«دومري» شارلز دكنز

حجم الخط
1

زائر «متحف شارلز دكنز»، حضورياً في لندن إذا أسعفته فرصة سانحة أو عبر موقع المتحف على الإنترنت، لن يفوته جانب واحد خاصّ، بين عشرات الجوانب الأخرى التي تغطي حياة أحد كبار روائيي بريطانيا والعالم، والأعظم غالباً خلال الحقبة الفكتورية: الاهتمام (الذي يقترب أحياناً من حوافّ الهوس، في معانية الإيجابية والفاعلة) بآلاف الرسائل التي كتبها دكنز (1812-1870)، أو كُتبت إليه؛ وذلك رغم أنه يتوفر، حتى الساعة على الأقلّ، 12 مجلداً لرسائله والمختارات منها صدرت سنة 2012، وضمّت 450 رسالة من أصل 14,000! ثمة، بالطبع، مسوغات وجيهة تفسّر الاهتمام بهذا الجانب تحديداً، لعلّ في راسها حقيقة أنّ دكنز لم يكن روائياً فريداً وقاصاً استثنائياً وسارداً ماهراً، فحسب؛ بل كان، إلى هذا كلّه وفي خضمّ معادلاته، شاهداً على عصره لجهة التقاط العذاب الإنساني والفقر والبؤس والكدح، واحتلّ موقع الناقد الاجتماعي ثاقب النظرة ويقظ الضمير حتى ساعة رحيله، مبكراً ومأسوفاً عليه في دوائر اجتماعية عريضة عابرة للأدب.

لم يكن دكنز روائياً فريداً وقاصاً استثنائياً وسارداً ماهراً، فحسب؛ بل كان أيضاً شاهداً على عصره لجهة التقاط العذاب الإنساني والفقر والبؤس والكدح، واحتلال موقع الناقد الاجتماعي ثاقب النظرة ويقظ الضمير

قبل أسابيع قليلة أعلن المتحف حيازة 11 رسالة جديدة، حصل عليها من جامع آثار أمريكي، تكشف كالعادة تفاصيل غير معروفة سابقاً عن حياة دكنز؛ بينها وصف لرحلة إلى أمريكا، وأخرى إلى سويسرا، فضلاً عن آراء في الطعام والنبيذ وعادات الشعوب خارج بريطانيا. وقبل أشهر كان المتحف ذاته قد اشترى من مجموعة خاصة أمريكية مقتنيات إضافية، ضمّت 300 قطعة، بينها 144 رسالة بخطّ اليد أيضاً، وأغراض شخصية، وأعمال لعدد من أشهر الرسامين الذين صوّروا مؤلفات دكنز. وهي، كالعادة، موادّ تسلط أضواء جديدة على قضايا كانت خافية أو ليست مستكشَفة تماماً، مثل عقود العمل والحالة الذهنية والمشاكل العائلية، وما إلى ذلك. وهذه، للعلم، حيازات ليست البتة عادية الأثمان، إذْ بلغت كلفة التشكيلة 1,22 مليون جنيه إسترليني قدّمها صندوق التراث الوطني، مع مساهمة من أصدقاء صندوق الفنون وصلت إلى 1,8 مليون استرليني!
صحيح أنّ هذا الطراز من التكريم صائب وحميد ومطلوب من الأمم في تخليد رجالاتها، وأنه في واقع الأمر لا يقتصر على الحكومات والسلطات الرسمية بل تلعب مؤسسات المجتمع المدني دوراً محورياً وحاسماً في إطلاقه والحفاظ عليه؛ إلا أنّ هذه المقاصد النبيلة لا تطمس عدداً من المفارقات التي تكتنف سيرورات التكريم، هنا وهناك، سيما حين يتصل الأمر بشخصية متواضعة المنبت والعيش والثروة، رفضت خلال وجودها على قيد الحياة أيّ غلوّ في الاحتفاء، مثل دكنز على وجه التحديد. معروف، في بُعد أوّل، أنه أوصى بأن يُدفن في مقبرة متواضعة وبأبخس كلفة ممكنة (ولكنّ مقامه اليوم في «ركن الشعراء»، دير وستمنستر الشهير، إلى جوار عظماء بريطانيا)؛ وأنه أشرف بنفسه على إحراق آلاف الرسائل الخاصة (لكن هواة التحف يتسابقون اليوم على شرائها فتُباع بالملايين).
وبين عشرات المزايا التي تحتفي بها هذه السطور في شخص دكنز الأديب، والناقد الاجتماعي، والشاهد على العصر، والمقيم في ذاكرات إنسانية شتى على امتداد الشعوب والثقافات والقارّات؛ ثمة جانب متميز تماماً، أقرب إلى خدمة علم اجتماع الأدب منه إلى تظهير فنون الرواية والقصة القصيرة، وهو إصرار دكنز على التوجّه نحو القارئ العريض عبر نشر أعماله متسلسلة في الصحف والدوريات، خاصة تلك التي في متناول الجمهور وليس النخبة وعلية القوم. وتاريخ هذا الخيار بالذات يحفظ له خطبة شهيرة، نوعية وفارقة وغير مسبوقة، تمتدح مستقبِل الأدب المتحرر من سطوة مؤسسات استثمار الأدب وما تشيعه من ثنائية بغيضة بين «أدب رفيع» وآخر «وضيع».
ففي مطع العام 1853 احتشد في إحدى قاعات مدينة برمنغهام البريطانية جَمْعٌ من خيرة المواطنين القرّاء، وذلك لتكريم دكنز، الذي ألقى كلمة قال في مطلعها: «بفضل هذه المجموعة المنظمة من الناس، الذين كان كدّهم ومثابرتهم وذكاؤهم وراء نهوض أماكن مزدهرة مثل برمنغهام وسواها؛ وبفضل مركز الدعم الكبير هذا، والتجربة المتفهمة، والقلب النابض؛ بفضلكم أفلت الأدب ــ سعيداً ــ من أيدي الرُعاة الأفراد، الكرماء تارة والبخلاء معظم الأوقات والقلّة على الدوام، وعثر عندكم على ضالته العظمى، ونطاق عمله الطبيعي، ومثوبته الأفضل». وتلك حقبة شهدت محاولات حثيثة من «الرعاة» أولئك لاستدراج دكنز نحو أنماط الأدب التي تخدم استثماراتهم، فلم يتعثروا أو يفشلوا فقط، بل حدث أنهم حرضوا الأديب الكبير على الذهاب أعمق نحو الطبقات الشعبية ونماذج البؤس الممتزج بالكرامة، وشقاء طفولة ترسم مع ذلك أبهى معالم الثراء الداخلي.
وهكذا، على سبيل سرد أحدوثة واحدة، كان مسرح شهير في العاصمة قد رفض أحد نصوص دكنز (وكان في عزّ أمجاده يومذاك، صاحب الروايات والقصص القصيرة التي خُلّدت في زمانها وتُخلّد اليوم في كلّ الأزمنة)؛ فسارع إلى إعادة كتابته ولكن على شكل قصيدة موزونة مقفاة هذه المرّة، حملت عنوان «الدومري» (إذا جازت ترجمة الأصل الإنكليزي Lamplighter)، وكان شيوعها على صعيد نقد الأحوال الاجتماعية أعظم تأثيراً من عرضها على أفخم مسارح لندن. وزائر متحف دكنز لن يضلّ طريقه إلى قاعات متنوعة، تُشعل العديد من قناديل الدومري المستبعَد إياه، وتعيد إحياء أدب لم يكن البتة وضيعاً، بل كان ويظلّ الأرفع.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أحمـد عزيـز الحسيـن- ناقد سوري:

    مقال متميز عن أيقونة عالمية جديرة بالاحتفاء.

إشترك في قائمتنا البريدية