على مرّ العصور، شاملا عصرنا الحالي الذي يتميَّز بتقدُّم تكنولوجي مخيف، لا تزال الآلهة الإغريقية نموذجا لأساطير لا يملّ منها العامة والمثقَّفون، ويتطلَّع لها جميع أطياف البشر؛ لعلَّهم يصيبون بعضا من قوَّة آلهة الأوليمب وهيبتهم.
ومن الصعب الجزم إن كانت الأساطير الإغريقية حقيقية أم خيالا محضا؛ فكل ما وصل للبشرية من أخبار عن بانثيون آلهة الأوليمب Pantheon of Greek Gods تم تواتره من خلال الحكايات الشعبية الشفاهية، التي كانت تستخدم قديما كرسالة تعليمية أخلاقية تنطوي على النصح والإرشاد، ولها إطار مفعم بالتشويق والمغامرة؛ يجعل العامة تُقبل على سماعها، وتتذكُّر محتواها، ما يُعطي الفرصة لسامع الحكاية أن يكررها في ذهنه ويتفكَّر في ما تنطوي عليه من حكمة وعظة.
ومن آلهة الإغريق ذات التأثير المباشر في حياة البشرية، الإلهة «ديميتر» Demeter، إلهة الحصاد والزراعة ذات السطوة على المحاصيل والحبوب، وأيضا على الأرض، ولذلك فإنها تُعرف أيضا بإلهة الخصوبة والصحة والزواج والولادة. وديميتر هي الطفل الثاني للعظماء التايتانز Titans كورنوس Cornus وريا Rhea، اللذين أنجبا «زيوس» Zeus و«ديميتر» Demeter و«هستيا» Hestia و«بوسيدون» Poseidon و«هاديس» Hades. وتجدر الإشارة إلى أنه عندما ابتلعها «بوسيدون» وهي لا تزال طفلة، قام «زيوس» بإنقاذها. ولهذا، صار لـ»«» علاقة بالعالم السُفلي، وهو عالم الموت.
ويرتبط اسم «ديميتر» بالعديد من الحكايات والأساطير الفارقة، ولجميعها عظيم الأثر في حياة البشرية بأكملها. ومن ثمَّ، كثيرا ما يرتبط اسمها بإلهة الأرض «جايا» Gaea، وهي أم آلهة الإغريق. وللإلهة «ديميتر» مكانة مميزة لدى البشر، الذين يعدونها. ولتخليد سيرتها، نظم لها هومر Homer رائعته «ترانيم ديميتر»Hymns to Demeter التي تعدّ واحدة من الترانيم الرائعة، التي لم يطرأ عليها أي تحريف لقدسيتها.
ومن أشهر الحكايات المتواترة عن «ديميتر» التي توضِّح مدى سطوتها على العالم السفلي هي حكاية ابنتها «برسيفوني» Persephoneمع إله الموت Hades، فقد عبد البشر «برسيفوني» ابنة «ديميتر» جنبا إلى جنب مع والدتها، وكان يُشار لها بأنها إلهة الربيع والنماء، ويطلق عليها أيضا اسم «كور» Kore وتعني «العذراء» وصوَّرها القدماء على شكل فتاة جميلة تحمل في يدها حِزَم من الحبوب وشعلة مشتعلة النيران، كرمز للنماء والخير والنور. ونظرا لغيرة «زيوس» Zeus من سطوة «ديميتر» وابنتها على الأرض واستحواذهما على حب البشر، عمد إلى التآمر عليهما. وكانت فرصته معرفة أن ملك الموت «هادِس» Hades يهيم عشقا بـ»بيرسيفوني» ويرغب في أن يتَّخذ منها زوجة تشاطره حياته في العالم السُفلي. ولتأكُّده أن «ديميتر» لن تقبل به؛ خاصة أنها لا ترغب في أن تبتعد عنها ابنتها، ذهب إلى «زيوس» الذي ساعده في اختطافها، وسهَّل له نزولها معه إلى العالم السفلي. وحتى يضمن «هادس» عدم رجوع زوجته أبدا إلى الأرض، أعطى لها اثنتى عشرة حبة رمان، تأكل واحدة منها في كل شهر. لكنها لم تكن تعلم أن حبَّات الرمان مكيدة كبرى؛ حيث أن أكلها جميعا يجعلها حبيسة العالم السُفلي إلى الأبد.
ولمَّا علمت «ديميتر» ما حلّ بابنتها، ثارت وغادرت إلى جزيرة «إليوسيس» وقررت لأوَّل مرَّة الانتقام من الجميع على حدٍّ سواء. ومن ثمَّ، أحجمت عن إمداد الأرض بالدفء والنور، فأثَّر ذلك سلبا في الأرض وأدخلها في مرحلة شتاء قارس البرد. وتحت توسُّلات من «زيوس» لها، وافقت على أن تعيد الدفء والنور مرَّة أخرى للأرض شريطة أن يعيد لها «هادس» ابنتها. بيد أنها عندما تمكَّنت من الوصول إلى ابنتها، كانت «برسيفوني» بالفعل قد أكلت تسع حبَّات من الرمان، ما يعني أنها سوف تظلّ حبيسة العالم السفلي لفترة تسع شهور من كل عام، وتخرج فقط للأرض ثلاثة أشهر ليحتفل بها العامة حيث يأتي معها فصل الربيع.
ومن الجدير بالذكر أن عبادة «ديميتر» وابنتها «برسيفوني» التي ذُكِرَت في ما يسمى بـ«الألغاز الأليوسينية» Eleusinian Mysteries كانت موضع تبجيل خاص في العالم القديم اليوناني واللاتيني، لدرجة أن المؤلفين الذين سخروا من الخرافات الأسطورية، ومن ضجيج الآلهة في الأوليمب، لم يجرؤوا على انتقادها؛ لكونها أكثر استقرارا وفاعلية. ويؤكِّد علماء التاريخ أن اليونان القديمة، التي كانت تربطها بمصر علاقات وطيدة أرست قواعد علاقات ثقافية وتجارية وعسكرية بين الحضارة المصرية القديمة والحضارة اليونانية على مدار عصور طويلة، وخير شاهد وجود تمثال الملك العظيم «أجا ممنون» أحد أبطال الإلياذة، في الأقصر، ويؤكِّد الكثير من المؤرخين أن «هيلين» بطلة الإلياذة لمَّا هربت من زوجها، سافرت إلى مصر، لكن بعد التفكك الذي أصاب الحضارة المصرية القديمة، وسقوطها المتكرر تحت المستعمر الأجنبي؛ انقطعت صلات مصر الوثيقة باليونان، ولم يجددها في ما بعد إلَّا غزو الإسكندر الأكبر الذي رحَّب به المصريون. ولمَّا هاجرت القبائل اليونانية من مصر إلى بلدها الأم، استقرَّت واحدة منها في مستعمرة بالقرب من خليج إليوسيس، وأقاموا شعائر الديانة الباطنية المصرية القديمة التي عبدوا فيها «إيزيس» العظيمة تحت اسم «ديميتر» (سيريس) أو الأم العالمية. ومن ثمَّ، أصبحت «إليوسيس» هي نقطة انطلاق عبادة الآلهة العظماء، الذين بجَّلهم أيضا الرومان، تحت أسماء تختلف قليلا عن نظيرتها اليونانية، وإن كانت جميعا تتشابه مع أسماء وحكايات ووظائف الآلهة المصرية القديمة. وعلى غرار كهنة آمون، كان لكهنة الديانة الباطنية منزلة خاصة وأطلقوا على أنفسهم اسم «أبناء القمر» وأشاعوا أنهم ولدوا ليكونوا وسطاء بين الأرض والسماء. ومن خلالهم، زيَّنوا العقيدة الباطنية بسحر الأساطير الرائعة، واستخدموا بدقَّة المشاعر الأرضية للتعبير عن الأفكار السماوية. ووظَّفوا الانطباعات الحسية وروعة الاحتفالات وإغراءات الفن حتى تفهم عقول العامة الحقائق الإلهية. وتعد أسطورة «سيريس» وابنتها مركز عبادة «إليوسينيان».
وأسطورة «ديميتر» إلى جانب بعدها التاريخي، لها مضمون مُعاصر؛ «ديميتر» نموذج حيّ للمرأة ذات الشخصية القوية التي تكافح لتثبت نفسها وتتحدى من يحاول أن يفرض سطوته عليها؛ مثلما فعلت في «بوسيدون» و»زيوس». أضف إلى ذلك، فهي قادرة على فرض رغبتها حتى الموت. والغرض من حكاية ابنتها «بيرسيفوني» مع «هاديس» هو توضيح وجود أمور لا يمكن السيطرة عليها بأكملها، لكن يمكن تحويل جزء من الخسارة إلى انتصار مُدوٍّ، مثلما استطاعت «ديميتر» أن تجعل ابنتها تزور الأرض ثلاثة أشهر في العام. علما، أن اعتياد البشر على ربيع دائم لربما يُفقد «ديميتر» وابنتها هيبتهما.
يعدّ تطابق أسطورة «إيزيس وأزوريس» مع «أسطورة ديميتر وبرسيفوني» هو انتصار ليس لديانة على أخرى، بل لإدراك البشر أهمية وجود نواميس محددة للكون يمكن أن يستقي منها الإنسان الموعظة ويستفيد بخبرات لم يكن ليسبرها إلَّا من خلال شخصيات عظيمة.
كاتبة مصرية