبو علينا حكاما بالقوة إو بصفقات للتحكم في القطيع لأنهم الأن بعقليتهم هم أصحاب الحضارة ولن يسمحوا[إنتقالها مهما كان الهدف يعني نحن ضحايا واقع سلط علينا وكل شئ تقريبا مدروس فالشعب اللذي طباعه لاتحكم إلا بالقيادة والزج سلط عليه ملوك واللذي بطبيعته عنيف وعنيد سلط عليه العسكر يبقى الأمل عندكم في الخليج مع أن الدول صغيرة سكانيا وجغرافيا كقطر والكويت وعمان للنهوض بقفزات صناعية وتكنولوجية لأنهم محظوظون بحكامهم

  4. يقول عيسى ـ تونس:

    نجيّي في الكاتبة العمانية الكريمة هذه الرؤيا التقويمية الثاقبة.

  5. يقول S.S.Abdullah:

    ورد التالي (نحن بحاجة الى فسلفة تعليمية جديدة تصنع إنسانا قادرا على مواجهة الحياة، له من القيم، و المعرفة، والمهارات ما يجعله مستعدا وفاعلا.) تحت عنوان مقالة آن بنت سعيد الكندي في جريدة القدس العربي (دعوة للتأمل) مشاركة منها في عصر كورونا فايروس، بالإضافة إلى تفاصيل أخرى، وضعت فيها، تَصوّر ما، لدول مجلس التعاون في الخليج العربي، والأهم هو لماذا؟!

    من وجهة نظري، إعلان الحصار على قطر يوم 5/6/2017 كان نعمة للجميع، بداية من قطر،

    لأن هذا الإعلان، كان امتحان حقيقي، لقدرات الجميع، في كل مجالات الأمن والإعلام والإقتصاد، في التحضير بشكل عملي، لعصر فايروس كورونا، شاء من شاء وأبى من أبى، سبحان الله،

    أنا بطبيعتي، منطقياً وموضوعياً وبالتالي علمياً ضد مفهوم (فلسفة) في أي شيء إن كان من زاوية الشك لأجل الشك، فأنا أؤمن الذكاء الإنساني أساسه، مفهوم متى يجب أن تشك، ومتى يجب أن تثق، بدون تمييز ذلك،

  6. يقول S.S.Abdullah:

    فأنت (ذكر أو أنثى) ما زلت دلوعة في حضن أمك، لا تستطيع كإنسان وأسرة وشركة، أن تنزل إلى سوق الحياة، فأنت ما زلت غير مؤهل عقلياً وذهنياً لذلك،

    ومن هنا ننطلق إلى ما تحتاجه مناهج التعليم لتكوين إنسان وأسرة وشركة، تستطيع منافسة أي روبوت لتنفيذ أي مقاولة/وظيفة تطرحها الحكومة الرقمية (الإليكترونية) إلى المنافسة على عقود تنفيذها، في عصر أو بعد عصر فيروس كورونا،

    لأن العمل في التعليم وفي الإنتاج وفي التواصل والاتصال عن بُعد وبواسطة الآلة أصبحت جزء من واقع، اليوم وغدا يجب أن نواجهه ونغير أسلوب ثقافتنا على ضوءه.

    طريق الحرير في المقايضة للوصول إلى الدولة الذكية، من الصين، ونحن نعرض مشروع صالح التايواني من تايوان، كمنافس دولي له، وتكوين (أم الشركات) كمنافس محلي لهما، لمن يبحث عن حلول بعد التأمل.??
    ??????

  7. يقول المراقب:

    شكراً للكاتبة مارغريت على هذا المقال الجميل الذي بالفعل يعكس حالة الأمة!

إشترك في قائمتنا البريدية