محمد العرابييكفي أن يغمضَ الإنسانُ عينَيْه، بعد أن يكون قد تصالح أخيرا مع الواقع، وتحديدا مع واقعه الخاص، لكي تنفتح أمامه أبواب العجائب. تلك هي الوصفة الموضوعة أمام أي منا لكي يصبح حالم كلمات، أي شاعرا. لنتلقف القصة من البداية: يغمض الإنسان عينيه، لينام، وليحلم، وليسبل الروح أي ليموت، ويغمضهما لأن الرؤية تصبح عبئا عليه، أي أنها تؤذيه ولأنه لا يملك الشجاعة على المواجهة، أي عن عجز، وكنوع من التواطؤ، ويغمضهما ليرى ببصيرته. في أغلب الحالات يغمِض الإنسانُ عينيْه ويتعطل عن العمل، فجسده يفقد أهم وظائفه الحيوية ويهمَد. وأنفاسه تنتظم على إيقاع واحد (لنتذكر خط الموت الذي يصبح مستقيما حين يموت الإنسان) وحتى في الأحايين التي يتعالى فيها شخيره فإن شهقاته تقربه من الموت أكثر مما تقربه من الحياة. تفكير الإنسان بدوره يتشوَّش، وتختلط فيه الأزمنة وتتداخل الأمكنة، ويتقدم اللامعنى على المعنى. في حالات أخرى، وهي نادرة، يغمض الإنسان عينيه لتصبح رؤيته أكثر حدة ومضاء، ليرى الأشياء بعين ثالثة. لكن في المقابل، إذ يفتح الإنسان عينيه ماذا يرى؟ نقول فتحت عينيَّ في الصباح، أي استيقظت. وفتحتهما لأضع فيهما الدواء، ولأرى الطريق، ولأظل يقظا، حذرا، متأهبا. وفتحت عيني على واقع مرير، ومن شدة الصدمة، مشدوها. وفتحت عيني على المسألة والقضية، إذا أصبحت على وعي بها. وفتحت عيني على عيوبي، أي أصبحت متبصرا، وذا بصيرة. فتح العينين كإغماضهما ليسا دليلا على الرؤية أو على تعطلها؛ فليس كل إغماض للعينين تعطيلا للرؤيا وللإدراك وللوعي. وليس كل فتح للعينين يجعلهما مقتصرين على وظيفتهما الفيزيائية ‘كعينين شحميتين’ باصطلاح المتصوفة. في مستوى ثان من القصة، ما الذي يعنيه التصالح مع الواقع؟ التصالح يحيل ضمنا على تسوية في وضعية كانت تفترض من قبل وجودَ طرفين، يوجدان في حالة اختلاف/وتنافس/ وتناقض/ لا يهدأ توترهما إلا بسيطرة أحدهما على الآخر وإقصائه/ ونفيه/ وفي أحسن الأحوال يفرض عدم توازنهما وعدم قدرة أحدهما على تحقيق الفوز على الآخر نوعاً من التهدئة المؤقتة القابلة لأن تنقلب في كل لحظة إلى عنف جديد. تصالح الشاعر مع الواقع، والتشديد على واقعه الخاص هنا له دلالة حاسمة، يعني قدرته ككائن على الإنصات إلى ذاته، وكتابة وجوده أي أحاسيسه ومشاعره، بالرغم من أن هذه الكتابة تبدو وكأنها تتم في تعارض مع المجتمع والواقع، لسبب بسيط هو أنها تسعى إلى تحقيق الْمُتَعِ (بمعناها الواسع المتضمنة للمؤلم أيضا) الخاصة بالإنسان والشاعر. ونحن نعلم بأن تحقيق الرغبة وإشباعها أو التعبير عنها هي من الأمور التي يقف المجتمع في وجهها بكل صرامة وقسوة.’دمقْرطَةُ’ الشعر تجلٍّ آخر من تجليات التصالح مع الواقع، حيث أن إلهام الآخرين لاكتشاف الإيقاعات الأساسية للوجود والحياة ودفعهم للانفتاح على أحاسيسهم الخاصة، وليس على أحاسيسَ لا تنبع من ذواتِهم، أهم بكثير من الغناء بأصوات مستعارة (يقول فيلسوف الوجودية إميل سيوران ما معناه، شُعُّوا بضوئكم الخاص حتى وإن تألق بدون توهج كبير)، وهو ما يجعل الشعر في متناول الجميع، وليس لأحدهم فضل على الآخر، كما روَّجَت لذلك الحركة السريالية وقبلَها الحركة الدادائية. وفي هذا المعنى يقول الشاعر الفرنسي لوتريامون: ‘كتابة الشعر ينبغي أن تتم من طرف الجميع، لا من طرف واحد’. في المستوى الثالث تنفتح أبواب العجائب أمام الإنسان الشاعر الذي يغمض عينيه بعد أن يتصالح مع الواقع؟ كيف يكون الإغماض والإغلاق وانكفاء الرؤية شرطا لانفتاح أبواب العجائب؟ وما هو هذا العجيب الذي نبحث عنه في واقع إشكالي يقاس بالمال والمنفعة؟ ولماذا يتحصَّنُ هذا العجيب خلف متاريسَ وأسوارٍ لا تنفتح أبوابُها إلاَّ بمفاتيحَ من نوعٍ خاص؟ هل نُومِئُ هنا إلى طقوسٍ خاصّة؟ هل نقيِّدُ الإنسانَ فيما نحن نسْعى لتحريره؟ أين نجدُ الشعرَ وكيف نتعرَّفُه؟ هل الشعرُ هو نفسه العجيبُ الذي أشرنا إليه؟…أسئلةٌ تتناسل إلى ما لا نهاية. لكن فيم تفيدنا هذه الأسئلة لمقاربة ما نحن بصدده، أي مقاربة الشعر في حياتنا اليومية كأناسٍ عاديِّينَ نَنْخَطِفُ بالشعر ونريدُه أن يكون نَمطَ حياة، نتنفَّسُه كما الهواء، ونشربُه كما الماء، ونضبطُ على أنغامه إيقاعَ حياتنا؟ تفيدنا هذه الأسئلة للاقتراب أكثر من ماهية هذا العجيب، من خلال أكثر الأشياء حميميةً إلى أنفسنا، من خلال الإحساس أو الشعور الذي يبدأ منه الشعر، أي مِما يلامسُ كياننا ويحقِّق رغباتنا الخاصة: من حاجتنا إلى الغناء، من حنينا الجارف إلى الطفولة، من الأمكنة والأزمنة المتصرِّمة، من المرارة التي تخلقُها الكائناتُ التي تموتُ من حولنا، وتموتُ فينا. من الحبِّ الإنسانيِّ والعاطفة التي لا تخبو جُذْوَتُها مع تصرُّم الأيام والليالي والسُّنون. من إيقاع الحياة الصاخب… أشياءُ العالَمِ المحسوسِ، عناصرُه، الماءُ والهواءُ والترابُ والنار؛ تجلياتُ هذه العناصر وصفاتُها: الرياحُ والأمطارُ، السماءُ والبحرُ، الغيمُ والرعدُ، الجبالُ والأنهارُ، المنازلُ والأشجارُ، الجسدُ والقبرُ، المرأةُ والقمرُ، الظلُّ والليلُ، الطبيعةُ والخيالُ، الأمسُ والنهارُ، الأنوثةُ والدموعُ، الولادةُ والألم…هذه الأشياء / الكلمات، بين أخرى طبعا، هي أدوات الشاعر التي بِها يغني وبِها يعمل وبِها يرسم عالمه بعد صهرها بانفعالاته وتَلْفيعِها بأنفاسه ودمائه، بألياف أعصابه وتعرُّجات أحشائه، أي باختصار بأشدِّ أشيائه خصوصيةً، تلك التي تشكِّل، في العمق، الجوهرَ الإنساني .العجيب، إذن، هو هذه الصياغة المتفردة للكلمات وللأشياء وطبعها بمسحة خاصة تقبض على الأساسي في الوجود، مما يعطيها هذه القدرة على الإدهاش المميِّز للشعر. بحسب القدرة على الإدهاش يكون الشعر. ما علاقة الدهشة بالشعر؟ ما الذي يعنيه هذا القول؟ إنه يعني أن رؤية الشاعر للأشياء هي بالأساس رؤيةٌ داخليةٌ. رؤيةٌ بالبصر ولكنها لا تقف عنده بل تتعداه إلى البصيرة، بحيث تصبح الرؤية بالحواس كلها، ولكنها أيضا بما يتجاوز الحواس، بحيث يصبح يرى بالشم، ويتذوق بالألوان، ويسمع باللمس، بل ويحدس بهم جميعا، في خلخلة للحواس، كما يسميها رامبو في ‘رسائل الرائي’: ‘إن الأهم هو الوصول إلى المجهول من خلال خلخلة تطال كل الحواس’، أو في نوع من ‘التجاوب’ بين هذه الحواس كما أسماها بودلير في قصيدته الشهيرةCorrespondances ، ‘أسمع موسيقى وأرى تشابها وارتباطا وثيقا ما بين الألوان والأصوات والعطور، ويخيَّل إِلَيّ أن كل هذه الأشياء وليدة شعاع واحد من الضياء، ينبغي أن تجتمع في نشيد عجيب’. وبذلك نكون في حضرة الشعر، وفي حضرة الشعر فقط. يعني أيضا أنه بمجرد الكفِّ عن النظر إلى العالم من زاوية المألوف والمبتذل، من خلال تجاوز سطح الأشياء ومظاهرِها: أحجامِها وألوانِها، حرفيَّتِها ونفعيَتِها، والكفِّ عن النظر إليها بمنطق الصراع والإخضاع، أي بمنطق السيطرة على الطبيعة من خلال عقْلنَتِها وتوجيهها، ودرْءِ المخاطر بالحفاظ على النفس، أي بالخضوع على وجه الإجمال لما يفرضه منطق التقنية بالمفهوم الهايدغري… بمجرد أن نكفَّ عن النظر إلى الشجرة باعتبارها شجرةَ الخارج بل باعتبارها شجرةَ الداخل المزدهرةِ باخضرارها فينا المتفانيةِ أغصانُها لوقايتنا من لفح الهاجرة، السخيةِ بأزهارِها لتُعطِّرَ دماءَنا، بمجرد أن نغمض أعيننا في نوع من حلم اليقظة حتى نرى أنفسنا بإزاء عالم جديد، عالم نندهش من رؤيته وكأننا نراه للمرة الأولى، عالم طفولي بامتياز، لا يكاد ينتهي من دهشته حين ملاقاته للأشياء وملامسته للواقع، حتى تعود الدهشة لتأخذه من جديد لفضاء أرْحَبَ، وتغمرَه بحبٍّ جديد. هذه الدهشةُ أليست هيَ دهشَةُ الشعر هذا العجيبُ الذي تَنْفتِحُ أبوابُه في أَكْثَر الأشياءِ قرْباً منَّا، تلكَ الأشياءُ المنتميةُ إلى واقعنا، هذا الذي منْ شِدَّةِ وُضوحِه وبَداهَتِه يُخْفي عنَّا وُجوهَهُ الأكثرُ حميميةً. هذهِ الوجوهُ التي يقتَضي الوصولُ إليها الكَفُّ عنِ النَّظر إليها منْ زاويةِ المألوفِ والمُبتذَل، بأن ننظرَ إليها منْ زاويةِ الدَّاخلِ بإِغْماضِ أَعْيُنِنَا، بنوع من المصادرة … شاعر ومترجم من المغربqadqpt