«دون كيخوته دي لا مانتشا»… توثيق لسيرة ثربانتس وعصره

محمد عبد الرحيم
حجم الخط
0

القاهرة ـ «القدس العربي»: «لتعلم أنه بإرادة الله ولدتُ في هذا العصر الحديدي لأبعث العصر الذهبي… إنني جئت للمخاطر والأعمال البطولية العظيمة». (دون كيخوته)
«ما دمنا لا يرانا أحد، فلن يصفنا إنسان بأننا جبناء». (سانتشو بانثا)

منذ أن كتب «ميغيل دي ثربانتس سابيدرا» (29 سبتمبر/أيلول 1547 ــ 22 أبريل/نيسان 1616) روايته «دون كيخوته دي لا مانتشا» بجزئيها في 1605 و1615، أصبحت هناك أسس وقواعد لفن الرواية، بعيداً عن فن المسرح أو أدب الرحلات وتدوين وتوثيق المشاهدات للأماكن والمجتمعات المختلفة. ومنذ كتابة الرواية لم تتوقف الشروحات والتفسيرات النقدية والتحليلية لعالمها وصاحبها وزمنه. ولكن التساؤل هنا يدور حول كتابة الرواية نفسها، وهل هي فقط عبارة عن موقف اتخذه ثربانتس من عصره، وعبّر عنه وفق خياله الروائي، خاصة بعد تجاربه المسرحية ـ نظرياً وعملياً ـ أم أن هناك سياقا اجتماعيا ومواقف عديدة من سيرته الذاتية التي ضمّنها الرواية؟ وهنا تجب الإشارة إلى تهافت فكرة فصل النص الأدبي عن سياقه الاجتماعي أو حياة مؤلفه، هذه الفكرة التي طالما نادى بها مستوردو موضات النظريات الأدبية، بعد وصولها في ترجمات أغلبها ركيكة، ومحاولة الدعاية لها، ناسين أنه حتى تلك النظريات ـ التي أصبحت تُقابَل الآن بالتأسي وبعض من سخرية ـ هي نفسها نتاج سياق اجتماعي، لم تكن لتظهر سوى من خلاله.
هنا بعض ملاحظات على رواية ثربانتس وحياته، ربما لتوضيح أن أول عمل أدبي أرسى قواعد الرواية الحديثة لم يكن بعيداً عن سياقي الذاتي والاجتماعي. اعتمد الموضوع على كتاب «دون كيشوت بين الوهم والحقيقة» لمؤلفه غبريال وهبة، والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 2007، ومقدمة عبد الرحمن بدوي لترجمته الرواية، الصادرة عن دار المدى، طبعة 2009.

حياة ثربانتس


كتب ثربانتس الجزء الأول من دون كيخوته وهو في السجن، بعد رحلات طويلة متكررة من السعي والخيبة، وهكذا حلقة مفرغة لا تنتهي، تماماً كرحلات دون كيخوته نفسه وعودته أو إعادته، سواء بالقوة أو الحيلة. ثربانتس المتباهي ببلاده وبوجوده كجندي في صفوفها، الذي نتجت معركته الأولى مع جيوشها بعاهة مستديمة في يده، أعجزته طيلة حياته، ثم النجاة من الموت، وبعدها يقع أسير أعداء بلاده لسنوات ـ سنوات الأسر والاسترقاق في الجزائر ـ وهو ينتظر أن يجمع أسرته ومعارفه فدية كبيرة حتى يتمكن من العودة إلى موطنه. دون كيخوته الكهل كما ثربانتس، والمتوهم تحقيق العدالة بيد عاجزة، وما السخرية من دون كيخوته إلا سخرية من أوهام وأحلام ثربانتس نفسه، فخيال دون كيخوته صوّر له أن قصص الفروسية تاريخاً واقعاً يجب أن يُعاد ويُعاش، أكثر منه خيالاً روائياً، حتى رحلته الأخيرة التي عاد بعدها إلى بيته ليكتب وصيته ويموت. حتى فكرة الموت نفسه، رغم أنها تحمل رمزيتها الروائية، إلا أنها لم تكن تنفصم عن الواقع أو الوقائع، فبمجرد كتابة ثربانتس للجزء الأول من روايته، تمت كتابة الجزء الثاني من قِبل شخص آخر، وهو الحافز الأقوى الذي جعل ثربانتس يكتب الجزء الثاني من روايته، وحتى تكتمل السخرية يذكر أنه تعمد إنهاء حياة دون كيخوته، حتى لا يتجرأ أحد مرّة أخرى ويسرق حياة الرجل وحكايته»… «وفيه أقدم إليك دون كيخوته في تلاوة مغامراته حتى وفاته، كي لا يخطر ببال أحد أن ينسب إليه أفعالاً جديدة. إن أفعاله القديمة تكفي».
إلا أن أمر النهاية بالموت ـ موت الشخصية ـ كان يمثل في الحقيقة حالة من الاحتفاء بإيمان أخروي، ربما يجد فيه ثربانتس وبطله مكاناً وفق مخيلته أو على هواه، وهو ما لم يتحقق أبداً طيلة حياته.

حياة الشخصيات
من ناحية أخرى هناك استشهادات بالعديد من الشخصيات والمواقف التي طالعها ثربانتس خلال حياته ووثقها متضافرة في حكاية دون كيخوته، منها مثالاً.. اللص (روك جينار) فهو صورة مجمّعة لعدة لصوص في عصر ثربانتس، يمكن وصفهم بأنهم لصوص شرفاء، ربما يكون الوجه الآخر الذي تمناه دون كيخوته لتحقيق العدالة في أرض مغامراته، لذا جاء تصوير (روك جينار) وفق الخيال الشعبي ـ لا السلطة ـ بأنه كريم وشجاع، يعمل من أجل الفقراء ويرد الحقوق إلى أصحابها. وهو هنا ينتصر لهذه الفئة المغلوبة على أمرها، التي تمجد كل خارج على القانون، طالما أن هذا القانون يضعه الأقوياء والحُكام، وهو، في كل الأحوال، بعيد عن مصلحة الفقراء وأحلامهم. ولدينا في تراثنا الكثير من هؤلاء، ربما أشهرهم (أدهم الشرقاوي) اللص أساساً، و(خُط الصعيد) القاتل المأجور، و(محمود أمين سليمان)، الذي استمد (نجيب محفوظ) من سيرته رواية «اللص والكلاب».
المتعلم الجامعي (كاراسكو) الذي رأي في جنون دون كيخوته داء لا بد من الإسراع في علاجه، وهو يستخدم الحيلة حتى عودة دون كيخوته إلى بيته لتلقي العلاج اللازم، حتى يتخلص من حالته هذه. فـ(كاراسكو) صورة للمتعلم وقت ثربانتس .. ماكر واسع الحيلة، لا يعتقد أو يؤمن إلا بما يختبره أو يجد له برهانا، ولا يشك لحظة في أنه على حق ـ لا يختلف بالطبع عن أغلب متعقلي الجامعات ـ عندما يواجه رأياً يُخالفه. وحتى عندما يشعر هذا الـ (كاراسكو) أنه انتصر لوجهة نظره، وأثنى دون كيخوته عن أفكاره، يُباغته الأخير بانتصار خيالي لا يتوقعه الماكر مُتمثل العقل، وهو.. موت دون كيخوته، حتى تصعد رحلته وقبلها روحه إلى مصاف الأساطير.
(دولثينيا) هنا لا نجد صورة حقيقية لفتاة أحلام الفارس النبيل، بل صورة خيالية مثالية لحياة أكثر خيالا، مع حبيبة ثربانتس الوحيدة (فرانثسكا دي لاروزا) الممثلة في الفرقة المسرحية التي كان يديرها، والتي فرّت هاربة فجأة، وقد بحث عنها سنوات دون أن يجدها، رغم زواجه بعد ذلك الذي أثمر عن فتاة طالما سببت له من المشكلات ما يفوق الحد طيلة حياته. كل ذلك جعل من امرأة خياله تلك فكرة لا تتحقق في الواقع، مثالية مطلقة جديرة بحالة الحب الذي لم يجده، إلا في شخصية الفتاة التي أحبها وهو يعمل في المسرح، حلم ضائع آخر أراد تجسيده في امرأة يعلم علم اليقين أنه لن يجدها على الإطلاق.

حياة إسبانيا
في تلك الفترة كانت إسبانيا تمر بمرحلة شديدة الصعوبة هددت تاريخها ووجودها، وقد عانت من أعمالها البطولية خلال القرن السابق على وجود دون كيخوته ـ القرن الـ15 ـ فقد كانت تحارب في العديد من مناطق العالم، وتخوض صراعاً يفوق قواها، فكان العزاء بالضحك.. ضحك الرجل من نفسه، ومن مصائب تولدت عن أحلام دولة فاقت الحد. في هذه الفترة من التدهور السياسي والعسكري جاء (دون كيخوته) للإيحاء اللازم بالهدوء، وكشف مفارقة المقارنة بين مثال مأزوم وواقع لا يسمح باستعادة الحلم مرّة أخرى. الأمر هنا لا يقتصر على موقف فردي أو بمعنى أدق رومانتيكي قاصر، بل امتد ليتماس ويُعبّر عن لحظة فاصلة من خلال شخصية عاصرت نهاية عصر النهضة الأوروبية، مجسدة فكرة الإيمان بشيء أزلي لا يتغير، ووجودها مرتبط بالصراع في سبيل نصرة الحق والعدل على الأرض. فكان لا بد من هدم الأمجاد الزائفة المتمثلة في قصص الفروسية وأبطالها، بأن يتمثلهم ويسخر منهم في الوقت نفسه، فهناك أحد الأبطال (أماديس الغالي) كان يضرب قلعة بسيفه فتنهار تراباً، وآخر يقتلع شجرة لتصبح مقبضاً لسيفه ـ أشبه وأكثر مبالغة من أفلام أميتاب باتشان التجارية، وقد شاهدناه وهو يضرب المئات وحده، ويحمل تمساحاً ويلقي خطبة انتقامية من الأشرار قد تمتد إلى خمس دقائق، أو أكثر على الشاشة ـ وما أفعال دون كيخوته إلا تأكيد أن ما يحيطه أكثر جنوحاً وجنوناً، رغم ما يتمثلونه من عقلانية تثير الضحك والرثاء أكثر منه.

حياة الآخرين
ونأتي لفكرة التعبير عن المجموع من خلال الفرد، وهو ما انتبه إليه الألمان بوجه خاص، فشيلينغ على سبيل المثال، يرى في الرواية صورة صادقة عن الحياة وتفاصيلها وعلاقاتها المتعارضة، كذلك يرى هينريش هايني، أن رواية دون كيخوته استمعت وسجلت أصوات الناس ـ الناس العاديين أو الشعب ـ للمرّة الأولى في الأدب، وبالتالي كانت بداية الأدب الحديث. كذلك تنوعت تأثيرات دون كيخوته في الأدب، مثل «بوفاري» فلوبير، و»بكويك» ديكنز، و»أبله» ديستويفسكي، و»معطف» غوغول. مع ملاحظة أن حالة ديستويفسكي خاصة، تم إنتاج تنويعات مختلفة منها ومن بطلها.
ففكرة صورة البطل غير المتوافق مع ما يحيطه، وأن تتناقض تصوراته مع كل ما هو مستقر أو بمعنى أدق تم التواطؤ على استقراره لمصلحة فئة أو عِرق أو مجموع متمايز، هي فكرة البطل الدرامي الأكثر تأثيراً وشيوعاً في الأدب الحديث، الذي من خلاله يصبح هذا البطل (بطلاً إشكالياً) يعبّر عن روح عصره الذي ينتمي إليه، ولو بمفهوم المخالفة، كاشفاً عواره وموبقاته ومآسيه. ويؤكد ذلك ثربانتس نفسه في خاتمة الجزء الثاني والأخير من الحكاية، فيقول.. «نعم، من أجلي أنا ولد دون كيخوته، وأنا ولدت من أجله، لقد عرف كيف يفعل، وأنا عرفت كيف أكتب، وكلانا واحد».
ونختتم بمقولة إسبانية مأثورة ـ حسب مؤلف الكتاب ـ بأن دون كيخوته.. «قوبلت بالضحك في القرن السابع عشر، ثم بالابتسامات في القرن الثامن عشر، وبالدموع في القرن التاسع عشر». وبما أننا في قرننا السعيد، فربما نفعل كل ذلك في لحظة واحدة خاطفة، حتى يُظن بنا الجنون، لنصبح صورة حديثة من الشريف العبقري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية