التوصل إلى الحرية عمليةُ صعبة وشائكة، والانقلاب على القيم والأعراف السائدة مغامرةُ مُكلفة، كما أنَّ السير بعكس التيار التقليدي لا يتجرأُ عليه إلا من أوتي إدراكاً وبصيرة بضرورة الخروج من الأسيجة المُغلقة، ولا يكونُ ذلك إلا إيذاناً بنهاية الوصاية على العقل.
ويُعدُ الفيلسوف الهولندي سبينوزا رائداً في ثورته على التقييدات، التي تحرمُ الروح من فضيلة الحرية، لذا لا أستغراب من انضمام طيف كبير من الفلاسفة إلى ركبه، وحظوته الكبيرة لدى أصحاب العقول النيرة. فالشاعر الألماني غوته ما انفك يحملُ كتاب «الأخلاق» وهو من أكثر مؤلفات سبينوزا صعوبةً، فقد راسلَ أحدَ أصدقائه موضحاً السبب الكامن وراء هذا الاختيار «لكي أجعلَ برهنتي واضحةً وموجزةً، لم أجدْ بداً من عرضها عليكم في الصورة التي يستخدمها الهندسيون». وبدوره أشار فريدريك لونوار إلى ما حدا بسبينوزا لتأليف كتابه بطريقة هندسية، فبرأيه أنَّ الفيلسوف الهولندي كان يؤمنُ على غرار ديكارت بأنَّ بنية العالم رياضية، وأنَّ عرض مشكل ما وحلِّه يكون أكثر استيفاء بقدر ما يكون، في صيغة استدلال هندسي. بدوره وصف جيل دولوز سبينوزا بأنه مفكر مستقل، وقد أعلن حرباً على القيم.
فعلاً ما يلفتُ في شخصية سبينوزا هو رفضه التستر وراء الأقنعة، ولم يقبل بالعرض الذي قدمه رجال الدين في طائفته، وكان يقضي بالتكتم على أفكاره مقابلَ مبالغ مالية طائلة، وبذلك فضّل الفقر على الكذب على حد قوله، وأصبح منبوذا لدى أفراد طائفته، لاسيما بعد إصدار قرار الحِرمان بحقه، وقطع علاقته مع أخيه جبرائيل وأخته ربيكا، غادر محيطه الاجتماعي، وأقام في منزل أستاذه فان دن إن، الذي سيقتل لاحقاً في فرنسا. إذن فإنَّ مساعي سبينوزا لتقويض الأفكار التقليدية بشأن وهم التفوق الطائفي والشعوب المختارة، في عصر مطاردات ومحاكم التفتيش، تضفي أهمية لتجربة حياته وثورته على الأنساق التي تتغذى على الولاء للخرافة والعبودية. وبالتالي تستمدُ فلسفة سبينوزا قيمتها الكبيرة من طاقتها التفكيكية للخطابات المتعصبة، والخروج من نفق التأويلات المكرسة للمرويات الدينية.
الوباء الفكري
ومن المعلوم أنَّ وباء التعصب يطفوُ على مسرح التاريخ مغلفا بأردية الدين، أو القومية أو الطائفية وأياً كان الغطاء الذي يتخذه فإنَّ التعصب ارتداد عن القيم الإنسانية، ويخلفُ خراباً روحياً، وقد تكونُ الفلسفة العقلانية آلية لتعرية الخطابات المسكونة بالنزعة التدميرية، لذلك اختار الروائي الأمريكي إرفين د. يالوم الاشتغال على ظاهرة التعصب، انطلاقاً من معطيات فلسفية في روايته المعنونة بـ«مشكلة سبينوزا» إذ يتابعُ صاحب «عندما بكى نيتشه» رصد التعصب بوجهه الديني والقومي في آن واحد، فكانَ سبينوزا مستهدفاً من طائفته الدينية ومن الأيديولوجية النازية، وهذا ما يؤكدُ فرادته في النهوض الفلسفي ورؤيته المنفتحة. إذ كان مشروعه يقومُ على توطيد مفهوم الإنسانية، وتنحية الانتماءات الفرعية جانباً، حسبما تستشف ذلك من رواية د. يالوم، إذن تنتظمُ الحلقات السردية على مسلكين، الأول يتناولُ حياةَ سبينوزا وأفكاره، إضافة إلى الأحداث التي عاصرها من هجرة اليهود إلى هولندا، واستعادة ما حلَّ بأبناء طائفته في إسبانيا، وطردهم من بلد إلى آخر، حيث راجت شائعة في إنكلترا بأن اليهود يصنعون الخبز من دم الأطفال، وصدرت في إسبانيا قوانين الدم الإيبيرية، التي منعت تبوأ اليهود المتحولين دينيا مناصب مؤثرة ومن المفارقات الغريبة، أن توماس دي توركيمادا المحقق الأول في محاكم التفتيش، أقنع إيزابيلا بأن الوصمة اليهودية تسري في الدم حتى بعد اعتناق أتباعها لأديان أخرى. كان أول ضحايا العنف الديني لأنَّ شكوكا طافت حول جذوره اليهودية، وما انفك العنف يلاحق اليهود إلى أن استقلت أقاليم هولندا الشمالية، والتأم شتات اليهود على هذه الأرض. والغرضُ من الإبانة عن هذه الخلفية التاريخية، هو معرفة الأسباب وراء العنف المُضاد الذي طال المنشقين عن اليهود، وبالطبع كان سبينوزا من بين هؤلاء، ولم يعاقب بالإقصاء وحسب، بل طعنه أحد المتطرفين وكاد أن يودي بحياته.
كذلك دا كوستا، الذي أعلن التمرد على طائفته، وما أنْ شدهُ الحنين إلى حاضنته الاجتماعية حتى تم التنكيل به جسدياً ورمي به على مدخل الكنس وداسَ عليه زوار المعبد. هذا يعني أنَّ التشدد قد تفاقمَ جراءَ الهاجس من وجود أفكار مخالفة للعقيدة اليهودية. بموازاة ذلك يتابعُ الراوي كلي العلم حياةَ شخصية تفصلها الأزمنة عن عهد سبينوزا ولا يكونُ وجودها في سياق الرواية إلا للتأكيد على أنَّ التطرفَ ينشأُ من الأفكار قبل أن يتحول إلى حركةٍ سياسية، أو ظاهرة اجتماعية، فكان الفريد روزنبرغ قد تشربَ من منهل المفكر الإنكليزي هيوستن ستيوارت تشامبرلين صهر الموسيقي الألماني فاغنر، إذ كان مؤلفه «أسس القرن التاسع عشر» بمثابة تميمة لألفريد، ألهمه بنشر كتاب بعنوان «أسطورة القرن العشرين» ومن ثمَّ يجدُ في الزعيم النازي هتلر مثالاً مناسباً لإسباغ الصورة الحية لأفكاره، حيثُ يتعرفُ على صاحب «كفاحي» من خلال ديتريش إيكارت الذي كان محرراً لصحيفة تعبر عن أفكار متطرفة. عليه فإنَّ السؤال الذي يفرض نفسه، هو ما علاقةُ مهندس المحرقة ألفريد روزنبرغ بسبينوزا؟
كذلك دا كوستا، الذي أعلن التمرد على طائفته، وما أنْ شدهُ الحنين إلى حاضنته الاجتماعية حتى تم التنكيل به جسدياً ورمي به على مدخل الكنس وداسَ عليه زوار المعبد.
الصدمة
تظهرُ بوادرُ التطرف لدى روزنبرغ في مرحلة مبكرة، عندما يلقى خطاباً مسكوناً ببذور أفكاره العنصرية، وهو طالب في مدرسة البوليتيكنيوم. وما يثير الريبة لدى إينشتاين أنَّ ألفريد يبدوُ مهتماً أكثر بالفلسفة والأعمال الكلاسيكية أكثر، حسب ما يفهمُ ذلك من ملفه، متسائلاً عن عدم اختياره الدراسة في الجمنازيوم؟ بناءَ على هذا الشعور بالاستغراب لدى كل من إينشتاين وهير شافر يدسُ المؤلفُ بأحجية سبينوزا في حياة ألفريد روزنبرغ، إذ يستجوبُه مدير المدرسة، راصداً آراءه عن اليهود، حيثُ ينفثُ كلام الطالب عن الكراهية الشديدة لهذا العرق الأمر الذي يدفع بالحوار إلى مستوى آخر، ويكون السؤال أكثر تحديداً إذ يستفسرُ هير شافير طالبه عن رأيه بشأن اليهود الذين لا يُنكر دورهم الإيجابي، ولعلَ من أبرزهم هير أبفيلباوم طبيب ألفريد منذ ولادته. وما كان من ألفريد إلا أن يقرَ بوجود اليهود الطيبين، لكن ذلك استثناء برأيه ولا ينقض صحة آرائه، ويدور جزء آخر من الحوار حول المسيح، مع الإشارة إلى ما يقوله تشامبرلين حول هذا الرمز، طبعاً يوافقُ ألفريد أباه الروحي في رأيه بأن المسيحَ رجل أخلاقي وشجاع، غير أنَّ تعاليمه قد تم تهويدها. ولا يكونُ التحولُ في هذا المفصل إلا مع تمرير سؤال عن قدوة ألفريد وما كان من الأخير إلا ويذكر غوته ومن ثمَّ يسمعُ من المقابل أنَّ مؤلف «فاوست» هو من أبرز المُعجبين بسبينوزا وبالطبع أنَّ هذا الموقف يضعُ روزنبرغ أمام تحدٍ، وانطلاقاً من ذلك تتوإلى حركة السرد متناوبةً بين ما يمرُ به سبينوزا وحدوث الشرخ بينه وبين أبناء طائفته من جهة، وتصاعد الفكر النازي من جهة أخرى. وفي هذا الإطار يغطي السرد ارتحال سبينوزا بين المدن الهولندية، منفصلاً عن الحشود، ولم يكن مصدر معيشته سوى ما يكسبه من صقل العدسات. وما يضاعف من منسوب المتعة هو حركة السرد بين زمنين مختلفين، ولا ينفتحُ النصُ على التاريخ إلا بقدر ما يخدم خطابه، وبذلك يتحاشي المؤلف الوقوع في مطب الحشو وتراكمات الأحداث والشخصيات، إذ مع مضي السرد ينسحبُ عدد من الشخصيات، وينفردُ سبينوزا وصديقه فرانكو بالمساحة، وبذلك يكتسبُ العمل مواصفات الرواية الفكرية أكثر، إذ تتسعُ البيئة النصية للحوار حول ما يقع ضمن الاهتمامات الفلسفية، وما يجدرُ بالذكر أنَّ فلسفة سبينوزا مستمدةُ من تجاربه الذاتية، فهو يناقشُ موضوع العاطفة على ضوء طبيعة علاقته بكلارا التي ارتبطت بصديقه المقرب ديرك، فكان سبينوزا قد أدرك بأنَّه لا يمكن أن يصبحَ حراً إذا لم يتبعْ سبيل العقل، موضحاً أنَّ مهمته هي تحويل العقل إلى العاطفة، لأنَّ العاطفة لا تقهرها إلا عاطفة أقوى، وعلى غرار أبيقور، رأى سبينوزا أن الخوف من الموت هو ما يزيدُ من توتر الإنسان، ويعمق أزمته النفسية والعقلية، وقد راق له ما قاله فيلسوف الحديقة عن التناظر بين حالة عدم الكينونة قبل الولادة وحالة الكينونة بعد الموت.
التأمل
العنصر الأساسي في فلسفة سبينوزا هو التأمل في الحياة بصورتها الظاهرية ومن ثمَّ التنقيب عن العوامل المحركة وراء السلوكيات البشرية، وهذا ما يشيرُ إليه إرفين د. يالوم، من خلال مقطع حواري بين سبينوزا وأستاذه فان دن إندن، عندما يسأله الأخير عما يكتبه وهو داخل محله، فيردُ سبينوزا قائلا «ببساطة أكتب ما يجري خارج نافذة متجري» ما يعني أنَّ الفكر الفلسفي يضربُ بجذوره في الواقع الإنساني وهمومه النفسية، لذلك تقعُ على تقاطعات بين الفلسفة والطب النفسي ضمن الرواية، إذ يقولُ فريدريش وهو وجه آخر للروائي مخاطباً ألفريد «أحد الأشياء التي أحبها في الطب النفسي، هو بخلاف أي مجال آخر في الطب، فإنه يقترب كثيرا من الفلسفة» فعلاً أنَّ المؤلفَ يجوس في فلسفة سبينوزا بنفس عملي بعيداً عن التجرد، وما يتوخاه من ذلك هو ربط الأفكار بواقع الحياة، وفهم العقد النفسية التي قد تكلف البشرية عناءً وكارثةً، يشارُ إلى أنَّ الفلسفة حلت محل أريكة الطبيب النفسي، وما يضمهُ هذا النص الروائي في طياته هو بمثابة وصفة سبينوزية لفهم ظاهرة التعصب الديني، والتفوق الطائفي والانسداد اللاهوتي. لهذا لا يصحُ تجاهل براعة صاحب «العلاج بشوبنهاور» في تصميم منجزه الإبداعي وتطويع المعلومات التاريخية لبناء المنحى التحليلي في خطاب الرواية، ومن الطبيعي أن يتمَ تضفير النص، بمقتبسات من كتب سبينوزا، لاسيما كتاب «الأخلاق» و«رسالة في إصلاح العقل».
كاتب عراقي
سبينوزا فيلسوف لم يخف مثلا حصل مع روني ديكارت بل كان يرفض الكذب ومداهنة الكنيسة والحكام…لقد انطلق في تأسيس فلسفته من قوله:راعيت ان الا اسخر من تصرفات البشر وان لا احزن عليها بل ان افهمها…يعني حاول فهم الانفعالات الاساسية للبشر…وقد وضع كتابه علم الاخلاق مؤيدا بالدليل الهندسب نموذج فريدا في عصره كان بعيدا كل البعد عن العواطف والذاتية كتاب يحمل قضايا وبراهين ومسلمات رياضية شكلها جوهر الفلسفة بدا من الله والنفس والانفعالات والتغلب عليها والوصول الى السعادة القصوى المتمثلة في الحب العقلي الالهي…ان كتاب سبينوزا هو كتاب علمي. بامتياز رغم مسائله الفلسفية …كما ان فهمه لله وصفاته ما هو الا صورة عن فهم ابن عربي لله في. قضية الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة…سبينوزا عاش حياة الفقر والظلم لكنه فتح الباب على مصراعيه لكانط وهيجل ونيتشه والفلاسفة الالمان وفتح النار على الفكر السكولائي…كانت حياته ثورة مهدت الطريق للفلسفة العلم في القرون التي بعده.
حبيت ..سلمت يداك