انهمرت دموع ميكي ليفي، رئيس الكنيست الإسرائيلي، في ختام كلمة ألقاها أمام البرلمان الألماني ضمن جلسة خاصة أحيت اليوم الدولي للهولوكوست، وأجهش بالبكاء عندما تلا ترنيمة كاديش الشهيرة واستذكر «ليلة الكريستال»، 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1938، التي شهدت تحطيم نوافذ المتاجر اليهودية وإحراق عشرات المعابد وقتل المئات من اليهود. ثمة ما يدعو إلى البكاء، غنيّ عن القول، وليست الفظائع النازية التي ارتكبها الرايخ الثالث بحقّ اليهود في ألمانيا، أو حيثما امتدّ النفوذ النازي واتسعت احتلالاته، عصية على الإنكار أو التقليل من محتوياتها المأساوية، فحسب؛ بل إنّ وضعها في قلب سياسات الذاكرة، بهدف كشف معطياتها المعروفة مثل تلك الخافية، ليس أقلّ من واجب أخلاقي وتأريخي.
لكنّ تلك السياسات التي تحثّ على استنهاض الذاكرة هي ذاتها التي تُلزم المستحِثّ والمستحَّث، سواء بسواء، على النأي ما أمكن عن تجزئة الكوارث، أو احتكارها، أو إعادة إنتاجها ضمن معادلات انقلاب الضحية إلى جلاد؛ وهذه، على وجه الدقّة، هي حال رئيس الكنيست اليوم/ قائد شرطة القدس المحتلة بالأمس، الذي يصحّ أن تُنسب إليه عشرات ليالي الكريستال، والبلور، والقرميد، إذا وضع المرء جانباً إراقة دماء المقدسيات والمقدسيين. لا أحد من أعضاء البوندستاغ، أياً كانت ألوانه أو انتماءاته السياسية والإيديولوجية، تجاسر على توسيع الذاكرة الهولوكوستية التي خيّمت على المبنى العريق، فذكّر ليفي بأنه صاحب مشروع جدار الفصل الشهير بين السكان العرب واليهود في مدينة القدس المحتلة، المعروف باسم «غلاف أورشليم»؛ أو استذكر، حتى من دون تذكير، أنّ جدران الـ»غيتو» التي أُقيمت هنا وهناك في أوروبا، أعادت إنتاجها المؤسسة الصهيونية عبر جدار الفصل العنصري الشهير، والجدران الأخرى في سائر فلسطين المحتلة.
ولم تغب عن كلمة ليفي اللازمةُ الشهيرة، التي يلجأ إليها كلّ سياسي إسرائيلي عند التطرّق إلى تاريخ ألمانيا النازي، أي توبيخ البرلمان الألماني على وجه التحديد: «هذا مكان وسّعت فيه الإنسانية حدود الشرّ، وهو المكان الذي أصبح فيه فقدان القيم إطاراً ديمقراطياً للاستبداد العنصري والتمييز»، هتف ليفي؛ فهل توفّر من رفع صوتاً فذكّر قائد الشرطة السابق/ رئيس الكنيست الحالي بما اقترف برلمانه هو، بل «ديمقراطية» دولة الاحتلال الإسرائيلي كابراً عن كابر، من جرائم نكراء يحاكي الكثير منها تراث النازية؛ بالحرف والاقتباس والاقتداء، وليس البتة مجازاً؟ المفارقة أن يشفق المرء على أعضاء البوندستاغ من أنماط أخرى من التوبيخ، قد تبدأ من تعامل أقنية «دويتشه فيلا» الإعلامية مع أقنية عربية مثل قناة «رؤيا» الأردنية، وقد لا تنتهي (ولا مبالغة هنا!) بمطالبة الألمان بإنهاء خدمات البثّ باللغة العربية خشية أن تتسلل «سموم العداء للسامية» عبر هذه اللغة…
وحتى لا تبدو فرضيات مثل هذه خارج الحسبان المنطقي، هنا واقعة تخدم جيداً في استيعاب طرائق التنكيل التي تعتمدها الآلة الإسرائيلية، وهي في نهاية المطاف جهاز ضغط متكامل صهيوني؛ اختزالها هو السؤال التالي، الذي يمكن أن يبدو غريباً مستغرباً: ما الذي يضير في قيام الأمّة الألمانية بتكريم ضحاياها (من المدنيين العزّل الأبرياء!) الذين سقطوا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية؟ السؤال الرديف اللاحق هو هذا: أيّ إثم في تأسيس مركز توثيق، ومتحف تاريخي، لحفظ تفاصيل تلك الوقائع الرهيبة، وجعلها في متناول الذاكرة الجَمْعية؟ وأخيراً: ألا يندرج مشروع كهذا في صلب الحقوق الوطنية لأيّ شعب من الشعوب، بل يشكّل جزءاً لا يتجزأ من واجبات الشعوب تجاه تاريخها؟ الإجابات الثلاث يتوجب منطقياً أن تأخذ صيغة الـ»نعم»، إلا عند الجهات الصهيونية، المؤسسات والأفراد على حدّ سواء، إذْ تأخذ صيغة النفي، القاطع والغاضب معاً.
السخط والغضب، ثمّ الاتهام بمعاداة السامية، كانت بعض سمات الحملة الشعواء التي شُنّت، ذات يوم غير بعيد، ضدّ السيدة إريكا شتاينباخ، السياسية الألمانية ورئيسة «رابطة المطرودين» التي تُعنى بشؤون ملايين المطرودين من ديارهم؛ ليس في ألمانيا وحدها، بل في مختلف أرجاء العالم. وليس عسيراً أن يتكهن المرء بأنّ السبب في الغضبة الصهيونية لم يكن سوى الحكاية القديمة إياها: احتكار عقدة الضحية الكونية، والانفراد بها تماماً، وتهميش وتقزيم كلّ وأيّ ضحية أخرى، بل والحطّ من عذاباتها إنْ أمكن. قرأنا، على سبيل المثال، ما كتبه المؤرّخ الإسرائيلي جلعاد مرغاليت: «إنّ هدف الأوساط الألمانية المحافظة هو صياغة يوم ذكرى لإحياء الفترة النازية، لكنها ذكرى متحررة من وجهة النظر الاتهامية للضحية اليهودية والظافرين في الحرب. ورغم أنّ هذا لا يرقى إلى مصافّ إنكار الهولوكوست، إلا أنه بلا ريب يساوي بين الهولوكوست وعمليات الاضطهاد التي تعرّض لها الألمان»!
ومرغاليت هذا (وهو في عداد المؤرّخين المعتدلين!) يختار لمقاله عنواناً مدهشاً هو «ازدياد ‘عذابات’ الألمان»، ويضع كلمة عذابات بين أهلّة، على سبيل التشكيك في صحّة معناها، وربما صحّة وجود عذابات ألمانية في الأساس! والحال أنّ الوقائع التاريخية تقول إنّ الأعداد التالية من المواطنين، ذوي الأصول الألمانية، طُردوا بعد الحرب العالمية الثانية من البلدان التي كانوا يقيمون فيها ويتمتعون بجنسيتها: 2 – 3.5 مليون من بولندا، 2.3 من تشيكوسلوفاكيا، قرابة مليون من الإتحاد السوفييتي، 400 ألف من هنغاريا، 300 ألف من رومانيا، إضافة إلي قرابة مليون من مختلف مناطق أوروبا الشرقية. هذه هي الأعداد في تقديراتها المخفّضة، وأمّا العدد الذي تسوقه رابطة المبعدين فهو 15 مليون ألماني!
ألا يستحقّ هؤلاء الذكرى، كي لا يتحدّث المرء عن التعويضات وردّ الاعتبار، كما هي حال اليهود؟ لا يبدو مرغاليت وكأنه يوافق على هذه البديهة البسيطة، لأنه يرتاب دائماً في نوايا السيدة شتاينباخ، وفي أنها تستهدف إضعاف ذاكرة الهولوكوست أكثر من تقوية ذاكرة الضحية الألمانية؛ وذلك رغم أنّ مشروع مركز مناهضة الطرد يضع اليهود في رأس ضحايا هذه الممارسة اللاإنسانية. جانب آخر من تلك المأساة ذاتها يخصّ القصف الوحشي الذي مارسه الحلفاء ضدّ المدن والبلدات والبنية التحتية الألمانية، وكأنهم كانوا ينزلون العقاب بالشعب الألماني نفسه، بعد انهيار الرايخ الثالث. وهذه معركة ذاكرة لا تنفرد بها «رابطة المبعدين» أو الأوساط المحافظة الألمانية كما زعم مرغاليت، بل انخرط في قلب حملاتها رجال يساريون من أمثال الروئي الكبير وحامل جائزة نوبل غونتر غراس، ورجال ليبراليون من أمثال هانز ديتريش غينشر، أو يورغي فردريش الذي وضع كتاباً مصوّراً عن قصف ألمانيا اعتبر فيه أنه لا يوجد فارق أخلاقي بين ونستون تشرشل وأدولف هتلر!
أهذا تطرّف، وذهاب نحو الأقصى؟ ربما، غير أنّ مشاهد القصف لا تشجع كثيراً على الاعتدال، وهذا التصريح التالي الذي أطلقه تشرشل أمام مجلس العموم البريطاني سنة 1944، لا يترك الكثير من الملامة في زعم إمحاء الفارق الأخلاقي بين هتلر وتشرشل: «الطرد هو المنهج الوحيد الذي سيكون الأكثر جدوى وديمومة. لن يكون هناك امتزاج للسكان يسبّب مشكلات لا تنتهي. سوف نقوم بتكنيسٍ نظيف، ودفعات الترانسفير هذه لا تزعجني أبداً»! وإذْ تباكى ليفي بالأمس حين استذكر «ليلة الكريستال»، فإنّ أبسط مبادئ سياسة الذاكرة استوجبت ردّ دموعه إلى منابع خديعتها الكبرى: أنه، الباكي اليوم، سليل آخر أنظمة الترانسفير والتمييز العنصري والأربارتيد، في طول العالم وعرضه.
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
للأسف اللوبي الصهيوني مسيطر إلى درجة لايستهان بها على السياسة الألمانية، وكل سياسي ألماني يحاول إنتقاد إسرائيل ، يجب أن يأخذ في حسبانه أن ذلك سيؤدي إلى إنهاء مسيرته السياسية، وهذا حصل مع العديد من السياسيين الألمان. مازالت عقدة المحرقة جاسمة على رؤوس الألمان والصهاينة يبرعون في إستغلالها بشكل ممتاز.
شكرًا أخي صبحي حديدي. الألمان لاينقصهم محامين للدفاع عن ضحايا النازية أو ماتبعها من الشعب الألماني. لذلك الأفضل لو ركز المقال على ماجاء في الخاتمة أو ماتفعله الصهيونية في فلسطين وهو برأي الكثيرين من أصحاب الضمير في العالم هي أفعال عنصرية من دولة أبارتهايت وتشابه مافعله النازييون. وكذلك لماذا لايحاول الألمان أيضًا مساعدة إسرائيل في التغلب على عنصريتها! أي بعدم الصمت تجاه أفعال إسرلئيل تجاه الشعب الفلسطيني. فأن نتعلم من التاريخ ليس أقل من ذلك.
“لا أحد من أعضاء البوندستاغ .. تجاسر .. فذكّر ليفي بأنه صاحب مشروع جدار الفصل الشهير ..” لأنه لا إحد يجهل قوة من يمثله ليفي! لولا هذه القوة لاشاد البوندستاغ بمن تعاون من اليهود مع النازية و أكرمهم، كما تصنع جارته الفرنسية مع الحركى الجزائريين!
عالم قر فيه التحاكم الى القوة و ليس المنطق.