ذاكرة الأمة مثلها مثل ذاكرة الإنسان، حتى تنشط وتعاد لها الحيوية والقدرة على استعادة الماضي وتمثّله، تحتاج إلى العقل كآلة وأداة تدبير وتسيير وتَحَكم، فجميع القوى النفسية والروحية معلقة بالعقل. والعقل بالنسبة للأمة هو الدولة، كما كان يَنْظُر الفيلسوف الألماني هيغل. فعندما راحت السلطة القائمة اليوم في الجزائر تعتمد أحداث مايو/أيار 1945، يوما للذاكرة الوطنية، تكون بذلك قد فوّتت فرصة تاريخية على الأمة، لكي تبعدها عن الذاكرة الجماعية وآلتها، إلى مناسبة من المناسبات التي تحتفل بها كل سنة، بعيدة كل البعد عن التاريخ وحيويته، لأن التاريخ يتفاعل مع الدولة كعقل للأمة وقوتها الفاعلة.
ولعلّ ما يعدم حق السلطة في عدم احتكار صناعة الأحداث التاريخية، واحتكارها هو هزيمتها النكراء في تأسيس الدولة ذات الشخصية الاعتبارية، التي تكتفي بذاتها بعيدة عن حكم العسكر، وقريبة جدّا من إرادة الشعب. وعليه، فلا ذاكرة لأمة بلا دولة أو عقل.
الحقيقة، أن اعتماد أحداث 1945، كيوم للذاكرة الوطنية، فيه افتئات على الرأسمال الرمزي للأمة، واستغلال غير مناسب لسلطة لم تتأسس كدولة، بمقوماتها وماهيتها وهويتها، بل قامت على الاستغلال والاحتكار والاستئثار بقيم ومبادئ ومُثُل تاريخ الحركة الوطنية والثورة التحريرية، وليس أخيرا الحراك الجماهيري الرائع. إن عملية إدراج الأحداث والوقائع، في غياب دولة القانون والحق، هو استنزاف وهدر لإمكانات تاريخية للأمة والمجتمع، لا يساعد إطلاقا في تمتين أواصر الوحدة الوطنية، بقدر ما يفَتِّتُها ويفككها. فقد تبين أن الرأسمال الرمزي، كما حدده المفكر الفرنسي بيير بورديو، إسْمَنت حقيقي لصهر الأمة مع تاريخها، ومن ثم مساهمته القوية في دعم أركان المجتمع وحياة الأمة، المادية والمعنوية، وأن أي استغلال لرموز الأمة بعيدة عن روح الجماهير، ووعي المواطنين هو امتهان لذاكرتها وإضعاف لقوة حفظها. وللوقوف على مدى الدمار الذي تعاني منه الذاكرة الجزائرية، بسبب احتكار السلطة لوقائع تاريخ الحركة الوطنية وثورتها، يجب التذكير، لمن يَتَذَكَّر أويَذَّكر، أن اعتماد تاريخ أحداث مايو 1945، هو سياق لتمرير مسودة الدستور الحالي. فقد جرت العادة، خاصة عند هذا «السمسار القانوني» أن يمرر ويفوّت ملفاته المريبة عبر ابتلاع، من دون هضم، الرموز الوطنية و»التَّكَلف» الفجّ باحترامها الكاذب. فقد جرى الأمر نفسه مع دستور بوتفليقة البائد، التنويه بالنشيد الوطني ومقاطعه الخَمْسة، ومسألة تبجيل العَلَم الوطني، لما تعلق الأمر بتمرير تعديل الدستور، الذي يعفي رئيس «دولة العصابة» من الالتزام بعهدتين فقط.
ولعلّ هذا الشاهد يكفي لوحده لإثبات مدى تلاعب السلطة برموز الأمة وتاريخها، وأن كل تصرفاتها تصب في نهاية المطاف في ذاكرة النسيان، لأن تاريخ ما بعد الاستعمار كلّه، يأبى الدخول إلى مقررات وبرامج وكتب مؤسسات التعليم الوطني. فلا يزال تاريخ الاستعمار يغطي على «تاريخ» الاستقلال» ولا تزال «السلطة « تصنع «الأوهام والأساطير» بعيدا عن عقل الأمة، وتحاول أن تُرَسِّمّها عنوة على الشعب، وتفرضها فرضا على تلافيف ذاكرة مجروحة، على رأي الفيلسوف الفرنسي بول ريكور. الواقع، أن الجزائر تعاني من ذاكرة مجروحة، لأنها تخزن ما يأباه، ويرفضه التاريخ اللاحق على الاستقلال. وقائع هذا التاريخ، كما تغذيه السلطة، كله يحيل على الكراهية والحقد والضغينة وعدم المصالحة، ليس لأن تاريخ الاستعمار يستأهل ذلك، بل هو تَصَرف يَقِي عناصر السلطة نفسها، من أي مزاحمة لها في استغلال منافع ومزايا وخيرات فرنسا. فأصل خطاب الكراهية هو التلويح إلى غير مراده، ولفت نظر إلى غير ما يجب أن ينظر إليه. فقد استثمرت السلطة القائمة في المجال الفرنسي، واحتكرت حصاده، مستخدمة خطاب الكراهية الذي يصرف عنها من يزاحمها في ذلك. نعم هو الاستغلال على أعلى صعيد، تتواطأ فيه الأضداد: مستعمر الأمس مع نظام سلطوي اليوم، ويبقي الباب مشرعا على مطلب الاستقلال، كما يطالب به الحَرَاك.
لا يزال تاريخ الاستعمار يغطي على تاريخ الاستقلال، ولا تزال السلطة تصنع الأوهام والأساطير، بعيدا عن عقل الأمة
الجزائر، وفق التجربة المترسبة إلى اليوم، سلطة تراثية patrimoiniale، أي قائمة على احتكار تراث الأمة وتاريخها كلّه، تعوّض به ما لا تستطيع صنعه وإبداعه، فليس للنظام القائم منذ الاستقلال ما يتباهى به ويفتخر، لأن كل إنجازاته آلت إلى دمار وخراب، بل كل المدن ومؤسسات الدولة والمجتمع، صارت بلا هوية، مجرد بنايات عشوائية تشوه المنظر العام، وتكشف هشاشة البناء برمته. السلطة التراثية القائمة في الجزائر، لا تستحي من أي شيء حتى من أولئك الذين تعاديهم، فهي اليوم أقرب صديق ورفيق ومسعف لفرنسا، حتى إن أدعت خلاف ذلك، حتى لا يزاحمها الشعب الذي يريد أن يخرج من جحيم «الوطن» كما أن السلطة القائمة لا تستحي من تبني الحراك نفاقا، حتى إن كان يعاديها على الخطوط كافة، ويطالب بسقوطها كأفضل طريق إلى الخلاص والنجاة. اعتبار نظام الحكم في الجزائر سلطة تراثية، خاصة في وجهها الأخير، حيث طفا إلى السطح بشكل بارز: قيادة الأركان ضد نفسها، يكشف من جملة ما يكشف أن خلفية الصراع والخلاف القاتل بين القوى العسكرية، هو دائما حول تراث الأمة المادي منه واللامادي، خاصة منه الأرض، الموارد الطبيعية والريع البترولي ومناجم الصحراء ومعادنها، فضلا على احتكار سَرْدية الثورة التحريرية الكبرى دونما وجه حق. النظام القائم على الاحتكار في ما هو مادي وغير مادي من تراث الأمة ليس له ما يقدم بعد الإخفاق المرَوَّع في إرساء معالم الدولة الحديثة، التي تفلت من احتكار الأشخاص الطبيعية، ونحن لا نزايد في تقييم الوضع في الجزائر على هذا النحو، لأننا وصلنا إلى مرحلة من المراحل، التي دخل النظام في صراع مع نفسه، وأن القضاء «كسلطة سياسية» يشهد على المحاكمات التي طالت كل القيادة العليا للجيش، على مرأى ومسمع من العالم كلّه والقصة ليست إلا في مقدماتها الأولى. فقد وصلت السلطة إلى درجة من الحكم، استنزفت فيه الموارد المادية عبر الاحتكار الفاحش للعقار، والبناء العشوائي للمدن والأرياف، كما استغلت معالم وأثار ورموز تراث الأمة، ودخلت في صراع داخلي، لا يمكن أن تنجو منه بعد التصفية الكاملة لمقدراتها التراثية، فقد كانت الجهة التي تستنزف خيرات البلد وإن بإشراك محتشم لبعض الرَّعية، وأنها هي التي تؤمن دورة الاحتكار والاستغلال التجاري والاقتصادي، بحيث يصب في نهاية المطاف في الخارج، خاصة لدى محتل الأمس. اكتملت الصورة على أن تاريخ الجزائر لما بعد الاستقلال هو تاريخ لمرحلة الاستعمار الجديد. فما زالت الذاكرة الجزائرية تحتفظ بآثار وبقايا الوجود الفرنسي في الجزائر وفي فرنسا، بينما لا يوجد في جعبة الذاكرة الجزائرية أي من بقايا صور الماضي ومعالمه، لما بعد الاستقلال: حالة من ذاكرة النسيان الجمعي.
كاتب وأكاديمي جزائري
نحن نعيش ليس نسيان الذاكرة بل فقدان الذاكرة. نحن نعيش الموت السريري. نعيش الخراب و الدمار . أمة تنهار بقيمها و تاريخها. نعيش البؤس و اليأس. لا أحد فينا يفكر في المستقبل. بل نعيش يومنا المر و الأليم.
بلد خاو على عروشه.
خربناه بأيدينا و لا بأيدي اعداءنا.