قال الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران، إنه لا يوجد من هو في حجم الديكتاتور، إلا إذا وصل الشعب إلى درجة التحدي. طبعا نحن نفهم أن ميتران يتحدث في سياق تكون فيه الثورة الرد الحاسم على تسلط الساسة الكليانيين.
للشعب القدرة على أن يفتك السلطة كي يمارس ديكتاتوريته.. وهو في النهاية سيختار ديكتاتورييه الجدد، مثلما قال ذات مرة بأسلوب ساخر الممثل الفرنسي باتريك سيبستيان.
الاستبداد سيئ والديكتاتورية مُرة حتى لو مارسها الجمهور، فهي في النهاية ستعطي للأغلبية حقا مطلقا في التصرف في الأقلية. لم يكن الحق دائما في صف الأغلبية يمكن أن يكون في صف الأقلية، لكن التجمهر قد يفقده شرعيته. الجمهور ديكتاتور بكذبة فيه هي كذبة العدد وبحساب مغشوش يبنى على إجماع على ما يعتبره هو حقا. أكبر الزيف يمرّ من تحت أقدام الجماهير، حين تطالب بما يمكن أن تعده حقيقة قد يثبت التاريخ بعد بطلانها. دعونا من صناعة الرأي العام والفاعلين الحقيقيين فيها، ودعونا من استبداد الجماعة واتفاقها على حقائق لا تغني ولا تسمن من فكر.. وتعالوا ندرس حالة من حالات ديكتاتورية الجمهور، تلك التي يمارسها باللغة وأثناء إنجاز الكلام.
تولد اللغة وتعيش وتتوسع باتساع الجمهور، وتموت بموت آخر شخص يتكلمها. في كتاب «لنوقف موت اللغات» يشير المؤلف كلود حجاج إلى أنه، يجب على المرء أن يعتبر أن «انقراض اللغة التي تختفي مع متكلميها، هو انقراض مجتمع لغوي». المجتمع اللغوي هو كل مجتمع يستعمل لغة أو لهجة واحدة يتكلمها بدون معلم، تلك تكون لغته الأم. هو لا يستعملها للتواصل بل لبناء الكون، وهذا هو المهم باللغة الواحدة نتكلم، ولكن أيضا نبني تصورا ثقافيا مشتركا يجمعنا، ونتواضع عليه ونلزم غيرنا بالتواضع عليه. أول أحوال ديكتاتورية الجمهور تبدأ بالمواضعة داخل جماعة لغوية.
من البديهي أن نقول اليوم إن اللغات لا حياة لها خارج المواضعات، لكن كثيرا منا ينسى أن هذه المواضعات تتجاوز مجرد الاتفاق من داخل اللغة، على أن تستعمل كلمات معينة أو أبنية معلومة، إلى الاتفاق على خارج اللغة، أي على المحال عليه وعلى الأبنية الثقافية، التي ترتبط بها تلك الإحالات. لا أحد يفكر في الكيفية التي حدثت بها المواضعات أول مرة، لأنه من العبث أن نفكر في ذلك، إلا إذا أردنا أن نعرف متى بدأ المتكلمون الأول فرض منوال كلامهم على البقية؛ وهذا لا يحدده أي مؤرخ مهما كان دقيقا. نحن نلد فنجد أمامنا الأسماء فنسمي بها الأشياء ولا نعترض عليها، ونجد أمامنا الجمل فنبني الآلاف على منوالها؛ صحيح أنها ليست جمل الآخرين بالضرورة، لكنها تحوي أبنيتهم التي استعملوها من مئات السنين ولم يتركوا لنا الحرية في ابتداع أبنية غيرها. صحيح أن إكساء الأبنية الإعرابية والاشتقاقية، بما يريده المتكلم ممكن، ولكن الخروج عن خطاطات معينة للكلام هي أبنيته ومناويله المجردة غير ممكن.
يولد الناس أحرارا حتى إذا انتسبوا إلى جماعة بشرية تقيدوا بنسبتهم، فإذا تكلموا بلسان تقيدوا بأحواله ودخلوا دائرة ما يسميه بعض اللسانيين بالجبر اللغوي.
في اللغوي أحوال مختلفة منها ما يقوي ديكتاتورية الجمهور، ومنها ما يضعفه، وعلى العموم فكلما مالت الجماعة اللغوية إلى قدرية الكلام، واستعملت أساليب بأعيانها وشيفرت الكلام بشكل مألوف، وفككته بشكل متعارف عليه، صنعت ديكتاتوريتها الجمعية. يكفي أن تقول (كأس) وتعني به وعاء لشرب الماء، أو تقول (فنجان) عن كأس القهوة يكفي ذلك لتكون في صلب الموالاة للمجموعة تمارسُ عليك جبر اللغة، فلا تكسر أي ناموس لقوانينها.
يولد الناس أحرارا حتى إذا انتسبوا إلى جماعة بشرية تقيدوا بنسبتهم، فإذا تكلموا بلسان تقيدوا بأحواله ودخلوا دائرة ما يسميه بعض اللسانيين بالجبر اللغوي.
يمكن لجماعة لغوية أن تستوعب جماعة لغوية أخرى بديكتاتورية اللغة، وهذا ما حدث حين استوعبت العربية قديما جماعات لغوية أخرى سمتهم الأعاجم، ديكتاتورية اللغة جعلت هؤلاء الأعاجم يستعملون لسان الدولة ويحافظون على قومياتهم، لكن السؤال الحقيقي: هل أنك وأنت تستعمل لغة أخرى تحافظ حقا على ثقافتك الأصلية التي هي ركن من قوميتك؟ الجواب الموضوعي أن يقال إن استعمال لغة أخرى يقود إلى تنويع طرق بناء الكون. بالإضافة إلى المواضعة التي تكون حالة من حالات ديكتاتورية اللغة، تكون مفردات اللغة أيضا دليلا آخر.
سنأخذ على سبيل المثال ضمير المثنى والجمع (نحن) في العربية. ضمير الجمع المتكلم هو ضمير التكتل والحشد هو الضمير الذي يبيح لك وباسم ديكتاتورية الجماعة، أن تعلن نفسك عضوا في جماعة متسلطة. بضمير الـ(نحن) صنعت أقدم البيعات والتكتلات، ومارست الجماعة هيبتها وتسلطها على ضمائر أنا المفردة والصامتة، تلك التي سلب حقها في قول: (لا لست معكم!) قل جملة فيها نحن وستجد نفسك حبيس الجماعة، ترى بمنظارها، أو ترى هي بمنظارك، إلا إذا كانت نحنُكَ في الحقيقة أنا مضخمة أو أنا ناطقة باسم الشعب (نحن رئيس الجمهورية).
قرأت، ولا يهمني إن كان الخبر صحيحا أم خاطئا – أن العرب كانوا يطوفون في الجاهلية حول البيت ويرددون كلاما سأعيده كما قرأته، ويهمني فيه ضمير المتكلم الجمع: نحن. يقال إن قبيلة يمنية اسمها عك كانت تقصد مكة للحج، فيتقدم للطواف أمام حجيجها عبدان أسودان يقولان «نحن غرابا عك» ويقصدان نحن عبيدا قبيلة عك؛ فيقول أحرار القبيلة وهم يطوفون «عك إليك عانية، عبادك اليمانية كيما نحج الثانية» أي جاءت القبيلة خاضعة خضوع العبيد وهي إذ تجيء هذه المرة فستحج الثانية. أغلب أحوال القراءة أن تقرأ هذه الجمل في غفلة عما تصنعه اللغة بواسطة ضمير الجمع من ديكتاتورية باسم الجماعة. الوجه الأول في القول السابق، أن اللغة جعلت العبدين يصفان نفسيهما بالعبودية، وهذا يعني أنهما تواضعا على أن يسميا نفسيهما بما قد لا تحب نفساهما، لكن أن تنسب نفسك اجتماعيا خير من ألا تنتسب. نحن جمعت ذاتين جبرا في مصير متواضع عليه لغويا واجتماعيا. لكن لماذا لم يسميا نفسيهما عبدين تسميا بالغراب؟ إن كان في الأمر استعارة فإن فيها أيضا جبرا آخر: ليس من حقك إلا أن تتسمى بأنسب الطيور إليك. في الغراب متنفس حين يكون نذير شؤم على غيره: لكن هل هذا كان متفقا عليه وقتها لا حجة لنا وتواضعنا الحاضر على نسبة ذلك اليوم إلى الغراب لا يصدق على الأمس: الجبر اللغوي هو جبر تقدمي وليس تراجعيا.
نحن الجمع، في القول السابق هو نحن السادة لم يتجل لنا جماعة صريحة إلا بعد مسار في الخطاب فقد ظهر في صورة القبيلة (عك إليكَ عانية) ثم اختفت الـ(نحن) في الفعل (نحج). الهيمنة واستمداد الذوات هويتها من تلك الهيمنة واضح في الخطاب، وهي هيمنة تتجه من دائرة الأفراد الذين لا هوية لهم خارج عبودية السادة إلى دائرة الجماعة (القبيلة) التي لا هوية لها خارج العبودية للرب. نحن في الطواف عبيد، لكن العبودية تختلف: من عبودية للبشر إلى عبودية للرب. تمارس القيبلة ديكتاتوريتها المزدوجة على العبيد ممارسة ظاهرة باسم الجماعة أولا، ولكن أيضا باسم عبادة لله ثانيا. من رأى في المشهد أن الطواف مهم فقد أخطأ الهدف، لأن قيمة المشهد في الاستعراض اللغوي الغنائي وفي زمن النطق بالكلام: عبدان يعلنان العبودية أنها شريعة اجتماعية مقدسة، وقبيلة تعلن عن أن العبودية شريعة لاهوتية مقدسة، وتمارس اللغة تمارس عبر الطقوس ديكتاتوريتها المزدوجة: فلا يتضح المقام إلا بها، ولا يتواصل الطقس ويتم إلا بإعانتها: يذهب الأشخاص ويموتون، وفي الطواف المقبل تستعيد اللغة نفسها، ولكن في أفواه أخرى استعادة هي أهم مظهر من مظاهر جبر اللغة: إنك تعيد وأنت المختلف نصا هو هو بلا تحريف.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية