جسم مشبوه عثر عليه مساء السبت في شارع بورقيبة بقلب العاصمة تونس دفع على الفور عددا من مواقع التواصل الاجتماعي الى الحديث عن قنبلة، وذلك قبل ان يتضح في وقت لاحق ووفقا لبيان وزارة الداخلية انه مجرد قالب من الطين لا يحمل على الاطلاق اي مادة متفجرة او خطيرة. لم تكن تلك المرة الاولى التي يعثر فيها على اجسام مشبوهة، كما انها ايضا ليست الاولى التي يجد فيها التونسيون انفسهم امام ‘مزحة ثقيلة’ غايتها تكدير الحياة وبث حالة من الخوف والهلع المستمر. اعتادت السلطات في تحقيقاتها حول طبيعة تلك العمليات وملابساتها على التكتم واحاطة الموضوع بجدار سميك من السرية والبيروقراطية المألوفة، وهو ما قدم خدمة ثمينة قد تكون غير مقصودة، لمن يقف ويخطط، ويقصد من وراء كل ذلك الحاق اكبر قدر من الاذى والصدمات النفسية قبل المادية. اما الاشباح التي تتحرك في الظلام لتشعر الجميع ان مصير الديمقراطية الغضة رهين رصاصة طائشة او عبوة مغشوشة فتظل واحدة من اكثر الالغاز غموضا طيلة الاعوام الثلاثة الاخيرة. لكنها مع ذلك ليست الوحيدة التي تفاقم منسوب القلق والتوتر، فالظهور المكثف لكتيبة من الخبراء والمحللين السياسيين والاقتصاديين للتبشير بالانهيار الوشيك للبلد، او بقرب حصول الاغتيال السياسي الثالث بعد بلعيد والبراهمي، هي ايضا واحدة من بين اسباب عديدة التقت على نفس الهدف الاكبر وهو وأد هذا المسار المتعثر نحو الديمقراطية. التهديدات المستمرة التي لا تكاد تهدأ حتى ترجع من جديد وبصورة اكثر حدة، تطرح تساؤلات ملحة عن وجود مناعة ذاتية في تونس تكفي للرد السريع والناجع على كل الاحداث والعقبات الطارئة التي تقف بوجه الانتقال الديمقراطي. وهناك حقيقة لا يمكن انكارها، وهي ان التونسيين الذين تعايشوا لعقود طويلة مع الاستبداد فاكتوى البعض منهم بنيرانه وتمتع البعض القليل الاخر بنعيمه، لم يكونوا مستعدين من الناحية الذهنية والنفسية لما بعد الاستبداد، بعد ان سيطرت حالة من الاحباط واليأس العام من حصول تغيير في الاتجاه الافضل. ما حدث بعد ذلك الهروب المفاجئ للرئيس المخلوع بن علي، هو انه جرت محاولة غسل دماغ سريعة ادخلت قدرا كبيرا من التشويش المقصود على الصورة، وجعلت الكثيرين لا يفهمون امرين مهمين، الاول سقف العبارة الشهيرة ‘الشعب يريد’، والثاني ثمن الاسطورة التي روجتها كل وسائل الاعلام من ان الثورة التونسية بلا قائد. الضباب الكثيف الذي احاط بالتجربة التونسية حولها بالتدريج الى ورقة تتحكم فيها رياح الداخل وتؤثر فيها بشدة عواصف وتيارات الخارج. وبمرور الاشهر ثم السنوات اصبح رغيف الخبز اليومي اعلى قدرا وقيمة من جميع شعارات الحرية والكرامة التي جرى رفعها في السابق. ذلك الرغيف هو وسيلة الضغط الوحيدة الان تقريبا، لا لاسقاط الحكومة ودفع الاسلاميين الى مغادرة مواقعهم في السلطة، بل للاجهاز نهائيا على فرص نجاح تزداد اتساعا ووضوحا رغم الصعوبات ورغم ما لحق آمال الربيع في دول الجوار من دمار. تحتاج تونس في هذه المرحلة الحساسة من تاريخها الى عمليات تقوية وانعاش لمناعة ابنائها الهشة والضعيفة حتى تتمكن من عبورها بأقل ما يمكن من التكاليف وتقدم نموذجا عربيا فريدا في المنطقة. اولى الخطوات المطلوبة لذلك هي ان تصبح للديمقراطية ساعة مضبوطة يتحدد من خلالها التوقيت الرسمي والنهائي لوضع حد للمؤسسات الوقتية الحالية واستبدالها باخرى دائمة ومستقرة، ويكون الجميع ملزمين به بلا تحفظ، أما باقي الخطوات فتتطلب قدرا كبيرا من الجهد المتواصل حتى يترسخ في القلوب والعقول أمر شديد الاهمية وهو الصبر على ما تسببه الخطوات الاولى نحو الديمقراطية من آلام وخسائر ليست في مطلق الاحوال ارفع واكبر من تلك التي سببها الاستبداد في السابق. اذا ما قطعت تلك الخطوات بحرص ومهارة فسوف لن تكون تونس في المستقبل تحت رحمة اي جسم مشبوه. بقي السؤال الذي لا مفر منه هنا وهو هل يتركها الاخرون تفعل ذلك بهدوء، وهل هي مستعدة فعلا لتحمل التبعات؟ الجزء الاكبر من الجواب هو الرهان الاهم للعام الجديد الذي يبدو حاسما ومصيريا للبلاد و المنطقة كذلك.