تكرّم صديق يمني، مقيم في العاصمة الإندونيسة جاكرتا، فأرسل لي نسخة ورقية من «ذاكرة للنسيان»، كتاب محمود درويش النثري الشهير، في ترجمة إندونيسية نُشرت العام الفائت 2019؛ لم تعتمد الأصل العربي للنصّ، بل الترجمة الإنكليزية التي أنجزها إبراهيم مهوي وصدرت عن منشورات جامعة كاليفورنيا، سنة 1995. والصديق الكريم يعرف، بالطبع، أنني لا أفقه مفردة واحدة من اللغات المالاوية كافة، لكنه في المقابل يعرف اهتمامي الشديد باقتناء إصدارات درويش في طبعاتها المختلفة، وفي ترجماتها إلى أيّ وكلّ لغة؛ لأسباب ليست بحثية فقط، بل شخصية وذاتية كذلك. (كان كرم مماثل من الصديق مهوي قد وفّر لي نسخة أولى من الترجمة الإنكليزية في حينه، ممهورة بإهداء كريم بدوره).
ومن المعروف أنّ درويش اعتاد كتابة المقال النثري، في موضوعات وجدانية وأدبية وسياسية شتى، جُمع بعضها في الإصدارات التالية: «شيء عن الوطن»، 1971؛ «يوميات الحزن العادي»، 1973؛ «وداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلام»، 1974؛ «في وصف حالتنا»، 1987؛ مجموعة «الرسائل» المتبادلة مع الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، 1990؛ «عابرون في كلام عابر»، 1994؛ و«حيرة العائد»، 2007، الذي ضمّ منتخبات من مقالاته على امتداد عقدين.غير أنّ عمله النثري الأشهر يظلّ «ذاكرة للنسيان»، في تقديري؛ وكان قد نُشر أوّلاً في فصلية «الكرمل»، العدد المزدوج 21ــ22، 1986 (تحت عنوان: «الزمن: بيروت، المكان: يوم من أيام آب 1982»)؛ قبل أن يصدر في صيغة كتاب، سنة 1987. وهو نصّ شبه روائي يصوّر فيه درويش تفاصيل العيش اليومي تحت الحصار الإسرائيلي لبيروت سنة 1982، على نحو مذهل في بساطته وعمقه وشاعريته العالية. وقد اشتهر كثيراً ذلك المقطع الذي يصف فيه درويش نضاله المرير في الانتقال، تحت القصف، من صالون البيت إلى المطبخ لإعداد فنجان قهوة، وكيف تحوّل غلي القهوة إلى طقس إنساني فريد واستثنائي.
يسعى درويش إلى ملمح جلي يحيل الكتابة ذاتها إلى استعارة مهيمنة. إنه يعرض علينا نصّاً متعدد الأصوات مثل مرآة منكسرة، استُجمعت كي تقدّم للناظر إمكانيات متنافسة من الوضوح والانكسار
وفي مقدمته للترجمة كتب مهوي: «من أجل نقل جسامة الغزو والحصار، قطب النسيان، يضع الشاعر فعل الكتابة ذاته تحت الحصار، لئلا تفلح القوّة السحرية للكلمة في إغواء القرّاء نحو علاقة مريحة مع النصّ». ويضيف أيضاً: «يسعى درويش إلى ملمح جلي يحيل الكتابة ذاتها إلى استعارة مهيمنة. إنه يعرض علينا نصّاً متعدد الأصوات مثل مرآة منكسرة، استُجمعت كي تقدّم للناظر إمكانيات متنافسة من الوضوح والانكسار. وعلى الصفحة تتقاطع أنواع مختلفة من الكتابة: القصيدة، شعراً ونثراً؛ والحوار، والاقتباس التوراتي، والتاريخ، والأسطورة، ثمّ الأسطورة في إهاب التاريخ، والسرد القصصي، والنقد الأدبي، والرؤى الحلمية. كلّ مقطع يمكن أن يستقلّ بذاته، ومع ذلك فكلٌ منها يكتسب معنى علائقياً أو جدلياً، وتاريخاً، متواشجاً مع السياق الذي تؤمّنه له مقاطع أخرى في العمل».
وفي استهلال للترجمة، خاصّ بطبعة 2013، كتب الروائي والشاعر العراقي سنان أنطون: «قد يكون مغرياً للكثيرين أن يقرأوا هذا الكتاب ضمن سياقه المباشر كوثيقة تاريخية و/ أو مذكرات حرب. غير أن النصّ يختزن أكثر من ذلك وقد ارتقى أبعد من سياقه الابتدائي (من دون أن يكفّ عن الإشارة إلى مساره). إنه يبلور ديناميات الموت والدمار التي خلّفتها قوّة عسكرية، والإرادة الإنسانية في المقاومة والبقاء: أن نكون، أو نكون، كما يكتب درويش. هذه، مؤكد، حبكة عتيقة لكنها تُنفّذ في العقود القليلة الماضية بطراز استثنائي من البربرية. بيروت ذاتها وشقيقاتها المدن العربيات حوصرت وقُصفت مرّة بعد أخرى من جانب إسرائيل أو الولايات المتحدة (بغداد في سنة 1991 ثمّ 2003، وبيروت في 2006، وغزّة في 2008ــ2012). الاحتلال والحصار يتواصلان كلغة موت تستخدمها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين، خاصة في غزّة، حيث هذا ‘الفضاء قفص’»، حسب تعبير درويش.
تهمني، كذلك، الإشارة إلى دراسة متميزة تماماً، كتبها سيموني سيبيليو منسّق دراسات الشرق الأوسط في جامعة فينيسيا؛ بعنوان «رائحة الأرض: محمود درويش وجيو ــ شعريات القهوة». وهذه مادّة تجمع بين الرصانة الأكاديمية والطرافة التحليلية، إذْ أنها تبدأ من عنصر القهوة في «ذاكرة للنسيان»، لكنها تمضي أبعد بكثير، وأعمق؛ إذْ تتقصى جماليات استحضار القهوة والبنّ في العديد من قصائد درويش، وتربط تمثيلاتها بمعطيات جغرافية وبشرية وتاريخية، مادية ومجازية على قدم المساواة. والمرء يتذكر، هنا، على سبيل المثال، ذلك المقطع الشهير من قصيدة «سرحان يشرب القهوة في الكفاتيريا»: «ورائحة البنّ جغرافيا/ ورائحة البنّ يدْ/ ورائحة البنّ صوتٌ ينادي.. ويأخذ/ ورائحة البنّ صوت ومئذنة (ذات يوم تعود)/ ورائحة البنّ ناي تزغرد فيه مياه المزاريب ينكمش الماء/ يوماً ويبقى الصدى»…
وفي العودة إلى الترجمة الإندونيسية للنصّ، وبمعزل عن الاهتمام الآسيوي العامّ بشعر درويش، لست أرى توقيت صدور هذه الترجمة بعيداً عن السياقات المعاصرة للبربرية الإسرائيلية، وراعيتها الأمّ البربرية الأمريكية؛ ليس في حصار غزّة والحروب الإسرائيلية المفتوحة ضدّ القطاع، فحسب؛ بل كذلك في سياسات الانحياز المطلق التي ينتهجها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لصالح بنيامين نتنياهو شخصياً، قبل الكيان الصهيوني في واقع الأمر. كأنّ هذه المبادرة الإندونيسية تقول إنّ ذاكرة بيروت 1982، كما جسّدها نصّ درويش الفريد، ليست مرشحة للنسيان؛ أو هي، على العكس، مفتوحة أبداً على التذكار!
/إنه يعرض علينا نصّاً متعدد الأصوات مثل مرآة منكسرة، استُجمعت كي تقدّم للناظر إمكانيات متنافسة من الوضوح والانكسار/..
كان عليه أن يكتب هذه العبارة، حتى تكتمل جماليتها /ومنطقيتها/، هكذا:
/إنه يعرض علينا نصّاً متعدد الانعكاسات مثل مرآة منكسرة، استُجمعت كي تقدّم للناظر إمكانيات متنافسة من الوضوح والانكسار/.. !!
وافر الشكر على مقال يعلمنا الكثير عن محمود درويش الكبير