نظر تيري أيغلتون إلى التقاليد بوصفها مجازا يقبل التغير والتبدل، ومن ثم يكون المعتمد الأدبي Literary Canon هو البديل، ويبدأ عمليا بشكسبير ونظريا بمدرسة الشكلانيين الروس. غير أن ذلك يتنافى مع مفهوم(التقليد الأدبي) بوصفه مجموعة كتابات أصلية، ولها تاريخ لا يمكن تجاهله، وهي ذات صيغ راسخة ولها قيمتها وغير مشكوك في صحة نسبتها إلى مؤلفيها. ولو كانت كتابة الأدب تتغير وليس فيها ما هو راسخ، فلماذا إذن خص أيغلتون سرد (السيجا saga) بالذكر وحدد تاريخه بالقرن الثاني عشر الميلادي، وعرَّفه بأنه نوع من السرد النثري الأسكتلندي الاسكندنافي القروسطي، ويدور حول بطل مشهور أو عائلة أو ملك له مأثرة؟ والجواب واضح، لأن هذا السرد ينتسب إلى المنظومة الغربية ثقافيا وتاريخيا وجغرافيا.
إن الدواعي السياسية والعرقية وأغراض أخرى كثيرة هي التي تفرض على المنظرين الغربيين التعامل مع مفهوم التقليد بعيدا عن التاريخ، خشية أن يؤدي إلى كشف ما في آداب الأمم الأخرى من مرويات تراثية فيها السبق لحضارات شرقية. وهو أمر لا يتناسب مع ما تريده المنظومة الثقافية الغربية، من حصر لنطاق الهيمنة في العنصر الأوروبي وعالمه الاستعماري، الذي طمس قرونا من التأثير العربي الإسلامي في أوروبا، فغدت التبعية سيفا مسلطا على كثيرين، يوجب عليهم أن يغضوا من قدرهم، ويغبنوا ما في تراثهم من غنى أدبي. في الوقت الذي فيه نجد عددا من الأدباء والمفكرين الغربيين من الذين درسوا الثقافة الإسلامية، يشعرون بفداحة الظلم الذي وقع على الحضارة العربية، فهذا الكاتب خوسيه ماري خيرونيلا أصدر كتابا عن الإسلام، وتحدث في مقابلة تلفزيونية قائلا: «لقد علمونا منذ الصغر في المدارس أن جذورنا الثقافية تعود إلى الرومان واللاتين فقط، لكننا لم ندرك أن هناك جذرا يعود إلى الثقافة الإسلامية، إلا بعد أن كبرنا وتعمقنا في البحث وفي لغتنا الإسبانية نفسها آلاف الكلمات من أصل عربي» (قراءات في أدب إسبانيا وأمريكا اللاتينية).
وقد أدرك السير فرانك كيرمود (1919ـ 2010) أهمية التقاليد وخطرها، فدعا إلى تقويض مقومات استمرارها، ولا يحتاج كيرمود أن يحدد طرائق تفكيك التقاليد وهدمها، لأن هذا أمر تكفل به الحاضن الغربي الحداثي وما بعد الحداثي الذي لا يكاد يبرأ من العقدة الاستشراقية التي تتذمر من كل ما يمت بصلة لحضارات الشرق ويتحسس من أنظمته الثقافية تحسسا كبيرا. ولأن مفهوم التقليد الأدبي يرادف المعتمد الأدبي literary canonالذي صاغه المنظرون الغربيون، ليكون خاصا بأدبهم ونقدهم، ولأن هذا الترادف يعقد الدلالة، يغدو مهما تداول مفهوم التقليد بديلا عن المعتمد الأدبي على صعيد نقدنا العربي وبالمستويات الثلاثة للتداول وهي: الممارسة – التنظير – الترجمة. أما الدواعي فهي كالاتي:
أولا: أن التقليد الأدبي مجموعة نصوص محددة لمجموعة مؤلفين وبأنواع كتابية معروفة ومراحل تاريخية معلومة. ومن ثم لا ينحصر التقليد في مجموعة نصوص يكتبها بيض أوروبيون أرستقراطيون وبورجوازيون ولا يتحدد بنطاق عملي يختص بسياق تعليمي، أو دراسي أدبي في جامعات ومدارس غربية، بل التقليد يقع في صلب العملية الإبداعية، وهو جزء من فاعلية أي كاتب أو أديب في أي مكان في العالم.
ثانيا: دينامية التقليد الأدبي تجعله غير مخصوص بفئة عمرية معينة ولا محصورا في صنف إبداعي واحد، بل هو يشمل الفئات العمرية كلها ويتجسد في مختلف صنوف الكتابة الإبداعية.
ثالثا: إن الرسوخ الذي هو سمة التقليد الأدبي يجعل النصوص الأساسية المتفق على جودتها وعالميتها، شاملة الكلاسيكي وغير الكلاسيكي، القديم والمعاصر، الغابر والراهن.
رابعا: إن التقليد الأدبي يقوم على المعيارية التي تترشح من مجموع النصوص التي تملك الأصالة المختبَرة فاعليتها عبر التاريخ وعبر الجغرافيات، وليس مجرد عملية انتقاء نصوص معينة ضمن مراحل تاريخية وجغرافية محددة.
خامسا: خصوصية التقليد الأدبي هي التي تجعله عالميا، لا يتقوقع في جغرافية، أو قومية، أو لغة، أو معتقد، ومن ثم لا شرعية لأي تقليد لم يتجاوز نطاقه المحلي ولا ترك أثرا خارج محيطه الإقليمي.
سادسا: إن التقليد الأدبي يملك جواز مروره من تلقاء ذاته، فيعبر القارات والثقافات دون معوقات، أو مهددات تقتلع جذوره، أو تشوه جوهره. وقد أكد تفاعل الأدب مع التكنولوجيا الحديثة هذه الحقيقة، فالتقليد الأدبي شاخص وملحوظ، وهو ما فطنت إليه دراسات الأقلمة، فاكتشفت من ثم هفوات التناص وموت المؤلف.
سابعا: إن مفهوم التقليد الأدبي يختلف تماما عن مفهوم «التناص» الذي يعني مجموعة العلاقات النصية التي يقيمها النص مع نصوص أخرى وبلا آباء مؤلفين. فالتقليد يتعدى النص إلى عمق الفاعلية الإبداعية، حيث الجذور الثقافية تتمثل في النصوص الأصلية، كما أن التقليد ليس تقانة كالمحاكاة الساخرة، أو الرمز، بل هو فاعلية ممتدة ومتحصلة كمستويات وخلفيات وتصورات أنتجها مؤلفون معلومون أو مجهولون.
ثامنا: إن للتقليد الأدبي قيمة اعتبارية إلى جانب قيمته الأدبية لكونه ناقلا للإرث الشفاهي والكتابي، ومحافظا عليه عبر الأجيال. فالتقليد خزين لأمهات الكتب وعبره تستمر الآداب في قوتها.
تاسعا: إن استمرار التقليد الأدبي منتقلا عبر الأجيال، يؤكد جودته العالمية واختلافيته الثقافية معا، وهذه السمة الأخيرة فيها تتجلى خصوصية الهوية.
عاشرا: إن التقليد الأدبي يستجيب له الأدباء وتكترث له النظرية الأدبية ويهتم به النقاد، وهو ما يعطيه سمة جماعية كقيمة إنسانية مشتركة وتراث غابر يحفل بالغنى ومؤهل للاتباع ومحفز على المعاصرة وتطوير الكفاءة في ابتكار الجديد من التقليد الأدبي. وهو أمر يتوقف على مدى الوعي الفردي والجمعي بالإرث التاريخي والفكر الإنساني.
حادي عشر: أحد التحديات التي تواجه مفهوم التقليد الادبي تأتي من (الأفكار المتنازع عليها حول طبيعة الأدب نفسه، التي نشأت مع بداية ستينيات القرن الماضي والمشككة بفكرة أن المؤلف هو منتج النص وأن للتقليد سلطة موضوعية وتاريخية بأعمال مؤلفين سابقين ضمن سياقات ثقافية وتاريخية معينة).
ثاني عشر: لا مجال لإلغاء التقليد الأدبي، أو إزالته فهو مرجعية، وفاعليتها تتجلى بطريقتين، الأولى اتباعية بالسير على المنوال، والأخرى ابتكارية بالتطوير والإضافة. وبهاتين الطريقتين يبقى التقليد محصنا في جوهر خصوصيته وفاعلية عالميته.
لهذه الأسباب وغيرها يصبح مفهوم التقليد ذا دلالات وعناصر شمولية أكثر مما تعنيه مفردة المعتمد، بوصف التقليد نهجا ترسخ أدبيا فصار جزءا من أي نظرية تريد تفسير الأدب وفهم فاعليته الإبداعية شكليا وموضوعيا. فلا تستبعد المؤلف ولا تهمل السياق التاريخي أو الثقافي مع الاعتراف أيضا بالقارئ وأهمية استجاباته الجمالية ودوره في فهم وتأويل الأدب دون تعصب لثقافة أو انحياز إلى لغة.
وانطلاقا من المنظورات الأربعة أعلاه وطريقة تأويلها للتقاليد وعلاقتها بالأصول أو القواعد، يكون مهما في دراسات الأقلمة السردية إيلاء التقاليد السردية اهتماما بوصفها الطريق إلى نظرية سردية عربية، فيها تتأكد حقيقة النظام السردي القديم بكل ما فيه من ملكيات فكرية.
كاتبة عراقية