ديمقراطية… ولا ديمقراطيين

ذكرني احد الأصدقاء قبل أيام، بمقالة كنت نشرتها عام 2009 بالعنوان نفسه، وذلك من خلال إعادة طرح سؤال: هل يمكن بناء ديمقراطية حقيقية من دون أحزاب تؤمن بالديمقراطية؟ وأحاول اليوم أن أعيد الإجابة على السؤال نفسه! لاسيما أن هذا السؤال لم يعد مجرد سؤال إشكالي، بل تحول إلى سؤال سفسطائي تماما في الحالة العراقية.
من المعروف أن غالبية الأحزاب والكيانات السياسية التي شغلت واجهة المشهد السياسي في عراق ما بعد 2003، كانت أحزابا إسلامية لا تؤمن بالديمقراطية أصلا، وتعدها بدعة تتقاطع مع مبادئ الإسلام (جاء في أحد أدبيات حزب الدعوة الإسلامية أن الديمقراطية «مصطلح سياسي يحمل فكراً ومضموناً ومدلولاً يتعارض مع فكر الإسلام وروحه يجب رفضه وعدم استعماله»)! أما الشيوعيون فقد عمدوا إلى استخدام مصطلح الديمقراطية في خطابهم الأيديولوجي والسياسي، من خلال تمثلهم الخاص لمفهوم الديمقراطية؛ حيث لم يستند شعار الديمقراطية الذي رفع عاليا بعد 1958 سوى إلى تمثلاتهم الخاصة للديمقراطية، التي أنتجت فكرة تمجيد الزعيم الأوحد، والتنظير لاحتكار السلطة، من خلال سياسة الإقصاء والتطهير بلا رحمة، وترسيخ عبارات من قبيل سحق «المتآمرين» و«الرجعيين» بسلاح المقاومة الشعبية و «شد البرغي حتى آخر سن لها»، وهي مصطلحات مقتبسة من بيانات الحزب الشيوعي حينها. واستخدمت الأحزاب الأخرى المصطلح من اجل البروباغاندا السياسية دون إيمان حقيقي (كما عند الحزبين الوطني والاتحاد الكردستانيين حيث هيمنة العائلة وادواتها البيشمركه والأسايج الحزبيتين).
وإذا كانت هذه الأحزاب، ولأسباب براغماتية بحت، قد حاولت التأقلم مع الشروط الأمريكية لقبولها طرفا في اللعبة السياسية، فإنها على مستوى مقولاتها الإيديولوجية، لا تزال تدور أيضا في «منطقة رمادية خالصة» فيما يتعلق بالديمقراطية.
وغياب الفكر والسلوك الديمقراطيين نجده واضحا، لدى هذه الأحزاب، من خلال المستوى التنظيمي في بنية هذه الأحزاب والكيانات السياسية، وعلى رأس هذه البنية فكرة تداول السلطة داخل الحزب، ومشاركة القواعد، هذا في حال وجودها أصلا، في صنع القرار. إذ لا تؤمن هذه الأحزاب على أعلى مستوياتها مطلقا بالمقولات الديمقراطية، من هنا كانت الانشقاقات داخل الأحزاب تحدث بعد كل عملية إعادة توزيع للسلطات داخل المكاتب السياسية للأحزاب عبر الانتخابات. فقد انشق الدكتور إبراهيم الجعفري عن حزب الدعوة عقب قيام الحزب بتعديل النظام الداخلي، واستحداث منصب الأمين العام للحزب الذي فاز به السيد نوري المالكي بعد توليه منصب رئاسة مجلس الوزراء عام 2006. ثم انشق حزب الدعوة مرة أخرى بعد تولي الدكتور حيدر العبادي المنصب نفسه في العام 2014، وهو ما اضطر الحزب للدخول في انتخابات مجلس النواب لعام 2018 بقائمتين مختلفتين! وانشق السيد طارق الهاشمي عن الحزب الإسلامي بعد المؤتمر الذي انتخب فيه الدكتور أسامة التكريتي أمينا عاما جديدا للحزب عام 2009.

كوتيشن الكبيسي: من اجل استكمال المشهد الهزلي، باتت الدولة، بكل سلطاتها، ومؤسساتها، وفاعليها السياسيين، شركاء في «ضبط» هذه العملية الانتخابية لكي تكون بعيدة عن أي نزاهة أو عدالة أو شفافية

ويتضح عدم الايمان بمقولات الديمقراطية أيضا من خلال سياسة التوريث داخل بعض الكيانات السياسية التي تعتمد على البنى العائلية ذات الرمزية الدينية، كما هو الحال مع المجلس الأعلى الإسلامي (محمد باقر الحكيم، ثم الأخ عبد العزيز الحكيم، ثم الابن عمار الحكيم) أو الحزب الديمقراطي الكردستاني (مصطفى البارزاني، الابن مسعود البارزاني، الإبن مسرور البارزاني رفقة ابن العم نجيرفان البارزاني)، بل شمل التوريث أحزابا اشتراكية او ليبرالية مفترضة (ما زالت عائلة جلال الطالباني مثلا (الزوجة هيرو إبراهيم احمد رفقة الأبناء قباد وباڤيل وابن العم لاهور الطالباني) مهيمنة عمليا على الحزب بعد وفاة مؤسسه جلال الطالباني، كما ورث نصير الجادرجي زعامة الحزب الوطني الديمقراطي عن أبيه كامل الجادرجي على الرغم من انه لم يكن منتميا إلى الحزب أصلا). ويتضح ذلك أيضا في استمرار القيادات الواحدية والدائمة نفسها لبعض الأحزاب التاريخية (تولى جلال الطالباني أمين عام الاتحاد الكردستاني منذ تأسيسه العام 1975 حتى وفاته في العام 2017، وظل عزيز محمد سكرتيرا للحزب الشيوعي على مدى 30 عاما (1963 – 1993)، وتولى خليفته حميد مجيد موسى المنصب لمدة 23 عاما (1993 – 2016)، وما يزال عبد الإله النصراوي زعيما للحركة الاشتراكية العربية منذ عقود).
ومن الواضح أن هذه الظاهرة صارت ظاهرة عامة في الأحزاب/الكيانات السياسية، والتي صارت تعرف باسم الزعيم المؤسس لها، أو بالأحرى المالك الرسمي لها ( حركة الوفاق باسم أياد علاوي منذ العام1991 حتى اللحظة، وثمة مؤشرات على أن تكون ابنته هي الوريثة، المؤتمر الوطني العراقي باسم أحمد الجلبي منذ العام 1992 حتى وفاته). أما أحزاب وكيانات ما بعد نيسان 2003، فلا تعدو أن تكون تنظيمات ذات بنية دينية تتعارض، بالتعريف، مع مفهوم الديمقراطية (كما في حالة التيار الصدري)، أو تنظيمات تتمركز حول أشخاص/ ممولين، وهي مجرد «دكاكين سياسية» لصاحبها لا تقوم على أسس فكرية أو أيديولوجية،
لم تكن الديمقراطية المفترضة في العراق، والتي كرست من خلال الالتزام القسري بالنموذج الذي فرضه الأمريكيون، سوى شكل لا يحيل على أي محتوى حقيقي، حيث لا يتم النظر إلى «الديمقراطية» إلا بوصفها «آلية»، وليس بوصفها نظاما يستند إلى مجموعة من الأسس والمفاهيم لا تقوم إلا بها. فمفهوم «تداول السلطة» تم تأويله عراقيا ليكون النص الدستوري ضامنا لاحتكار «جماعة» محددة للسلطة؛ فالمادة 76/أولا تنص على أن «يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددا بتشكيل مجلس الوزراء»، والتي «أولتها المحكمة الاتحادية، بقرار مسيس، لتكون الكتلة التي تتشكل بعد الانتخابات وليس الكتلة الفائزة بالانتخابات! وهذا يعني مع وجود انقسام سياسي ومجتمعي في العراق، أن الأكثرية الديمغرافية، وليس السياسية، هي التي ستحتكر السلطة، وان مفهوم «تداول السلطة» قد أفرغ من محتواه تماما، كما ان الدستور نفسه وهو القانون الأعلى في الدولة، أفرغ مضمونه، وتحول إلى مجرد أداة سياسية يستخدمها الفاعل السياسي الأقوى كما يريد، وإن عجز عن ذلك، فهناك محكمة اتحادية تؤول هذا الدستور تبعا لإرادة ذلك الفاعل!
وعليه فإن مصطلح الديمقراطية في العراق، في ظل ما عشناه من الانتهاكات المنهجية للدستور، والقانون، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، وفي ظل احتكار السلطة المنهجي أيضا، فانه لا يكاد يحيل على أي مبدأ ديمقراطي ما عدا الفعل الانتخابي ولا شيء غيره. ومن اجل استكمال المشهد الهزلي، باتت الدولة، بكل سلطاتها، ومؤسساتها، وفاعليها السياسيين، شركاء في «ضبط» هذه العملية الانتخابية لكي تكون بعيدة عن أي نزاهة أو عدالة أو شفافية، وهو ما أثبتته انتخابات العام 2018، وقانون تعديل قانون انتخابات مجالس المحافظات لعام 2019.
منذ حالة الجزائر التي شهدت انقلاب العسكر على الديمقراطية في العام 1991 بمباركة دولية، وصولا إلى حالة مصر المشابهة مع انقلاب العام 2013، صارت مقولة أن الإسلاميين لا يؤمنون بالديمقراطية، وأنهم يستخدمون الآليات الديمقراطية للوصول إلى السلطة من اجل الانقضاض عليها لاحقا، حكما قاطعا غير قابل للاستئناف (من دون ان يعني ذلك أن الانقلابيين مؤمنين بالديمقراطية طبعا، وهو ما يفضح الازدواجية الغربية). ولكن المشكلة في العراق أننا لم نكن أمام هيمنة للأحزاب الإسلامية بمباركة امريكية ودولية، وإنما أمام أحزاب ليبرالية وديمقراطية مفترضة تقف ليبراليتها وديمقراطيتها عند حدود أسمائها فقط ولا تعكس فكرا أو ممارسة ديمقراطية حقيقية.
فهل ما زال هناك من يتوهم بإمكانية قيام ديمقراطية حقيقية دون وجود أحزاب/ أشخاص في السلطة لا يؤمنون بها ؟ في ظل الوقائع القائمة؟

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ألف ليلة وليلة:

    مقالك لا يحتاج لتعليق حضرتك طرحت السؤال واغنيتنا عن الجواب.فقط أضيف أن العقلية السياسية العراقية ، عقلية عشائرية طائفية ، وهذه العقلية ولو تخرجت من أرقى جامعات العالم الديمقراطي تبقى كذلك عشارية طائفية من المهد الى اللحد.

  2. يقول S.S.Abdullah:

    أنا اختلف تماماً مع عنوان د يحيى الكبيسي (ديمقراطية… ولا ديمقراطيون) في جريدة القدس العربي، والأهم هو لماذا أنا اختلف معه؟!

    لأن على أرض الواقع، الفوضى الخلاقة هي المعنى الحقيقي لمفهوم الديمقراطي، وهذه تعني لا مبادئ ولا أخلاق والأهم لا إحترام للقانون والدستور،

    مفهوم وظيفة النخب الحاكمة في النظام البيروقراطي، تعني التهريب، أو عدم دفع الضرائب والرسوم والجمارك، فقط لأنّهم من النخب الحاكمة (آل البيت لشعب الرّب المُختار)،

    والدليل ما حصل على أرض الواقع من الجميع، في موضوع البواخر التي تم حجزها/اختطافها في مضيق جبل طارق أو مضيق هرمز، من النفط العراقي المُهرّب، وإيران تصدر أوراق رسمية للتغطية/للفضيحة؟!

    فمن هنا المُنافق/السارق/المُجرم القانوني،

    والذي يرفض الشفافية واللا مركزية في إتمام أي صفقة تجارية في أجواء العولمة عام 2019؟!??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية