دول قوية تتلاعب بدول صغيرة متنازعة

حجم الخط
0

كنا دائما في المدرسة ننتظر بشغف حصة الرياضة، وما أن تأتي الحصة التي تكون في الأغلب ساعة كاملة نقضيها نلعب الكرة، بينما يختفي استاذ الرياضة، لا ندري اين، ما أن تأتي حتى نشرع في تقسيم أنفسنا إلى فرق ثلاث تتابع على اللعب حتى النهاية، غالبا ما كنا نسمي فرقنا بأسماء مألوفة لنا نلتقطها من مواضعنا في الصف أو من أبطال الأفلام الكرتونية.. إلخ.
كذلك كنا في الحصة الدراسية نقسم الفصل إلى أقسام، قسم المتفوقين، وقسم المتطفلين وقسم الزعران اللاهين، وغالبا ما كان في تلك القسمة علة النزاع بين المنقسمين، ولم يكن يخفى ما كان بيننا وبين الفصول والشعب الأخرى من تنافس وتوتر في العلاقات مبني فقط على تلك القسمة الإدارية.
الحق أنه لا يمكن حصر التصنيفات التي تلحقنا في هذه الحياة، فمن القسمة بناء على العمر والتخصص والوظيفة والهواية والانجازات والاهتمام … إلى ما لا نهاية له من تقسيمات، كل ذلك طبيعي لتسير الحياة بيسر وسهولة، لكن الخطورة تكمن في أننا لا نتعامل مع هذه التصنيفات على انها مجرد تصنيفات إدارية، ففي تكويننا النفسي ما هو غريب ومعقد وخطر… خطر جدا.
إن لهذه التصنيفات الاعتبارية طابعا مؤقتا وثانويا، بالنظر إلى هوياتنا الأساسية المبنية على العرق والدين، لكن هذه التصنيفات لها نفس الأثر، حين تخلق في أذهاننا هويات نجتمع عليها مع من ينضوي معنا تحتها، لتتشكل هوية جمعية مؤقتة نسميها نحن المجموعة أو الهيئة أو المؤسسة.. إلخ، مكمن الخطر أن هذه الهويات الجمعية تتخذ طابعا صراعيا حين الاحتكاك مع الهويات الأخرى المقابلة لها، وهو ما توضحه الدراسات الاجتماعية منزعا طبيعيا مغروسا في جنس الإنسان، والسؤال المهم الذي عليه مدار اهتمامنا، ماذا لو تم استغلال هذه التحيزات الجمعية المؤقتة للهويات المتقابلة لإذكاء صراعات عنيفة يمكن أن تصل إلى مراحل دموية، هل هذا ممكن؟ وما تبعاته وآثاره وهل يمكن العودة إلى السلام بسهولة.. وكيف؟ إن تم إثبات امكانية تولد الصراعات والتعصبات بناء على هذه الهويات الثانوية المؤقتة، فإن الحال أشد خطورة مع الهويات الأساسية، لذا كان هذا المبحث مهما جدا على المستوى السياسي والاجتماعي.
تجربة ‘كهف روبر’ في أوكلاهوما، التي أقيمت في الستينيات من أشهر التجارب التي بحثت في هذه الظاهرة، مظفر شريف وزملاؤه من العلماء كانوا على موعد مع تجربة ستستغرق أسابيع من الدراسة الجادة ومن التحكم الدقيق في مسارها، اثنان وعشرون طفلا بعمر 11 سنة يتم تقسيمهم عشوائيا إلى مجموعتين، تنقل كل مجموعة بباص منفصل إلى حديقة ‘كهف روبر’ في أوكلاهوما، في رحلة تخييم المظنون أنها مرحة سعيدة، لا تعلم كل مجموعة عن وجود المجموعة الأخرى، ولكل منها مكان إقامة معزول يتيح لأفرادها الاتصال مع بعضهم البعض بهدف بناء الهوية تدريجيا، سرعان ما ألقت كل مجموعة على نفسها اسما محددا وصنعت لنفسها رمزا وشح به أفرادها قمصانهم وأعلامهم. مجموعة ‘الصقور’ في مقابل مجموعة ‘الثعابين’، كانت هذه هي المرحلة الأولى، المرحلة الثانية هي افتعال الاحتكاك بين المجموعتين، الغريب أن بوادر الصراع نشأت مبكرة بمجرد معرفة كل مجموعة بوجود الأخرى، كان الصراع في صورة إهانات وشتائم، ما لبث أن رفعه أصحاب التجربة إلى مستويات أعلى، بتنــــظيم مباريات تنافسية بين المجموعتين، فاز فريق الثعابين بالنتيجــــة النهائية وعبروا عن فوزهم بشتائم واهانات للفريق الآخر وأغان ابتدعوها ذات طابع صراعي واضح، ولم ينس فريق الثعابين أن يغرس رايته في أرض الملعب ليثبــــت فوزه أمام أنظار الفريق الآخر. كان من الطبيعي بعدها أن يرفض الفريقان أن يجتمعا على موائد الطعام أو في وقت مشاهدة الأفلام، المطلوب الآن إعادة الصلح بين الفريقين لتتم بذلك مراحل التجربة الثلاث بنجاح، وقد حصل ذلك بوسائل تجمع الفريقين على أهداف مشتركة، مثل تصليح خزانات المياه، أو العثور على مصادر مياه أخرى، وقد نجحت هذه الوسائل في جمع الفريقين مع بعضهما ثانية ليعودا من الرحلة في باص واحد.
بعد أن أقيمت هذه التجربة لاقت أصداء واسعة في أوساط العلماء وظهرت بعدها بسنين كتب تشرحها وتحاول تفسير نتيجتها ووضعها في سياقات مجتمعية وسياسية، وغفل أغلب الذين تناولوا هذه التجربة بالبحث والدراسة أن النتيجة المذكورة كانت هي النتيجة الإيجابية التي سبقتها نتيجتان كارثيتان في نفس التجربة، هناك عنصر غفل عنه الجميع في هذه التجربة وتداركته عقول العلماء بعد الاطلاع ثانية على التجربة، لم ينتبه الباحثون في شرحهم للنتيجة وتعميمها إلى وجود المجموعة الثالثة ‘المختبرون’ كعنصر اساسي في هذه اللعبة، ألا يكون من الممكن أن يدرك الطرفان المتنازعان في لحظة من اللحظات أنه تم التلاعب بهما من قبل طرف ثالث؟ في الحقيقة هذا ما حصل في التجربة التي سبقت هذه التجربة المذكورة، فقد انقلبت المجموعتان على المختبرين بعد أن أدركتا أنه تم التلاعب بهما.
وعليه نبني نحن أملا نرصد به الواقع العربي على المستوى السياسي الراهن، هناك إمكانية تبدل موازين القوى حين تحاول دولة قوية أن تتلاعب بدول صغيرة متنازعة، هناك احتمالية لا يجب أن تغفل، إنها احتمالية انقلاب المعادلة ضد القوة المسيطرة تكون سبب فنائها والقضاء عليها.
تجربة شريف تمنحنا كــــدول يتم التـــلاعب بها على أساس طائفي وجهوي إمكانية أن نلغي أسباب النزاع الكامنة، وهي تعطينا الأمل في أنه يمكننا أن نغير قواعد اللعبة الآن لتنقلب الحيلة على المحتال، ولتكون هذه هي خطتنا للخروج من شبح حرب طائفية يلوح في الأفق وربما تكون خطوتنا الأولى نحو أن نصبح قوة لا يمكن التلاعب بها.
‘ بحث في نتائج تجربة ‘كهف روبر’ التي أجريت عام 1961

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية